عادت أنظار العالم تتجه إلى فرنسا، إثر الحادث الإرهابي المروع الذي وقع في باريس يوم الجمعة 16 أكتوبر الحالي، عندما قام يافع شيشاني عمره 18 سنة، بقطع رأس المعلم صامويل باتون في وضح النهار أمام الناس، لأنه اختار أن يستخدم الرسومات نفسها، التي نشرتها مجلة «شارلي إبدو» التي تسيء للرسول الكريم محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والسلام، والتي أدت إلى العملية الإرهابية المروعة في السابع من يناير 2015 وقُتل فيها عدد من صحافيي المجلة ورساميها وشرطيين وأربعة يهود بالإضافة إلى منفذي العمليتين الثلاثة.
وكما هزت جريمة «شارلي إبدو» فرنسا والعالم، حيث انطلقت مظاهرة مليونية يوم 11 يناير 2015 يتقدمها نحو خمسين زعيما عالميا، من بينهم مجرمو حرب وطغاة ومصدرو إرهاب ومنافقون عرب وغير عرب، فقد هزت هذه الجريمة المجتمع الفرنسي وانطلقت مظاهرات هذه المرة في معظم المدن الفرنسية تأبينا للمعلم وإدانة للإرهاب، الذي أطلق عليه فورا «إرهاب إسلامي» حيث قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون: «إن حادث الجمعة يحمل كل بصمات هجوم إرهابي إسلامي.. إن الضحية قُتل لأنه درّس حرية التعبير لطلابه».
وفي الوقت الذي ندين هذه العملية الإرهابية، ونعتبرها هجوما على كل الأبرياء، ونعتبر التطرف والإرهاب لا دين ولا عرق له وأول ما يسيء للإسلام والمسلمين، إلا أننا نرفض الإساءة إلى أي رمز ديني، تحت حجة حرية التعبير. فخطاب الكراهية والتمييز والعنصرية، لا علاقة له بحرية التعبير. والفرق بين حرية التعبير وخطاب التحريض والكراهية يتمثل في مثل هذه النتائج الوخيمة. فما أن تقع مثل هذه العمليات المرفوضة دينيا وخلقيا وقانونيا وإنسانيا، حتى يصدر الغرب كله حكما بالإرهاب، ليس على الشخص نفسه، كما يفعلون في حالة كون الإرهابي غير مسلم، بل على كل المسلمين في العالم، بل وعلى الإسلام نفسه. هذه العملية وأمثالها تعيدنا لبحث مسألة حواضن الإرهاب والتطرف، وانتشار الجماعات الغاضبة، التي صُنع كثير منها في مختبرات دول غربية، لتقوم بدرو رُسم لها لتبرير التدخل في شؤون العالمين العربي والإسلامي، بحجة اجتثاث الإرهاب، وتجفيف مصادره وهزيمة القواعد والدواعش وأمثالهما «في ديارهم قبل أن يصلوا إلى ديارنا» كما كان ينظر برنارد لويس صاحب مصطلح صدام الحضارات الذي استعاره منه صامويل هنتنغتون وكتب مقاله المشهور عام 1993 ثم حوله إلى كتاب عام 1996.
هذه الغطرسة تخلق ردات فعل في الاتجاه المعاكس: عنصرية تغذي الإرهاب وإرهاب يغذي العنصرية فنصبح أمام مشهد خطير: متطرفون إسلاميون يريدون أن يهدموا كل ما جاء به الغرب، ويضعوا كل من يخالفهم الرأي في سلة واحدة، مقابل مجموعات يمينية متطرفة تضع الإسلام والمسلمين كلهم في دائرة الاتهام والعداوة والتشكيك، ويجب التخلص منهم جميعا بالطرد أو التطهير العرقي، أو بشن الحروب، أو بالتضييق عليهم والتمييز ضدهم، وتقليص الفرص أمامهم. هذان المشهدان متجهان نحو مزيد من التصادم، زيادة العنصرية ضد العرب والمسلمين، يقابل ذلك زيادة عدد المتطرفين والحاقدين والمقهورين والمهمشين. وكي نخرج جميعا من عنق الزجاجة التي خلقها أصحاب نظريات تصادم الحضارات، ووقع ضحيتها ملايين الأبرياء، وأفرزت ملايين الغاضبين والمتطرفين والتكفيريين، علينا أن نفكر بموضوعية، ونقسم المسؤولية، ونقول إن اجتثاث ظاهرة الإرهاب، لا يمكن أن تتم بمعزل عن اجتثاث ظاهرة التمييز والعنصرية والإسلاموفوبيا والتهميش والإهانة وتحقير الرموز الدينية، والاستخفاف بمشاعر الملايين من البشر، الذين يغضبون لإهانة رسولهم أو أي رمز ديني. هاتان ظاهرتان تغذي الواحدة الأخرى، وكي نتخلص من الظاهرتين معا على المجتمع الدولي أن يتحمل المسؤولية في وقف العنصرية والتمييز من جهة، ووقف التطرف والإرهاب من جهة أخرى.
اجتثاث ظاهرة الإرهاب، لا تتم بمعزل عن اجتثاث ظاهرة العنصرية والإسلاموفوبيا والاستخفاف بمشاعر الملايين وإهانة رموزهم الدينية
إن أصعب ما يؤلم العرب والمسلمين هو التفريق في قيمة الدماء، واعتبار الدم الغربي أغلى بكثير من دماء العرب والمسلمين. وسأضرب مثلا واحدا فقط هو ما يجري لمسلمي الروهينغا في ميانمار منذ عام 2016. لم نجد الحرقة نفسها والقهر على من قتلوا وشردوا في ولاية راخين، حيث يرمى الأطفال في النار أمام عيون أمهاتهم، ويتم اغتصاب الفتيات وقتل الرجال وطردهم من أماكن سكناهم، لكونهم مسلمين. لم يتهم الدين البوذي بأنه دين إرهاب، ولم يتحرك المجتمع الدولي لمثل هذه الجرائم، ولم يصدر عن مجلس الأمن أي قرار. هذا مثل واحد فماذا عن فلسطين والعراق والبوسنة وكشمير والصومال ومالي وغيرها الكثير.
من جهة أخرى فإننا نرفض تكرار الإدانة اللفظية للعمليات الإرهابية، من قبل الدول العربية والإسلامية، وعلى المعنيين بمحاربة الإرهاب فعلا لا قولا، أن ينظروا حقيقة في المرآة ليروا هذه الدول، التي لا تنتمي للعصر الحديث، لا من حيث مناهج التعليم الحديثة، ولا من حيث الحكم الرشيد، ونظام المساءلة والتنمية وترشيد الإنفاق، ومنع الفساد. فضائياتها العديدة ودعاتها المبرمجون على مقاس النظام، يستخدمون كل وسائل التجهيل والاهتمام بقشور الدين، وتقديم الفتاوى التي تمجد الطغاة، وتتستر على فسادهم، وتبرر الخيانة والغدر بالأخ والجار. هناك دول مازالت تنتمي للعصور الوسطى فكرا ونظاما وممارسة. وأعتقد أن اغتصاب السلطة عن طريق الانقلاب، أو التوريث الممجوج، أو الانتخابات المزورة، وتكميم الأفواه، أشكال قبيحة من إرهاب السلطة ضد مواطنيها. ومن يرهب مواطنيه لا يستطيع أن يتبجح بمحاربة الإرهاب.
مطلوب من الدول العربية والإسلامية إعادة النظر في كل المناهج التدريسية، خاصة في دول الخليج، التي ترسم صورة غير واقعية وغير حقيقية للتاريخ الإسلامي، الذي تصوره على أنه خال من كل عيب، وأنه تاريخ قائم على الحرب بين المسلمين والكفار، حيث تنتهي كافة المعارك بانتصار المسلمين. كما أن هناك الكثير من الإشارات التي تحقّر الآخر والأديان الأخرى وغير المسلمين، وتقسم العالم إلى دار إيمان ودار كفر.
إن التربية في المراحل الأولى هي التي تشكل شخصية الطفل وتحدد مساره ووعيه ونهجهه. وفي ظل هذا الانغلاق الخطير ينمو التعصب والكراهية، ويتم تقويل الآيات والأحاديث ما لم تقله، وهو ما ينتج جيلًا غاضبا غير واعٍ، ولديه استعداد للانحراف، إما نحو التطرف الديني أو نحو الإدمان والاستهتار وكره الذات وتقليد الغرب في مساوئهم لا في إبداعاتهم. من واجب من يسمون «علماء الإسلام» وأصحاب الفتاوى وكبار الباحثين الإسلاميين، لعب دور حقيقي ومتقدم في تعميم ثقافة التسامح وقبول الآخر، خاصة في ثلاثة مواضيع: المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة بين أتباع الإسلام وأتباع الديانات الأخرى، والمساواة بين أبناء البلاد والأقليات، بدون تمييز مبني على العرق أو الدين أو الأصول. إنها الشروط الأساسية للمواطنة المتساوية، وما عدا ذلك فلا يتشدقن أحد بالوحدة الوطنية والمواطنة المتساوية. مسؤولية أخرى تقع على عاتق الأقليات المسلمة في الدول الغربية، يفرون من بلاد الاضطهاد إلى الغرب للاستمتاع بأجواء الحرية والفرص الواسعة وحرية العبادة والتعبير والتجمع من جهة، ثم يريدون أن يقيموا معازل داخل تجمعاتهم، يمارسون تعدد الزوجات ولبس البرقع، وأحيانا يرتكبون جرائم شرف ضد بناتهم، ويسبون من على المنابر ديار الكفر والكفار. إذا كانوا يرون فيها ديار الكفر والكفار فليعودوا إلى بلادهم لإقامة شعائر الدين كما يفهمونها.
أما الدول الغربية، خاصة الدول ذات التجربة الكولونيالية الدموية، فمسؤوليتها أن تتوصل إلى قناعة أن استئصال الإرهاب لا يكون بالحلول الأمنية، والحرب والاحتلال والعدوان ودعم الطغاة. هذه الدول مسؤولة ولو جزئيا عن استفحال الظاهرة للطريقة الرعناء التي تعاملت فيها مع العرب والمسلمين، خاصة في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها الكثير. هل نسوا أنهم خلقوا ظاهرة الإرهاب أيام محاربة السوفييت في أفغانستان، عندما كان المتطوعون يتدفقون للجهاد. فلما أنجزوا مهمتم، وتركوا لمصيرهم، تحولوا بين ليلة وضحاها إلى إرهابيين يجب قتلهم واستئصالهم، فانتشروا في الأرض بما يحملون من غضب. إسرائيل عندما تحاصر الفلسطينيين وتقتل أطفالهم وتصادر أرضهم وتهدم بيوتهم، لا توصم بالإرهاب، بل ذلك «دفاع عن النفس» أما الفلسطيني إذا دافع عن أرضه وعرضه وماله وبيته فهو إرهابي ذميم، أي خطل أكثر من هذا؟ يجب ألا يقتصر مفهوم الإرهاب على ما تمارسه الجماعات والأفراد، بل يجب أن يتم توسيع معنى المصطلح ليشمل إرهاب الدولة. إن مناهضة الاستعمار والعنصرية والاحتلال، أمر مشروع وقانوني وأخلاقي ولا يحق لأحد أن يخلط ذلك بالإرهاب الذميم. للبحث عن حل ناجع للإرهاب لابد من البحث عن الجذور التي ينمو فيها ويترعرع. إن جذور الظاهرة كامنة في القهر والاضطهاد والقمع واستعمار الشعوب، ومصادرة خيراتها ودعم أنظمة الفساد وشيطنة القادة الوطنيين ومحاصرتهم، وتدبير الانقلابات على الحكومات الوطنية، واغتيال الزعماء، وتدبير الفتن بين الشعوب، بل بين مكونات الشعب الواحد وكل هذا لن يولد إلا الغضب والكراهية. إن أخذ صور تذكارية والرقص بالسيف والتحاضن مع قادة مكروهين من شعوبهم، لن يزيد ذلك الحقد إلا تأجيجا.
هذه أفكار أطرحها للتأمل في ظاهرتي العنصرية والإرهاب، اللتين لا تعرفان دينا ولا جنسا ولا عرقا، ولكن المؤكد أن الواحدة تغذي الثانية ولا نستطيع أن نحل واحدة بدون الأخرى.
عبدالحميد صيام
القدس العربي