يصعب إجراء حوار مفيد حول مفاهيم معينة في ظلِّ استخدام السياسيين الديماغوجي لها بوصفها مجرد شعارات أو “كليشيهات” في خطاباتهم، وفي أجواءٍ من شحن العواطف وتوتير الفضاء العام على نحوٍ يفسح المجال لانتشار الغوغائيات على أنواعها؛ سواء أكان بسبب التنافس الانتخابي بين اليمين واليمين المتطرّف في فرنسا، أم بسبب بعض الصراعات والتوترات على المستوى الدولي، في غير موقعٍ في محيط البحر المتوسط الذي يصل المسلمين بأوروبا، ويفصلهم عنها في الوقت ذاته. هذا هو حال مناقشة مفاهيم مثل حرية التعبير والتعددية والعلمانية والمسّ بالمقدسات في هذه الفترة.
وليست جريمة قتل المدرّس الفرنسي صمويل باتي الشنعاء، في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، على يد مهاجرٍ شيشاني، هو عبد الله أنزوروف، المناسبة الوحيدة التي أُثير فيها هذا النقاش في أجواء مشحونة تمنع إجراء الحوار على نحو مفيد، ولكنّه اتخذ أبعادًا جديدةً هذه المرة بسبب تورط الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مباشرة في الأمر، وذلك منذ خطابه في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، أي قبل وقوع الجريمة بأسبوعين؛ إذ أشار فيه إلى أزمة في الإسلام في كل مكان، مسيئًا استخدام المصطلحات. وقد أساء مثل هذا الاستخدام عدة مرات؛ لأنه يحاول الظهور في خطاباته بمظهر المثقف المتفلسف، كأنّ ذلك من متممات الزعامة المطلوبة في فرنسا. وفي الحقيقة، إنه سياسي مثل غالبية السياسيين، يحاول أن يتقن لعبة القوة واغتنام الفرص، ويخاطب الفرنسيين كي لا يخسر أصواتًا انتخابية محسوبة على اليمين المتطرّف. لكنّ ماكرون لا ينتقي الكلمات بعناية حين يخاطبهم؛ إذ يخلط بين نقد التطرّف ونقد الإسلام، وبين أزمة بعض المسلمين وأزمة الإسلام. إنه يخاطب الفرنسيين، لكنّ المسلمين يسمعونه في الوقت ذاته، فلا يعجبهم هذا الخلط، ولا الوعظ الاستعلائي، ولا المقام برمته؛ فالرجل رئيس دولة علمانية، وليست وظيفته تقييم الإسلام ولا المسيحية أو إبداء الرأي في أي دين.
يخلط ماكرون بين نقد التطرّف ونقد الإسلام، وبين أزمة بعض المسلمين وأزمة الإسلام
تخلّلت حالات معدودات العلاقات المعقدة بين شمال البحر المتوسط وجنوبه وشرقه في العقود الأخيرة، ظهر فيها أشخاص (مهووسون في رأيي) يتملّكهم شغفٌ ما باستعراض علمانية من نوعٍ مشوهٍ، أو إظهار حرية التعبير عبر الإساءة لنبي الإسلام، أو الاستعراض من أجل الظهور ونيل الشهرة عبر استفزاز الآخرين. وللممارسة المنشغلة بشخصية النبي العربي والافتراء عليها ورواية “أخبار” عنه خارج سياقها الحضاري والتاريخي، تراثٌ هامشيٌ في الثقافة الأوروبية؛ وهو ليس تراثًا علمانيًّا تحديدًا، كما أنه، في غالبيته، تراكمٌ عبر مراحل صراعٍ وحروب. ولكن في ظروف الفضاء العام المفتوح حاليًا، وثورة وسائل الاتصال والتواصل، ونشوء الثقافة الجماهيرية في المجتمعات الأوروبية والمسلمة، فإن هذه الممارسة تتخذ أبعادًا مختلفة، تميزها نوعيًا عن نشر الأضاليل في كتب يقرؤها عدد محدود من الناس.
لا شك في أنّ حرية التعبير من أركان الديمقراطية الليبرالية التي تقوم على القبول بالتعددية، والتي يؤرّخ لها بعض منظري الليبرالية (مثل جون رولز وغيره) خطأً، في رأيي، كأن جذورها تعود إلى التسامح الديني ودروس الحروب الدينية، فهناك تكمن جذور الدول الحديثة وقبول درجة من التعددية الدينية فيها، وليس التعددية الديمقراطية. وحتى لو صح تأسيسها على ذلك من ناحية المنشأ التاريخي، فهي لا تقوم عليه في منطق الديمقراطية الحاضر (أي منطق تبريرها لذاتها وإعادة إنتاجها لذاتها)، بل تقوم على الأسس نفسها التي تقوم عليها الديمقراطية الليبرالية المعاصرة، وهي: أولًا، المساواة الأخلاقية بين المواطنين بوصفهم ذوات قادرة على تشكيل أحكام بشأن الخير والشر، وبشأن مصلحتهم. ثانيًا، الحق في المشاركة في تقرير مصيرهم (بالانتخاب مثلًا وما بين الانتخابات)، والذي لا يمكن ممارسته من دون ضمان حرية التعبير. ثالثًا، وضع حدود لعسف السلطة، وهذا أيضًا غير ممكن من دون حرية التعبير والنقد، فضلًا عن الأداة الرئيسة وهي الرقابة المتبادلة ما بين السلطات. على كل حال، مهما تعددت الآراء في هذا الشأن، ثمة فرقٌ بين التعددية الديمقراطية، في صورتها الناجزة، وبين التسامح المستمد من تراث ديني بعينه. وهذا موضوع لا مجال للخوض فيه من دون استرسال طويل. ولكننا سوف نرى أن هذا التمييز مهمٌ، وأن التعددية الديمقراطية لا تُغني عن التسامح الديني وغير الديني، والذي قد يتمثل ليس فقط في احترام الرأي الآخر، بل أيضًا في احترام كرامة الآخر من دون أن يفرض فعل التسامح المطلوب، أو يمنعه قانون الدولة.
تحتمل التعدّدية الديمقراطية ليس تعدّدية الآراء والأذواق والأحزاب فقط، بل تحمي حقها في أن تُعبّر عن نفسها في المجال العام، كما تعد نفسها محايدة في ما بينها أيضًا
تحتمل التعددية الديمقراطية ليس تعددية الآراء والأذواق والأحزاب فقط، بل تحمي حقها في أن تُعبّر عن نفسها في المجال العام، كما تعد نفسها محايدة في ما بينها أيضًا. ولكن الديمقراطية ليست محايدة بشأن مبادئ الديمقراطية ذاتها. وليس هذا فحسب، بل تضع الديمقراطيات الليبرالية عمومًا حدودًا لحرية التعبير أيضًا، على الرغم من هذا الحياد. فهي تُحاسِب غالبًا على ما يُسمى التشهير؛ إذ يُلحق الكلام الكاذب إساءةً وضررًا ملموسين بشخص أو أكثر بغير حق. ولن أدخل في تعريف التشهير هنا، فهو متباين بين النظم القانونية. كما تضع الديمقراطيات حدودًا بين المسموح والممنوع عندما يتعلق الأمر بالتحريض على العنف أو الحضّ على القتل. ولا تتسامح بعض الدول التي مرت بتاريخ من التمييز العنصري مع التحريض العنصري؛ أي إطلاق تعميمات سلبية سيئة على شعبٍ كامل أو حضارةٍ كاملة أو غيرهما (ولكن غالبًا لا يشمل ذلك التعميمات تجاه الإسلام والمسلمين).
وفي فرنسا، يُمنع التعبير عن إنكار الهولوكوست بقوة القانون؛ إذ عوقب مثقفون، وحتى باحثون، ليس لأنهم أنكروا هذه الجريمة الكبرى التي وقعت وتعد بحق جريمة ضد الإنسانية، بل لأنهم تجرؤوا على مناقشة الأمر فقط. ومؤخرًا، حاول ماكرون في خطابٍ له، في 19 شباط/ فبراير 2020 (في مقبرة كاتسنايم في شرق فرنسا)، أن يساوي بين العداء للصهيونية والعداء للسامية كمقدمة لنزع شرعية التعبير عن موقفٍ شرعي يتفق معه كثيرٌ من اليهود ضد حركة قومية كولونياليّة تقوم بممارسات عنصرية، واستعمرت وطنًا مأهولًا، وطردت سكانه. إن دفاع ماكرون عن حرية التعبير انتقائي، وليته توقّف عند حدّ الدفاع عنها، فهذا دفاع عن الديمقراطية. ولكنه لا يدافع عن الديمقراطية، بل يخوض معركته السياسية.
التيار المعادي للدين مباشرة كان هامشيًا في حركة التنوير، ولم يعتمد السخرية من السيد المسيح أو من النبي محمد
ثمّة حدودٌ لحرية التعبير تُحدّدها الديمقراطية الفرنسية. وتختلفُ القوى والتيارات الفكرية المختلفة حول هذه الحدود. إن المسّ بمقدسات الآخرين الدينية متاحٌ غالبًا في الديمقراطيات الليبرالية التي لا تعترف بحدود المسّ بالمشاعر؛ لأنّه من الصعب تعريفه، وقد يُستخدم مصطلح المسّ بالمشاعر الدينية على نحوٍ تعسفيٍ لمنع أفكارٍ مشروعة بحجة المسّ بالمشاعر الدينية. وعلى كل حال، حتى لو لم تحظر الديمقراطية المسّ بشخص نبيٍّ مؤسس لديانة يؤمن بها أكثر من مليار ونصف إنسان، يُجلّونه ويقدّرونه، ويعتبرونه رمزًا للسيرة الحسنة التي يُقتدى بها، فإن هذا المسّ ليس نموذجًا عاديًا لحرية التعبير. قد تتيحه حرية التعبير في الديمقراطية الليبرالية مع أنّه يمسّ بمشاعر ملايين من مواطنيها، وكثيرين من غير مواطنيها، فقط بوصفه ممارسة هامشية مدانة ومرفوضة. ولا تعني إتاحة المجال لمثل هذا المسّ، والتعبير عنه في المجال العام، تقبّله والتسامح معه؛ بمعنى اعتباره أمرًا عاديًا. فهو ليس أمرًا عاديًا، إنه أمرٌ استثنائي وحالة متطرفة، وهكذا يفترض أن يُعامَل. صحيح أن الديمقراطية الفرنسية لا تمنعه، ولكن هذا لا يعفيها من التثقيف ضده، ومكافحته تربويًا وإعلاميًا بوصفه ظاهرة سلبية، بموازاة تبريرها لعدم منعه بحجة تجنّب حصول سوابق من قمع حرية التعبير يمكن توسيعها في المستقبل. ولكن، بالتأكيد، لا يجوز أن تكون راضية عنه أو أن تعتبره مفخرةً.
ليس هذا من العلمانية ولا من التنوير في شيء. التنوير الفرنسي، الذي تتلمذ بعضنا على الأقل في فترةٍ من حياته على أفكاره، لم يكن معاديًا للدين غالبًا، بل كان معاديًا للمؤسّسة الدينية ولتدخّلها في السياسة وتداخلها مع الملكيّة، ومناهضًا لرجال الدين الذين ينشرون الخرافات للسيطرة على عقول الفلاحين والبسطاء، كما كان يردد تنويريو القرن الثامن عشر الذين سموا “الفلاسفة”. لكنّ التيار المعادي للدين مباشرة كان هامشيًا في حركة التنوير، ولم يعتمد السخرية من السيد المسيح أو من النبي محمد. تعد مناقشة الدين والعقائد والمتدينين ورجال الدين من أسس حركة التنوير ومقاربتها النقدية العقلانية. أما السخرية من الأنبياء في الفضاء العام، فهو استفزاز لا غير. يضاف إلى ذلك أن الاستفزاز المقصود قد يعتبر أمرًا مقبولًا في الفن والأدب في ثقافة بلد بعينه، ولكن في هذه الحالة غالبًا ما تسخر الأعمال الأدبية والفنية من مقدسات ثقافتها، أما السخرية من مقدسات الآخرين، وفرض مقاييس المتاح وغير المتاح من ثقافةٍ ما على ثقافةٍ أخرى، فيثير الحساسيات لأنه يصطدم بمسألة الهوية والكرامة وغيرها، ولا سيما حين تكون العلاقة التاريخية بين المنتمين إلى ثقافتين مختلفتين مركبة تتضمن ماضيًا من تحويل الفرق إلى سيطرة واستعلاء.
من حقِ الديمقراطية الفرنسية وغيرها من الديمقراطيات، بل من واجب أي دولة أن تدافع عن المجتمع، وتحميه ممن يرتكبون أعمالًا إجرامية باسم الدين أو أي أيديولوجيا علمانية أو دينية
ومن حق من أطالبه هنا بإبداء التفهّم لهذه الأمور، أن يتوقع من أتباع الثقافة التي ينبغي عليه احترامها أن يحترموا هم أيضًا الديانات الأخرى، وأن لا يكون شتمها على المنابر أمرًا مقبولًا. هذا أحد أشكال التسامح (الذي يتخذ أشكالًا أخرى عديدة)؛ وهو، في رأيي، أمر مختلف عن التعددية واحترام حرية التعبير. ويتطلب التسامح أحيانًا من الشخص ألا يعبّر، بل أن يمسك عن التعبير من دون إجبار من أحد، حتى لو أتاح مبدأ حرية التعبير الكلام.
والعلمانية، وإن اتخذت أشكالًا متطرفة في فرنسا بعد الجمهورية الثالثة لناحية الموقف من ظهور الدين ودوره في الفضاء العام، فإنها تشترك مع بقية العلمانيات في أمر جوهري؛ وهو رفض استخدام الدولة ومؤسساتها في فرض دين بعينه، أو الإلزام بمعتقدٍ معيّن أو بفرائضه، وكذلك رفض تدخّل الدولة في قضايا العقيدة، وكل ما يتعلق بالضمير. وجوهر علمانية الدولة هو تحييدها في الشأن الديني. وثمة نقاش في فرنسا حول إتاحة المجال للدين ومظاهره في الفضاء العام في الدول الديمقراطية العلمانية. وهو محسوم عندي لصالح إتاحته؛ لأنه، على الأقل، شكلٌ من أشكال حرية التعبير، ولأن منعه يناقض مبدأ العلمانية، إلا إذا تحولت إلى أيديولوجية مفروضة من أعلى، أو إلى دين بديل من الدولة. لا يمكن حظر الدين في المجال العام، وليس من العدل منعه. وغالبية الدول الديمقراطية لا تفعل ذلك. وفي الوقت نفسه، فإن الدول الديمقراطية تمنع استخدام الدين من أطرافٍ منظمةٍ سياسيًا في ترهيب المخالفين لها وتكفيرهم، أو فرض نمط حياة معين عليهم. ولا بد من تحصين الدولة وتحييدها من أي محاولة لاستخدامها في فرض تعاليم دينية معينة أو في محاربة ديانات وعقائد أخرى دينية وغير دينية. إن الحركات والفرق الدينية التي تختلف مع هذا الموقف هي حركات معارضة للديمقراطية أصلًا، وهي تطالب الديمقراطية بما لا تقبل هي ذاتها به. وهذا موضوع آخر. ولكنّ غالبية المسلمين مندمجون في حياة الدول الديمقراطية التي هاجروا إليها، والمتدينون منهم يمارسون دينهم، ويعملون وينتجون ويسهمون في بناء المجتمعات التي يحيون في كنفها، ويعيشون حياتهم الدنيوية مثل غيرهم.
يبقى قتل مدرس التاريخ جريمة ويجب أن تُدان ليس على استحياء، ومن دون “ولكن”. فـاستدراك “ولكن” غالبًا ما يليه تبريرات للجريمة
من حقِ الديمقراطية الفرنسية وغيرها من الديمقراطيات، بل من واجب أي دولة أن تدافع عن المجتمع وتحميه ممن يرتكبون أعمالًا إجرامية (مثل جريمة نيس القبيحة الأخيرة) باسم الدين أو أي أيديولوجيا علمانية أو دينية. ويمكن أن يرى باحثون أنّ الجماعات المتطرفة التي ترتكب جرائم ضد المدنيين باسم الدين مأزومة، أو أنّ مجتمعاتها تعيش في أزمة. ولكن ليس من وظيفة رئيس دولة أن يحدّد إن كان الإسلام أو اليهودية أو المسيحية في أزمة. ولا أذكر أنّ رئيس دولة مسلمًا، بغض النظر عن طبيعة نظامه، خرج في خطابٍ قال فيه إنّ الكونفوشية في أزمة بسبب ما يُرتكب في الصين في حق الإيغور، أو أنّ البوذية في أزمة بعد ثبوت سياسة التطهير الإثني المشوب بجرائم ضد الإنسانية ضد الروهينغا، أو أنه اعتبر اليهودية في أزمة نتيجة لممارساتٍ في فلسطين تقوم بها جماعات باسم الدين اليهودي مباشرة وبشرعية الوعود التوراتية. ماذا كان سيقال لو هاجم الفلسطينيون والعرب، وتحديدًا المسؤولون الحكوميون منهم، اليهودية أو التوراة التي تُستخدم نصوص منها لتبرير قمع الفلسطينيين؟ لم يكن منطق سلوك الرئيس الفرنسي حين تحدث عن أزمة في الإسلام منطقًا علمانيًّا. قد تعيش المجتمعات المسلمة أزمة، بل أزمات، مثل مجتمعات أخرى، ولكن هذا ليس مبررًا لرئيس دولة أن يشخّص حالة الإسلام.
الإسلام ديانة عظيمة يتبعها أكثر من مليار ونصف المليار إنسان، كما أسلفنا، وتوسم به حضارة شديدة التنوع، ولا يصح أن يزج به، بهذه الخفة والتعميم، في خطاب سياسي لرئيس دولة في سياق مكافحة التطرف والإرهاب، أو في سياق التنافس داخل اليمين الفرنسي المتطرف على الأصوات الانتخابية.
لا شك في أن مقتل المعلم صمويل باتي كان جريمةً شنيعةً، ويجب أن تُدان ليس على استحياء، ومن دون “ولكن”. فـاستدراك “ولكن” غالبًا ما يليه تبريرات للجريمة. فليست أحوال المسلمين في أي مكانٍ في العالم وما يمرون به مسؤولة عن سلوك الشاب الذي قرر قتل المعلم. ولا يجوز تبرير القتل بما يتعرّض له مسلمون في أماكن أخرى في العالم. يمكن دراسة خلفية الشاب وظروفه الاجتماعية وأفكاره، ولكنه مسؤولٌ عن جريمته ما دام واعيًا فعلته، وليس غائبًا عن الوعي. وهو لم يشاور “المسلمين” بما فعل، وليس “الإسلام” مسؤولًا عنها. الإسلام بريء منها بالتأكيد.
ما حصل في فرنسا بعد فعلة القتل الشنعاء تلك هو تجاوز الحياد. لقد استخدم التضامن مع الضحية عبر تقديم الصور المسيئة كنموذج لحرية التعبير والتمسك بها
الرد على الكلام يكون بالكلام، وعلى السخرية بالسخرية، حتى لو كان ذلك في المجال العام وليس في صفٍ مدرسي. وقد يترفّع بعض الواثقين من أنفسهم حتى عن الرد على الكلام بالكلام. فليس كل كلم يستحق الرد. وكان رأيي دائمًا أنه حتى الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت للمسّ بنبي الإسلام في صحيفة دنماركية يومًا ما لا تستحق أن تشغل المجتمعات؛ فالنبي يستحق الدفاع عنه، ولكن الرسام لا يستحق أن تخرج له مظاهرات. وثمّة أسباب كثيرة للخروج من أجل التظاهر في العالم الإسلامي غير صور رسمها رسامٌ مجهول (لن أذكر اسمه)، ولولا هذه المظاهرات لما عرفه أحد، ولا سمع عنه أحد غير قراء صحيفته. بمعنى أنّ من يقوم بفعلةٍ كهذه؛ المس بمقدسات الآخرين، لا يستحق الحشود والتظاهر، بل إهماله. هكذا يتصرّف أبناء حضارة راسخة إذا كانوا واثقين من هويتهم. وليس كلما قرر مهووس استفزاز المسلمين يخرج الآلاف منهم في مظاهرات ويحولونه إلى “نجم”. ونذكر جيدًا حالة القس الأميركي المهووس الذي هدد بحرق القرآن علنًا (لن أذكر اسمه أيضًا)، فاصطفت وسائل الإعلام أمام بيته أيامًا عديدة في انتظار أن يقوم بفعلته هذه. في المقابل، من واجب حكومة الدولة التي يقيم فيها هؤلاء التثقيف ضد هذه الأعمال واستنكارها، مثلما أن واجبها التثقيف ضد العنصرية وإدانتها، لا الاكتفاء بالقول إنها حرية تعبير. ليس صحيحًا أن الدولة الديمقراطية محايدة في كل ما يتعلق بحرية التعبير، حتى لو كان متاحًا.
لكن ما حصل في فرنسا بعد فعلة القتل الشنعاء تلك هو تجاوز الحياد. لقد استخدم التضامن مع الضحية عبر تقديم الصور المسيئة كنموذج لحرية التعبير والتمسك بها. وفي نوع من المكايدة، انتقلت الصور من غرفة صف مغلق إلى جدران المباني الحكومية. وبغض النظر عن النوايا، فإن النتيجة هي التشجيع على المسّ بالمقدسات وتحويلها من أمر شاذٍ إلى نموذج؛ ما استفز كثيرين في العالم الإسلامي.
حتى العلماني الفرنسي يمكنه أن يفهم أنّ الدين ورموزه الأساسية تشكّل أحد مكونات الهوية الحضارية للمتدينين وغير المتدينين عند كثير من شعوب العالم، وأن هؤلاء في غالبيتهم الساحقة يعارضون التطرف الديني، والقتل بسبب الكلام، وتكفير الآخرين، وحتى العنف السياسي عمومًا. ولكنهم لا يتفهمون إهانة رموزهم الدينية عن سبق إصرار، ويعتبرونه مسًا مقصودًا بالكرامة. حتى متوسط الذكاء يجب أن يُدرك أنّ إشهار هذا النوع من “التعبير” على مبانٍ حكومية يُطلق سلسلةً من الأفعال وردود الأفعال لا يمكن أن ينجم عنها أي خير. يجب الخروج من دائرة الشر هذه في أسرع وقت ممكن.
عزمي بشارة
العربي الجديد