جبهة متوقعة للحرب.. ماذا تعرف عن خدمة البريد الأميركية؟

جبهة متوقعة للحرب.. ماذا تعرف عن خدمة البريد الأميركية؟

تتناول المادّة التالية من مجلّة “فورين أفّيرز” الأميركيّة تاريخ خدمة البريد الأميركية بوصفها مؤسسة تضطلع بأدوار لا نراها في دول غربيّة أخرى، وترتبط ارتباطا وثيقا بالبنية التحتيّة للديمقراطيّة الأميركية، عبر التطرُّق إلى تاريخها، وأهم محطاتها، وصولا إلى دورها في المشهد السياسي الحالي.

تُسلِّط انتخابات عام 2020 الأضواء على مؤسسة ظلّت منسيّة لوقت طويل، ألا وهي خدمة البريد الأميركي. خلال الأشهر المؤدية إلى الانتخابات، شرَع مدير مكتب البريد العام لويس ديجوي في إصلاحات تهدف إلى خفض النفقات على امتداد المؤسسة، وأدّت هذه التغييرات إلى تأخير في خدمات البريد على مستوى البلاد، وحرّكت مخاوف فقدان حقّ الاقتراع. في أثناء ذلك، كان الرئيس الأميركي دونالد ترمب يهاجم آليّة التصويت عبر البريد والخدمة نفسها، زاعما أن التصويت من خلالها سيؤدّي إلى حالات تزوير على نطاق واسع. برغم كل الانتقادات التي طالت المؤسسة، كان نحو 50 مليون أميركيّ قد أدلوا بأصواتهم عبر البريد بحلول الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الأوّل.

ليست انتخابات عام 2020 هي المرّة الأولى التي يُساهم فيها النظام البريدي في إسناد الديمقراطية الأميركيّة، فمنذ عام 1775، لعبت خدمة البريد الأميركي دورا فارقا في توفير الخدمة العامّة للأميركيين كافّة وتعزيز المشاركة المدنيّة. يقول هدف الوكالة المُعلن إن غايتها هي “ربطُ أوصال الأمّة الأميركية”، بينما تقولُ عبارتُها الترويجيّة غير الرسمية إنّ دورها هو “توسعة نطاق الحياة المشتركة”. لكن هذه الطّموحات لم تدرأ عنها الانتقادات، وكثيرا ما انتُقدت هذه الخدمة الحكوميّة بوصفها خدمة غير عصريّة ومكلفة، وسط دعوات لخصخصتِها.

منذ لحظة تأسيسها في عام 1775، كان ثمة مبدأ نبيل يُميّز نظام البريد الأميركي عن أسلافه من الأنظمة البريديّة للقوى الكولونياليّة. وعلى النقيض منها، استخدم البريد الأميركي عائداته في توسيع نطاق خدماته وتحسينها، وكفلت هذه التغييرات نموّ شبكة وفّرت خدماتها للأميركيين في أرجاء البلاد، من المزارعين في الأراضي النائية خلال القرن التاسع عشر حتّى عُمّال ألاسكا المعزولين في القطب الشمالي اليوم.

في عام 1789، كان هناك 75 مكتب بريد وأقلّ من 2000 ميل من المسارات البريديّة التي توفّر خدماتها لـ 3.5 ملايين أميركي على امتداد الولايات المتحدة. ومع استخدام العائدات الماليّة في توسيع نطاق النظام البريدي، أخذت أعداد مكاتب البريد تتزايد حتّى بلغت أكثر من 900 مكتب بريد بحلول العام 1800، وامتدّت مسارات خدمة البريد حتى بلغت نحو 21.000 ميل خلال الفترة نفسها.

تدفّقت طلبات الحصول على هذه الخدمة من الريف الأميركي إلى واشنطن، وفي عام 1902، باتَت خدمات “البريد المجّاني في الريف” ملمحا ثابتا من ملامح الحياة الأميركيّة، وكانت بمنزلة شريانِ الحياة لأبعد الأماكن وأصعبها وصولا في القارّة الأميركية.

اعلان
حتى اليوم، لا يزال مركز البريد في البلدات الصغرى مؤسسة مركزيّة في آلاف القرى الأميركيّة، ومفترقات الطرق، والتجمّعات السكنيّة الريفية. وفي العديد من هذه المجتمعات يكون مكتب البريد هو المجال العام الوحيد الذي يُصادف فيه الناس بعضهم بعضا من حين لآخر. يُمكن لتشغيل تلك المراكز البريديّة، الذي لا يخلو من بعض الخسائر الماليّة، أن يكون الدور المشهود الوحيد الذي تلعبه الحكومة الفيدراليّة في المناطق الريفيّة النائية، كما أنه يعكس التزام الولاية الديمقراطيّ بتوفير الخدمة لمواطنيها كافّة بلا استثناء.

منذ تأسيسه، عمل نظام البريد الأميركي على تعزيز المشاركة المدنيّة عبر وضع توزيع الأخبار والمعلومات السياسية على رأس أولويّاته. وفي عام 1791، شدّد الرئيس الأميركي جورج واشنطن على أهميّة “نشر المعرفة بالقوانين والإجراءات الحكومية”. من أجل ذلك، مرّر الكونغرس الأميركي في عام 1792 قانونا يُخفِّض تكاليف إرسال الصحف بالبريد، وكان بوسع الصحيفة أن تقطَع 100 ميل على امتداد البلاد مقابل سنت أميركي واحد. ساهمت هذه المعاملة التفضيليّة في ازدهار الصحف، وبحلول عام 1840 كان الأميركيّون قد طبعوا من الصحف ما يفوق أي بلد آخر، ولا تزال الخدمة حتى اليوم تتكفّل بإرسال الدوريّات والكتب بتكاليف مخفّضة بهدف تعزيز المعرفة والحياة المدنيّة على حدٍّ سواء.

لطالما أشار النُّقّاد إلى أن التطورات التي تشهدها تكنولوجيا الاتصالات ستجعل خدمة البريد في طيّ النسيان، حيث كان متوقعا للتلغراف والهاتف استبدال هذه الخدمة. وفي ثمانينيات القرن الماضي، تحوّلت آلات الفاكس إلى معدّات أساسيّة في المكاتب، ما دفع بالنُّقّاد إلى توقّعات مماثلة. لكنها حتى يومنا هذا، ظلّت مسؤولة عن إيصال 472 مليون بريد إلى 160 مليون عنوان طيلة 6 أيام في الأسبوع.

يُشيرُ النُّقّاد المعاصرون في السياسة والأعمال إلى البريد الإلكترونيّ للقول إن خدمة البريد مؤسسة عفا عليها الزمن، والحطِّ منها بوصفها محض مؤسسة للبريد التقليدي. في عام 2005، قال كريس إدواردز من معهد كاتو الليبرتاريّ إنَّ “الاتصالات السريعة الآمنة وقليلة الكلفة باتت ضروريّة في عالم الأعمال وأنماط الحياة القائمة اليوم”. لكن خدمة البريد الحكوميّ لا تُتيح اتصالا من هذا النوع، ومن الأرجح أنها لن تفعل ذلك أبدا.

يُخفق أولئك المبشرون بفشل هذه الخدمة في الاعتراف بأهميّتها كونها خدمة عامة ديمقراطية. إنّ البريد الأميركي إحدى وسائل الاتصال التي يُمكن للأميركيين كافة الوصول إليها، كما أن مكاتب البريد المحليّة مركز حيوي للعديد من المجتمعات الأميركية. الاتصالات الرقميّة بعيدة عن متناول ملايين من الأميركيين الطاعنين في السنّ، أو ذوي الدخل المنخفض، أو سكّان الأرياف، أو ذوي الاحتياجات الخاصّة.

إذ تمتلك أقلّ من نصف الأُسر المعيشيّة التي يقع دخلها دون 30.000 دولار أميركي سنويا إنترنت النطاق العريض، وإمكانيّة أن يحظى سكّان الأرياف بخدمات من هذا النوع تقل عن بقية الأميركيين بـ 12%. وفي مرحلة من اتساع الفجوة الاقتصادية، تُعَدُّ الخدمة الموحّدة التي يتيحها البريد الأميركيّ للناس بمنزلة قيمة ديمقراطية.

لقد أبرزت الانتخابات الحالية الأهميّة الحقيقيّة لخدمة البريد. بمئات من منشآت الفرز، وأكثر من 30.000 مكتب بريد، وأسطول يزيد على 228.000 سيارة توصيل، ونحو 500.000 موظّف، يتّصل النظام البريدي بكل أسرة معيشيّة وعمل تجاريّ في الولايات المتحدّة يوميّا. يعمل هذا المكوّن المهم في البنية التحتيّة القومية على قدم وساق حاليا، مُتيحا لملايين الأميركيين الاستفادة من التصويت عبر البريد هذا الخريف خلال الجائحة.

ورغم التزامها الثقيل بالتكفّل بالأعباء الصحيّة لمتقاعديها، وعقود من شح الاستثمار، والتخفيضات التشغيليّة غير المدروسة، تُبرهن هذه الخدمة الحكوميّة على قدراتها الاستثنائية للشعب الأميركي.

في إبريل/نيسان الماضي، صاغت الحكومة الفيدرالية خطة لتوزيع خمسة أقنعة مجانية على كل أسرة أميركية من خلال النظام البريدي. ألغى البيت الأبيض هذا البرنامج في نهاية المطاف، لكن المهمة لم تكن خارجة عن المهامّ المعتادة لعمال خدمة البريد. في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، دُرِّب المتطوّعون في الخدمة على توزيع الأدوية في حالة الطوارئ البيولوجية. وبالنظر إلى النطاق الواسع للخدمات البريدية، فإنها مهيَّأة لتولي الوظائف الحيوية أثناء الأزمات الوطنية المستقبلية.

بأداء عملياتها اليومية ببساطة، وتقديم خدمة موحدة بأسعار موحدة، تمارس خدمة بريد الولايات المتحدة تأثيرها الديمقراطي. إنَّ بنيتها التحتية مهمة في لحظات الأزمات، كما أنّها تُمثِّل ميزة أساسية للحياة الأميركية. إنّ الخدمة العامة الديمقراطية، التي تحمل رسالة اجتماعية شاملة، ليست مفهوما عفا عليه الزمن، كذلك هي خدمة بريد الولايات المتحدة.

فرح عصام

الجزيرة