قلق وخوف يعتري الزعامات العربية، وهم يولون وجوههم شطر البيت الأبيض، فساكنه الجديد قد يغير حساباتهم، ويطرد النوم من أعينهم، حين يتسلم رسميا مهام عمله. فقد كانت وعوده الانتخابية تشمل إلغاء ما يعتبره أم الكبائر في سياسة الرئيس دونالد ترامب الخارجية، وهي السلطوية والاستبداد، وانتهاكات حقوق الإنسان. كما وعد بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والدفاع عن الناشطين المدنيين والسياسيين والصحافين في العالم، وإعادة النظر في الحرب على اليمن، وبمباركة التطبيع مع إسرائيل.
وعلى الرغم من أن الوعود الانتخابية دائما ما يجري تشذيبها وتقليصها وتقزيمها بعد الجلوس على كرسي المنصب، لكنها جعلت كل الأعداء في منطقتنا، قاسمهم المشترك واحد وهو الانتظار والترقب من إسرائيل إلى إيران، وحتى الأنظمة العربية. فهل سيرقص الزائر الجديد مع زعمائنا ويقبض مئات المليارات من أموالنا ويذهب؟ أم أنه سيقلد أوباما ويقف على منصة الخطابة في إحدى جامعاتنا مبتدأ كلامه بالسلام عليكم بلغة عربية، فنخر له طائعين ومهللين ومكبرين ثم يستحل دمائنا هو وطغاتنا؟
حدث المشهد الأول في بلاد الحرمين، حين رقص الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الملك وحاشيته رقصة العرضة السعودية، فنثروا عليه أكثر من 400 مليار دولار من أموالنا، ولم يتوقف الكرم العربي فشمل ابنته التي قبضت 100 مليون دولار، إعجابا منا بجمالها، لا شفقة على الحيوانات التي تقول إنها ترعاها بجمعيتها. حينها ظننا بأنا ضمنا مستقبل أجيالنا وعودة أراضينا وحقوقنا، لأن الرجل سيصبح خاتما في أصبعنا، كما أن إيفانكا ابنة الرئيس ستصبح خير سفير لقضايانا في العالم، فتدافع عنا دفاعا مستميتا. لكننا أكتشفنا أننا كنا على خطأ كبير، لأن الأموال التي أخذها لم تكن لنا، كانت أجوره مقابل الحماية التي يُحصّن بها عروشنا. ولأنه رجل أعمال فلم يكتف بما نال وراح يهدد ويتوعد ولاة أمورنا، قائلا (قلت له نحن نحميك. لن تكون موجودا بعد أسبوعين من دوننا. يجب أن تدفع). تلا ذلك تنصل من كل القوانين الدولية التي تعترف بحقنا في أرضنا في فلسطين والقدس والجولان، وراح يأمر بالتطبيع مع إسرائيل وحصل على ما يريد.
من الخطأ الفادح وضع حاضرنا ومستقبلنا وكل شؤوننا بيد الفاعل الأمريكي، فكل الفاعلين الدوليين لا يفكرون بنا
أما المشهد الثاني فكان لسلفه الرئيس الأسبق باراك أوباما حين وقف على منصة الخطابة في جامعة القاهرة، عارضا علينا جمهورية أفلاطون، التي سيطبقها في الشرق الاوسط فيسود الأمن والأمان والعدالة الاجتماعية. ولأنه ابتدأ خطابه بكلمة السلام عليكم بالعربية، فقد غرقنا في الأحلام، وراحت الأقلام تنثر عليه عبارات المديح والثناء إلى الحد الذي وصفه البعض أنه مسلم وأن اسمه الحقيقي حسين أبو عمامة وليس أوباما، لكنه يخفي إسلامه ولا يعلنه كي يستطيع البقاء رئيسا للولايات المتحدة. هكذا قالوا فرحين. وفي غمرة كل هذه الأحلام البائسة والسخيفة وجدناه أول المتنازلين عن خطوطه الحمر التي وضعها أمام النظام السوري، كي لا يستخدم السلاح الكيماوي في ضرب أهلنا، ثم ذهب لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران مطلقا مليارات الدولارات إليها، كي تسلح بها ميليشياتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتعيد زخم القتل والتغييب والتشظي في مجتمعاتنا. إن من الغريب واللافت للانتباه حقا أن يبقى العالم العربي أسيرا لسياسات تُرسم بعيدا عنه، ثم تُفرض عليه باتفاق الآخرين، من دون أن يكون لنا رأي في صنع وطننا الذي نريد. صحيح أن الولايات المتحدة هي قوة عظمى في الساحة الدولية ولها تأثير فاعل على السياسة والأمن والاقتصاد في كل بقاع الأرض، وأنه من غير المنطقي أن نشيح بوجوهنا عن التغيرات التي تحصل في قمة الهرم السياسي فيها، ونقول إن هذا ليس من شأننا، لكن في الوقت نفسه من الخطأ الفادح وضع حاضرنا ومستقبلنا وكل شؤوننا بيد الفاعل الأمريكي. كل الفاعلين الدوليين لا يفكرون بنا. هم يفكرون في أنفسهم، فالولايات المتحدة تفكر في نفسها وقدرتها على التأثير في الوطن العربي، ما لسنا قادرين على فهمه حتى الآن هو وجود تحولات جيوسياسية في العالم. اليوم لم تعد الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، أو الأولى بين متساويين. نحن الآن في مسار تغيير النظام العالمي الذي يقول إن هنالك أربع مراحل للتغيير مدتها 100 عام. المرحلة الاولى فيها 25 عاما من الفوضى والحروب. والمرحلة الثانية فيها 25 عاما من هيمنة كاملة لدولة واحدة على النظام العالمي. والمرحلة الثالثة هي 25 عاما فيها تتآكل شرعية الدولة المهيمنة. ثم المرحلة الرابعة 25 عاما من فقدان المركزية في النظام العالمي. عالمنا اليوم هو في المرحلة الثالثة وهي تآكل شرعية الولايات المتحدة، وبدء مرحلة التغيير العالمي التي سوف تتخللها الفوضى والحروب. وهذا يفرض على صانع القرار العربي رسم سياساته في ضوء هذه التغيرات. فالاهتمام الأمريكي بالمنطقة لم يعد كما كان سابقا. اليوم هي تسعى لتكليف قوى أخرى للاهتمام بشؤون المنطقة مع مراقبة أمريكية مستمرة للتنفيذ، وهذا مؤشر كبير وخطير في الوقت نفسه، فهنالك صراع وتسابق بين قوى إقليمية لملء الفراغ، وهي تمثل مثلثا قوى أضلاعه غير عربية هي تركيا وإيران وإسرائيل. ولأن دولنا ليس لديها مشروع عربي يضع بصمة مهمة في هذه المنطقة، فستكون الولايات المتحدة قادرة على الاعتماد على هذه القوى في إدارة الإقليم، وبالتالي تسليم مصيرنا بأيديهم.
إن المعضلة الكبرى التي تواجهنا اليوم، أنه مع تغير النظام العالمي، وتغير قضية العصر الذي نعيش فيه، لا يوجد فهم عربي مشترك لمتطلبات النقطة التي تلي ولا خطة واضحة لمواجهة التحديات المقبلة. ولأن النظام العربي يعاني من حالة سقوط مريع، ومعه سقوط الدولة العربية أيضا، فإن هذا الواقع دفع بعض العرب لخيارات أخرى يعتقدون أن فيها حجزا لدور مستقبلي يحافظون فيه على أمنهم الوطني والقومي من المشروع الجيوسياسي الإيراني في الاقليم، لذلك ذهبوا للتطبيع مع إسرائيل غير آبهين بأن هذا الخيار الكارثي يُغيّر معنى وقيمة الجغرافية السياسية القديمة للمنطقة. وهذا دليل واضح على أنهم لم يفقهوا بعد أن النجاح الاستراتيجي، إن كانت لديهم فعلا استراتيجية، يحتم عليهم السيطرة على كل مكونات النجاح، أي أن مستوى النجاح وعوامله يجب أن يكون تحت أيديهم وليس في يد أمريكا، أو إسرائيل أو أي دولة أخرى يتحالفون معها. التحالف مع الآخرين لإنجاح استراتيجيتنا لا يكون بالتوقع أو التمني على الآخرين بأن يتصرفوا كما نريد. لا يوجد في العلاقات الدولية تصرف من أجل أن يحقق الآخر نجاحا في أمر ما. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن عوامل النجاح في منطقتنا مشتتة لكثرة اللاعبين من خارج منظومتنا العربية، فمعنى ذلك أن أمامنا طريقا واحدا لا غير هو أن نرسم استراتيجيتنا وفق عوامل النجاح التي بأيدينا.
إن العالم العربي اليوم هو ليس الذي تعودنا عليه في فترات سابقة، كما أن الولايات المتحدة هي أيضا ليست هي التي عرفناها سابقا، لذلك فإن المنطقة ذاهبة إلى مرحلة طويلة من عدم الاستقرار.
مثنى عبدالله
القدس العربي