رغم أنهما حليفتان مقربتان، لم تكن العلاقات الدبلوماسية بين برلين وواشنطن سلسة على الدوام. فقد عارضت ألمانيا بشدة حرب العراق عام 2003، كما أن الكشف عن عمليات تجسس عام 2017، والخلاف بشأن التعامل مع إدوارد سنودن الذي سرب معلومات سرية للغاية من وكالة الأمن القومي الأمريكية، كانا اختبارا للصداقة طويلة الأمد بين المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس السابق باراك أوباما.
إلا أن هناك اختبارا لم يكن له مثيل واجهته العلاقات بين البلدين وهو: رئاسة دونالد ترامب.
فقد دأب ترامب على تأكيد أن برلين “مقصرة” بسبب عدم وصولها للهدف الذي تعهد به شركاء حلف شمال الأطلسي (ناتو) بأن يكون الإنفاق الدفاعي عند 2% من الناتج المحلي الإجمالي. كما اتهم ألمانيا بالنفاق على خلفية مشروعها الضخم لخط أنابيب الغاز مع روسيا، وفرض رسوما جمركية على الاتحاد الأوروبي، وألمانيا بطبيعة الحال، بسبب العجز التجاري مع الولايات المتحدة.
كما كان هناك تهديد دائم يلوح به البيت الأبيض وهو فرض رسوم جمركية على السيارات، وهي إحدى الصادرات الألمانية الرئيسية.
وتقول سودها ديفيد-ويلب، وهي خبيرة في السياسة الخارجية الأمريكية مقيمة في برلين ومسؤولة في مركز “صندوق مارشال الألماني”: “ترامب لا ينظر إلى حلفائنا باعتبارهم أصولا قيّمة، وإنما يعتبرهم عبئا بصورة أكبر، وشكك علانية فيما إذا كان الاتحاد الأوروبي عدوا وليس حليفا”.
كما تقول ناتالي توتشي، المستشارة الخاصة لمسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، إن ترامب يستهدف ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، لأسباب من بينها أنه يرى أن الاتحاد الأوروبي إنما هو بصورة أساسية “امتداد للقوة الألمانية”.
وأضافت توتشي أن نجم تلفزيون الواقع الأمريكي الذي تحول إلى قائد أعلى لديه كراهية “عميقة” تجاه ألمانيا.
وتضيف ديفيد-ويلب: “في البداية، أعتقدُ أن ترامب جاء ببعض النوايا الحسنة التي مست وترا حساسا لدى الناخبين الأمريكيين”، في إشارة إلى الجهود الخاصة بإثارة موضوع الخلاف حول تقاسم الأعباء في حلف الناتو وقضايا أخرى قائمة منذ أمد طويل.
وتستدرك: “إلا أن الأمر وصل الآن إلى نقطة لم يعد فيها الاستئساد في الحديث مُجديا.. لقد أصبح مؤلما فقط”.
ولهذا السبب، يأمل الكثيرون في ألمانيا ألا يفوز ترامب بولاية ثانية بعد انتخابات الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر، وأن يبدأ خصمه الديمقراطي جو بايدن بإصلاح العلاقات.
ولكن حتى إذا ما فاز بايدن، فإن التوقعات تشير إلى أن هناك حدا لمدى الإصلاح الذي يمكن تحقيقه.
وفي مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية مؤخرا، قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إن “أي شخص يعتقد أن وجود ديمقراطيّ في البيت الأبيض سيعيد الشراكة عبر المحيط الأطلسي إلى ما كانت عليه من قبل، هو شخص لا يحسن تقدير حجم التغيرات الهيكلية التي حدثت”.
ويتفق معه وزير الخارجية السابق زيغمار غابرييل، ويؤكد على أن العلاقة بين برلين وواشنطن لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه.
وأرجع هذا إلى أن أوروبا، وألمانيا بالتبعية، فقدت تأثيرها العالمي لصالح آسيا على مدار العقود القليلة الماضية.
وقال لصحافيين من “رابطة الصحافة الأجنبية” في ألمانيا إن “الولايات المتحدة اليوم، وستظل على المدى البعيد، أقل اهتماما بأوروبا وأكثر اهتماما بمنطقة المحيط الهادئ”، وقد عكست رئاسة ترامب لنا “هذا التطور بشكل مبالغ فيه”.
وكما كانت ألمانيا بمثابة كيس ملاكمة لترامب يسدد لها اللكمات التي تعكس ازدراءه للنظام القائم على القواعد الراسخة، فإنه يبدو أن الشعور متبادل.
فقد أظهرت دراسة نشرها مركز بيو للأبحاث الشهر الماضي أن نظرة الشعب الألماني إلى الولايات المتحدة قد تراجعت لمستويات قياسية في ظل حكم ترامب، ووصلت لمستوى لم يتم تسجيله من قبل إلا في عام 2003 في ذروة التوترات بشأن غزو العراق.
كما تصدّر ترامب أكثر من مرة في استطلاع سنوي للأمور التي يخافها الألمان أكثر من غيرها، حتى أن المخاوف من أسلوبه في السياسة تغلبت على المخاوف من فيروس كورونا هذا العام.
وفي غضون ذلك، تراجع عدد الأشخاص الذين يهاجرون إلى الولايات المتحدة من ألمانيا. وأظهرت بيانات مكتب الإحصاء الاتحادي أن عام 2019 شهد هجرة أقل من عشرة آلاف شخص إلى الولايات المتحدة، وذلك للمرة الأولى منذ إعادة توحيد ألمانيا.
كما أثرت المخاوف بشأن سلامة الديمقراطية الأمريكية على صورتها لدى الألمان، حيث تتمتع الولايات المتحدة تاريخيا بمكانة مرموقة في أذهانهم باعتبارها دولة تقوم بالتحرير في زمن الحرب ومدافعةً عن الديمقراطية.
ويقر غابرييل بأن الولايات المتحدة فقدت جزءا من بريقها النموذجي كـ”مدينة فوق تل”.
ويضيف: “الديمقراطية الأمريكية موجودة منذ أكثر من مئتي عام؛ والألمانية منذ عام 1945 فقط، واضطررنا إلى الغرق في الدماء حتى نصل إلى تلك النقطة”.
وأكد على ضرورة عدم إعطاء أهمية كبيرة لنتائج الانتخابات الأمريكية.
وشبّه ثنائية ترامب-بايدن الحالية برحلة إلى الطبيب، وقال: “إذا كنت تعاني من مشاكل في القلب… وكان لديك طبيب لا يهتم بك على الإطلاق ولا يكترث لأمرك، فإنك تشعر بخيبة أمل شديدة. ثم يأتي طبيب آخر، وهو في هذه الحالة جو بايدن، يكون أكثر لطفا معك وأكثر ودا تجاهك. ولكن مشاكل قلبك لا تزال كما هي”.