ليس ما يحدث في العراق سوى مضاعفات الغزو الأميركي الذي قادت إليه تحولات هائلة، صارت معقدة جداً في الشرق الأوسط. وقمة التبسيط رؤيتها تتحرك في اتجاه واحد أو اثنين، وسط التداخل بين الواقع والخيال. وموجزها في خمسة خطوط أساسية:
الخط الأول بدأ عام 1979 بثلاثة أحداث دراماتيكية: الثورة الإيرانية التي أمسك بها الإمام الخميني وجعلها إسلامية شيعية. سلام كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل والذي أغلق طريق الخيار العسكري إلى اتفاقات مع أطراف عربية أخرى، وانسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان تحت ضغط “المجاهدين” الذين منهم “الأفغان العرب” و”طالبان” و”القاعدة”.
الخط الثاني بدأ بانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وانعكاساته في كل مكان، وسط تصرف الأنظمة في الشرق الأوسط كأن الحرب الباردة لم تنتهِ بانتصار الغرب.
الخط الثالث بدأ بتفجير “القاعدة” برجَي التجارة العالمية في نيويورك يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وما تلاه من ردود فعل قادت أميركا إلى احتلال أفغانستان وإعلان “الحرب على الإرهاب” وتوالي الكوارث في العالم العربي والإسلامي.
الخط الرابع بدأ بالغزو الأميركي للعراق عام 2003 وإسقاط دولته وحل جيشه بحجة أن الرئيس صدام حسين يملك “أسلحة دمار شامل” ويدعم “القاعدة”، ما تبيّن أنه غير صحيح. إذ يقول المحقق الفيديرالي الأميركي اللبناني الأصل جورج بيرو الذي حقق مع الرئيس العراقي مؤكداً له: “ليس لدينا أسلحة دمار شامل، لكننا أوحينا أننا نملكها لئلا نضع العراق في موقف ضعيف. إيران أخطر علينا من أميركا. وأسامة بن لادن طلب منا عشرة ملايين دولار فلم نعطه شيئاً”.
لكن الغزو الأميركي فتح الباب واسعاً لتوسع النفوذ الإيراني في العراق وأفغانستان ولبنان. وتفاعلاته مع عوامل داخلية في كل بلد، قادت إلى الخط الخامس وما سمي “الربيع العربي” عام 2011 . وما تحول بقوة التدخل الإقليمي والدولي ودعم التنظيمات الإسلامية المتطرفة إلى “شتاء إسلامي” وحروب أهلية شلّت سوريا وليبيا واليمن، ثم جعلت “داعش” يعلن “دولة الخلافة” في مساحات واسعة من العراق وسوريا.
وتحت عنوان الحرب على داعش عادت أميركا عسكرياً إلى العراق ثم إلى شرق الفرات في سوريا، وأعلن المرجع الشيعي الأعلى في النجف علي السيستاني “الجهاد الكفائي”. وعلى أساس الفتوى صار الحشد الشعبي، الذي كان موجوداً أصلاً عبر ميليشيات تمولها طهران وتسلحها، ثم ظهرت إلى جانبها تنظيمات أخرى بعد فتوى السيستاني. لكن محاربة داعش، على أهميتها، لم تكن سوى واحدة من مهمات هذا الحشد. أما المهمة الأهم، فهي خدمة المشروع الإيراني، بحيث بقي الحشد في المحافظات المحررة بعد هزيمة داعش. لا بل بدأ يعرقل مهمة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ويقصف بالصواريخ المطار والمنطقة الخضراء حيث السفارة الأميركية مصراً على انسحاب القوات الأميركية التي تقول الحكومة إنها لا تزال بحاجة إليها. فضلاً عن أن قوى في الحشد تولّت خطف الناشطين في الحراك الشعبي وقتلهم وقمع البقية في الشارع. وخطفت أخيراً 25 شخصاً في محافظة صلاح الدين وقتلت ثمانية منهم.
الحراك الشعبي الذي تصادف ذكراه الأولى في هذه الأيام، كان بداية ثورة اجتماعية عبر دور المرأة في الشارع والجرأة على التقاليد المتزمتة. وهو انطلق ضد المحاصصة الحزبية في السلطة والهيمنة الإيرانية على البلد، رافعاً شعار العبور من الانقسامات المذهبية والإتنية إلى الوطنية العراقية التي هي مشروع الكاظمي أيضاً. أما الحشد الشعبي، فإنه يطلق الصواريخ على القوات الأميركية، لا من باب الوطنية العراقية بل لتنفيذ ما تطلبه المرجعية الإيرانية وهو الانسحاب الأميركي من “غرب آسيا” ضمن مشروع تمدد طهران في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
والمفارقة أن إيران فرضت “تشريع” الحشد الشعبي ودفع الرواتب له واعتباره جزءاً من القوات المسلحة العراقية ولو كان منفصلاً عنها وتابعاً للولي الفقيه. لكن من الصعب الهرب إلى النهاية من صعود الوطنية العراقية التي هي عماد الحراك الشعبي في الشارع وقوة حكومة الكاظمي وأساس دور العراق وموقعه.
يقول ديفيد ريميك في كتاب “قبر لينين” إنه عندما يتوقف التاريخ عن أن يكون في خدمة الحزب يصبح الحزب محكوماً بالفشل”. ولا مجال للاستمرار في اللعب بالتاريخ لكي يخدم مشروعاً إمبراطورياً في زمن العودة إلى الدولة الوطنية.
رفيق خوري
اندبندت عربي