عالم ما بعد كورونا: أمريكا… الصين… والصراع على القمة!

عالم ما بعد كورونا: أمريكا… الصين… والصراع على القمة!

العالم ما بعد كورونا ليس هو العالم الذي قبله، هكذا يحاجج أهل السّياسة وعلماء الاقتصاد والإستراتيجية، لأنّ هذا الحدث، حسب رأيهم، شأنه شأن أحداث أخرى، تركت بصمتها في التاريخ العالمي، حيث أدت إلى تغيير موازين القوى الدولية، كالحرب العالمية الثانية (1939- 1945) سقوط جدار برلين (1989) وهجمات 11 أيلول- سبتمبر (2001) وغيرها، وإذا كانوا يتفقون في العنوان الكبير، متمثلا في ولادة عالم جديد، إلا أنهم يختلفون في تفاصيله؛ ما شكل هذا العالم..؟
هل تنهار الولايات المتحدة الأمريكية، زعيمة العالم، ومن ثمّ، تنتقل القيادة إلى الصّين أم هل يتجه العالم إلى عالم متعدد الأقطاب، يتقاسم فيه الجبابرة تسيير شؤونه؟
ما مستقبل الرّأسماليّة والدّيمقراطيّة..؟
هل تتفكك التكتلات الموجودة، وتقوم أخرى على أسس جديدة، قد تكون أكثر تضامنية وإنسانية..؟
أيعاد النّظر في العولمة، حتّى تأخذ بالأبعاد الإنسانية المفقودة فيها بعين الاعتبار، أم تنتقل من التمحور حول النّموذج الأمريكي إلى التمحور حول النّموذج الصيني..؟
أينحسر التّضامن العالمي أم يزيد..؟ وأهم من كل ذلك، هل تتعظ البشرية من أزمة كورونا..؟

أمريكا والسياسة الفاشلة

قد يكون طرح هذه الأسئلة الآن بمثابة هروب من اللحظة الصّادمة، وهروب من الرّعب القاتل، ومن أخبار الموت المتجددة في كل حين، بسبب هذا الفيروس اللعين، لكن، مع كل ذلك، ينبغي طرحها للخروج، على الأقل، بتصور بسيط حول المستقبل، الذي سيخرج حتماً من رحم الوباء الكروني.
هناك من يتصوّر أنّ الولايات المتحدة الأمريكية قد فقدت كل مبررات القيادة حتّى المعنوية منها، بعدما تخلت عن مسؤوليتها الأخلاقية تجاه العالم، بل أظهرت عجزاً فادحاً في التصدي لهذا الوباء عن شعبها، ومن لا يستطيع إنقاذ شعبه، ويتخلى عن أصدقائه في هذا الوقت العصيب، فما قيمة زعامته للعالم..؟!
إن هذا التصوّر في غاية الأهمية، وهو يعبّر عن الحقيقة إلى حدّ كبير؛ فالولايات المتحدة منذ مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض انكفأت على نفسها، حيث أعلن أثناء حملته الانتخابية أنّ إستراتيجيته مبنية على مبدأ «أمريكا أولا»؛ بعد اعتلائه كرسي الرئاسة، سار على هذه الإستراتيجية، مقللا بذلك دور أمريكا في العالم، ثم ما فتئ يثير غضب أصدقائه، ويهين حلفاءه، إذ باتت العلاقة القائمة بين أمريكا والآخرين علاقة ربحية، قائمة على قاعدة خدمة مقابل مال. افتعل الأزمات، وأثار الخصومات، لم ينج من تهكمه وإهانته، لا الصّين الكبيرة، ولا ألمانيا القوية، ولا السّعودية الضعيفة، ولا المكسيك الجارة.
ذلك أنّ ترامب يعتقد أنّ أمريكا قدّمت الكثير للعالم دون مقابل، واليوم من أراد خدمات أمريكا، فعليه أن يدفع المال، وقد قالها صراحة لأصدقائه الأوروبيين والسعوديين.
نتيجة لهذه السياسة الانعزالية، والنظرة القاصرة، والحروب الخاسرة، كإرث ورثه ترامب من الإدارات السابقة، فضلا عن الفشل الذريع للتصدي لوباء كورونا، تراجع نفوذ أمريكا في العالم، إذ يرى البعض أنّ تأثيرها «في السياسة والقوة» في العالم، سيتراجع بشكل لافت، بالتالي، سينتقل، بلا شك، من الغرب إلى الشّرق، أي من أمريكا إلى الصين، القوة الجديدة، فهي بالإضافة إلى قدراتها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، أثبتت أنها قادرة على التعامل مع الأوبئة المستجدة، التي تظهر دون سابق إنذار، ويرجع ذلك، حسب هؤلاء، إلى طبيعة النّظام نفسه، الذي يراقب كل كبيرة وصغيرة، ويتحكم في مواطنيه بطريقة رهيبة.

النّظام الصّارم

لقد مدح العالم كله، حتى من الأمريكيين، النّظام الصّيني الصّارم، وقانونه القاسي، وعقوباته الشّديدة، فهذه المميزات وغيرها ساهمت، بشكل أو بآخر، في القضاء على الوباء في فترة قصيرة، وغدا النّموذج الصّيني هو النموذج المحتذى، الذي يُصدر إلى كل الدول المنتشر فيها الوباء، ما جعل البعض يقول إنّ هذا الثّناء ليس بريئاً، إنما هو دلالة على المستقبل القاتم الذي ينتظر البشرية بعدما ينتهي رعب الوباء، إذْ سيتم، والحال هذه، التّضحية بالدّيمقراطيّة والحريّة، لصالح أنظمة شمولية متسلطة، في هذا الصدد يرى ستيفن والت أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد «أنّ العالم سيصبح أقل حريةً وانفتاحاً وازدهاراً، وستصبح الدول أكثر سيطرةً وقوةً» وقد تكون تلك الإجراءات التي تتخذ للحد من الوباء، كالإغلاق، وحالة الطوارئ، والعزل الصحي، ما هي إلا مقدمات لهذا المشروع الجديد، وقد استغرب جورجيو أغامبين من الصمت المطبق للكنيسة والرأسمالية باعتبارهما «الديانتين اللتين تتحكمان في الغرب، ديانة المسيح وديانة المال» تُجاه هذه القرارات التّعسفيّة.
غير أنّ السؤال الذي يطرح هنا: هل العالم مستعد أن تنتقل زعامة العالم من أمريكا إلى الصّين..؟
وبعبارة أخرى، هل الصّين مستعدّة أن تتحمل ثقل القيادة الآن..؟
يرى البعض أن أمريكا «سقطت في اختبار قيادة العالم» وذلك بسبب سياسة ترامب الفاشلة التي اعتمدت، كما قلنا سابقاً، على الانكفاء على الذات، وقد جاء وباء كورونا ليؤكد فشل هذه السياسة، بل ويؤكد، أكثر من ذلك، «تسريع التّحول الذي بدأ بالفعل من العولمة الأمريكيّة إلى العولمة الصّينيّة» كما يجادل بذلك كيشور محبوباني، ومن ثمّ، فإنّ السؤال الذي يطرح هنا هو: هل العالم على موعد مع حرب بادرة جديدة..؟
لأن الانتقال من القطبية الأمريكية إلى القطبية الصّينيّة سيشعل، لا محالة، فتيل الفوضى والحروب، مما يسبب في سقوط ضحايا، وفي ترك ندوب في خريطة العالم، تمزيقاً وتقطيعاً، مما يؤدي، في نهاية المطاف، إلى رسم خرائط جديدة.

اعتلاء القمة

يستبعد محبوباني «عودة الحرب الباردة» من جديد، لأنّ ظروف اليوم هي غيرها بالأمس، والأمور، حسبه، قد حسمت لصالح القطب الصّيني البراغماتي الذكي؛ فاعتلاء القمة مسألة وقت فقط. عندئذٍ سيعترف القطب الأمريكي بالأمر الواقع، بل وسيقرّ بمدى قصوره، ومحدودية تفكيره وقوته، حيث شبّه تصرفات أمريكا اللامسؤولة اليوم بتصرفات الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة، في المقابل، شبّه تصرفات الصين بتصرفات أمريكا بالأمس، يقول: «الولايات المتحدة باتت تتصرف اليوم مثل الاتحاد السوفييتي، والصين تتصرف مثل الولايات المتحدة» مقترحاً، في الوقت نفسه، على أمريكا خطةً تقوم على خيارين:
الأول، إذا أرادت المحافظة على حضورها وتفوقها في العالم، يجب عليها أن تغير نظرتها إلى الصين، باعتبارها دولة قوية، ومن ثمّ، تنخرط في «مواجهة جيو/سياسية صفرية معها على المستويين السياسي والاقتصادي».
أما الثاني، فيتمثل في ضرورة إدراك واشنطن أن مصلحتها في التعاون الاقتصادي مع الصين، لا في معاداتها أو مواجهتها؛ فالتعاون من شأنه أن يعود بالفائدة على حياة الأمريكيين، ويحسن من معيشتهم.
لأجل هذه اللحظة الفارقة والتاريخية، قامت الصين بإعداد ثلاثة مشاريع دولية أساسية، كإجراء استباقي، لكي تتفادى من احتمال التضييق الأمريكي عليها، تتمثل هذه المشاريع في:
1- البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية، الذي أطلقته الصين في 2013- 2014، وانضمت إليه أكثر مئة دولة.
2- بنك التنمية الجديد، الذي تم اقتراحه في 2013- 2014، وبدأ تشغيله في 2015.
3- مشروع طريق الحرير الذي تمّ إطلاقه في عام 2013.
بالإضافة إلى ذلك، التطور التكنولوجي المذهل، يعبّر عنه النقلة النوعية التي أحدثها هواوي في مجال التكنولوجيا اللاسلكية عالية السرعة 5G، حيث أصبحت تشكل تحدياً كبيراً لأمريكا.
ليس معنى هذا أنّ الصين قد كسبت معركة القيادة لصالحها وانتهى الأمر، لكنها، في الواقع، عبارة عن جولة في صراع سيطول حتماً، لأنّ انتقال القيادة من الولايات المتحدة إلى الصين عملية عسيرة يحتاج إلى وقت طويل.

الانتقال الصعب

غير أنّ هذا الانتقال الذي يجادل به محبوباني وغيره لن يكون بهذه السهولة، فأمريكا – مع أنّها تراجعت قوتها الاقتصادية، وتراجع نفوذها والثقة في قيمها، في العديد من دول العالم – إلا أنها مازالت تملك مقومات القوة (الموارد الأولية، الموقع الجيوبوليتكي..) ما يجعل شطب قيادتها، لن يكون بهذه السهولة، بل قد يجلب مخاطر كبيرة، كالفوضى واللااستقرار..، على الصعيد العالمي؛ فالاقتصاد العالمي، كما هو معلوم، متمحوّرٌ حول عملة الدولار، وتسيطر على عالم الاتصالات والانترنيت بشكل كبير، ناهيك عن قدراتها العسكرية الفائقة.
في المقابل، تجد الصين مترددة، أو قل ليست لديها الرغبة في القيادة، على الأقل، في الوقت الحالي، لأنّها تعرف حدود قدراتها، وتدرك قوة الخصم الحقيقية، حتى شركاتها الكبرى مرتبطة بأمريكا، وأبسط مثال على ذلك، تأثير العقوبات الأمريكية في هواوي مؤخراً، جعلها توقف إنتاج شرائح الهواتف الذكية.
بالتّالي، لا العالم مستعدّ لانتقال الزعامة من أمريكا إلى الصين، ولا الصين مستعدّة الآن لتحمل هذا العبء الثقيل.
قد يكون الحل اليوم في الاتجاه إلى عالم متعدد الأقطاب، يتقاسم الكبار شؤون تسيير العالم، على أن يسبق ذلك الذهاب إلى محادثات جدية بين القوى الكبرى (أمريكا، الصين، روسيا، الهند، الاتحاد الأوروبي، البرازيل) للتأسيس لهذا العالم الجديد، الذي لن يكون جديداً، بل هو قديم في ثوب جديد.

سغود يخلف

القدس العربي