في شهر يونيو سنة 1982، التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغين، عددًا من أعضاء مجلس الشيوخ في لجنة العلاقات الخارجية التابعة للسينات الأمريكي. خلال اللقاء حدثت مشادّة كلامية بينه وبين السناتور الشاب جو بايدن، الذي سأله ماذا ستفعل إسرائيل إذا جرى وقف الدعم الأمريكي؟ فثارت ثائرة بيغين وبدأ بالصراخ بأن إسرائيل لا تركع على ركبتيها وتفضّل التنازل عن الدعم على الخضوع للإملاءات.
لقد جاءت ملاحظة بايدن في صيغة سؤال استفساري، وليس تعبيرًا عن موقف، فهو لم يدعُ في يوم من الأيام إلى فرض عقوبات من أي نوع على إسرائيل، أو إلى ممارسة ضغوط عليها. وقد أوضح مؤخّرًا أنّه يعارض اشتراط الدعم لإسرائيل بتغيير مواقفها، وردّ بذلك على مطالب التيار التقدّمي في الحزب الديمقراطي، الذي يتبنّى هذا الاشتراط، ويدعو إلى تطبيقه.
على المتفائلين بانتصار بايدن أن يهدأوا كثيرًا فهو لن يضغط على إسرائيل. وهو، وإن اختلف عن ترامب واستعمل لغة مغايرة، لن يصل إلى حد التهديد أو التلويح أو التلميح باللجوء إلى تقليص الدعم، حتى لو اشتدت الخلافات مع نتنياهو. الكثير مما قاله ويقوله بايدن يبقى مع وقف التنفيذ، لأنّ التنفيذ يلزمه الكبس على نتنياهو، أو من يجلس مكانه على كرسي الحكم في إسرائيل، وفي غياب الضغط يظل كلامه عن حل الدولتين ومعارضة الاستيطان بلا رصيد كاف لصنع التغيير.
بعد «الدلال» في عهد ترامب، الذي حظيت به إسرائيل والتيار اليميني تحديدًا، شعرت غالبية الإسرائيليين بخيبة الأمل من انتصار بايدن. وقد دلّت استطلاعات الرأي في إسرائيل، إلى أن ترامب يحظى بشعبية أكثر من 70% مقابل أقل من 15% لجو بايدن. وتعود شعبية ترامب إلى أنّه كان صهيونيًا أكثر من الصهاينة، وإسرائيليًا أكثر من الإسرائيليين، وكان بالنسبة لنتنياهو سيّدًا مطيعًا نفّذ ما طلبه بلا تردّد، وأغدق عليه هدايا ثمينة بمقاسات يمينية متطرّفة. لقد توغّل ترامب عميقًا في انحيازه ودعمه لمواقف اليمين الإسرائيلي المتطرف، ما يجعل سياسة بايدن تبدو وكأنّها تطوّر إيجابي في الموقف الأمريكي. الحقيقة أنّ جديد بايدن هو «القديم» الأمريكي المساند لإسرائيل عمومًا وليس لليمين تحديدًا. بايدن ومعه الحزب الديمقراطي أقرب الى مواقف اليسار – الوسط الصهيوني، ويظهر ذلك جليًا في برنامج هذا الحزب، الذي جرى إقراره في أغسطس هذا العام. ولو طُلب من قيادات اليسار ـ الوسط في إسرائيل ان يوقّعوا على نص البرنامج، لما واجهتهم أي مشكلة سياسية في التوقيع. وتكمن أهمية برنامج الحزب الديمقراطي بأنّه بوصلة عمل لإدارة بايدن المقبلة، وجاء نصّه بعد نقاشات حادّة بين التيار المركزي والتيار التقدمي في الحزب. كانت النتيجة انّ التيار المركزي استطاع فرض موقفه في قضايا مهمّة، إذ لم ترد في البرنامج كلمة «احتلال» ولم يشمل إدانة للاستيطان ولا اشتراط الدعم بتغيير السياسات الإسرائيلية، كما أراد التيار التقدمي. ما جاء في البرنامج يدور في فلك المواقف التقليدية للحزب الديمقراطي ومنها، الالتزام بحل الدولتين مع ضمان مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، وحدود معترف بها، ومعارضة الضم والتوسّع الاستيطاني إلى جانب التعهّد بضمان التفوق العسكري النوعي لإسرائيل ودعم حقّها في «الدفاع عن النفس». وتضمن البرنامج أيضًا التزامًا بإعادة العلاقات الدبلوماسية الأمريكية الفلسطينية (التي قطعها ترامب) وبتقديم الدعم للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة.
لقد التزم جو بايدن ونائبته كامالا هاريس في تصريحاتهما بما جاء في هذا البرنامج، ولكن ما سيجري تنفيذه على أرض الواقع هو تجديد العلاقات الدبلوماسية، وإعادة فتح السفارة الفلسطينية في واشنطن، وربّما القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وكذلك تقديم مساعدات مالية ستكون مشروطة بشروط سياسية لم تحدّد بعد، لكنّها قد تشمل التزامًا فلسطينيًا مجدّدًا باتفاق أوسلو، وإعادة التنسيق الأمني إلى سابق عهده. في المقابل فإنّ الإدارة الجديدة ستواصل تقديم الدعم لإسرائيل ومساندة عدوانها تحت مظلة «الدفاع عن النفس» كما فعلت إدارة أوباما بإرخاء الحبل لإسرائيل لإتمام جرائمها الفظيعة خلال الحرب على غزة عام 2014.
تتطلب حالة انهيار البيت العربي إعادة إعمار البيت الفلسطيني فورا، وعدم انتظار «الخلاص» من إدارة بايدن
صحيح أن بايدن يعد بحل الدولتين لكنّه لا يعد بالتنفيذ.. يعيد هذا الأمر إلى الاذهان ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق شامير، بعد خسارة جورج بوش الأب للانتخابات: «الحمد لله أننا تخلّصنا منه» معلّلًا بأنه أراد إعادة إسرائيل الى حدود 67، فسأله المذيع: «لكنّ كل الرؤساء الأمريكيين أيّدوا هذا الانسحاب» فردّ شامير: «صحيح، حملوا هذا الموقف، لكنّ بوش أراد أن ينفّذ». لا نعرف مدى صحة ما قاله شامير، لكنّنا نعرف أن بايدن يؤيّد حل الدولتين، ومع ذلك لن يسعى لتنفيذه، خاصة أن لديه معرفة بالموقف الإسرائيلي، وهو يعرف أنّه لن يتغيّر إلّا إذا غيّرت الولايات المتحدة سياساتها ومارست ضغطًا فعليًا على إسرائيل، وهذا لن يحدث في حقبة بايدن على الأقل. أما بالنسبة لضمان «التفوق العسكري النوعي QME « لإسرائيل، فإنّ الحزب الديمقراطي أكثر التزامًا بهذا المبدأ من الحزب الجمهوري. القفزة الكبرى في الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل لم تكن في عهد ترامب، بل في ولاية أوباما، حيث جرى التوقيع على اتفاقية دعم لعشر سنوات بمبلغ 38 مليار دولار، بزيادة حوالي 8 مليارات عن الدعم السابق. لقد سارعت إسرائيل إلى التوقيع على الاتفاق في نهاية ولاية أوباما، خشية أنها لن تحصل على الدعم نفسه إذا وصل ترامب للبيت الأبيض.
وإذ أن إسرائيل مطمئنّة إلى أن بايدن سيواصل الدعم كما هو، فهي ترغب بالمزيد، وتريد ان تربح مرتين، مرّة من ترامب لتعويضها عن «الخلل» في ميزان القوى بعد صفقة F35 مع الإمارات، ومرة أخرى دعم إضافي من بايدن إن هو نفّذ وعده بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. لهذا السبب هرع وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس إلى واشنطن قبل أسبوعين، ومعه رزمة من المطالب لأسلحة وتجهيزات جديدة، وقد رشح من مفاوضاته هناك أن الولايات المتحدة التزمت بان تكون طائرات F35، التي ستباع للإمارات او لغيرها، مزوّدة بتقنيات بمستوى أقل تقدمًا من الطائرات الإسرائيلية، كما طلب غانتس أسلحة وصفت بأنّها متقدمة جدًا وسرية، وأبدت إدارة ترامب استعدادًا مبدئيًا لتزويد إسرائيل بها، كما وعد البنتاغون إسرائيل بتطوير التعاون في مجال مواجهة خطر الصواريخ من إيران والعراق واليمن، كما نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية. ما أراده غانتس والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية هو أن استنفاد إمكانيات الاتفاق والتعاون الأمني مع إدارة ترامب قبل ان تولّي.
إسرائيل مطمئنّة إلى ان الولايات المتحدة لن تحرّك الملف الفلسطيني بشكل جدّي، لكنّها تخشى ان يقوم بايدن بالعودة الى الاتفاق النووي مع إيران، وقد بدأت بطرح مطالب تعجيزية في مسعى لإدخالها ضمن الشروط الأمريكية للاتفاق مع إيران. من المرجّح ان لا يقبل بايدن بالشروط الإسرائيلية، فلديه ما يكفي من الشروط ومن المستشارين، وهو ليس بحاجة لنصائح من إسرائيل في هذا المجال. إذا حصل اتفاق أمريكي مع إيران، فستقيم إسرائيل الدنيا ولن تقعدها وتطلب من إدارة بايدن المزيد من الأسلحة ليهدأ خاطرها قليلُا. وستحاول إدارة بايدن تهدئتها ببعض الأسلحة، وكذلك بالتخفيف من ضغطها، الخفيف اصلًا، في الملف الفلسطيني. من الصعب التنبّؤ بما ستفعله إدارة بايدن بشكل عيني في الملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط خاصة، وأنها تتبنّى سياسة الانسحاب التدريجي من المنطقة، الذي قد يؤدّي الى تعميق التحالف بين الأنظمة العربية الرجعية وإسرائيل، على حساب قضية الشعب الفلسطيني. وتتطلب حالة انهيار البيت العربي إعادة إعمار البيت الفلسطيني فورًا، وعدم انتظار «الخلاص» من إدارة بايدن، فهو لن يأتي. المطلوب ان يكون ترتيب البيت الفلسطيني قبل الدخول في متاهات العلاقة مع الإدارة الأمريكية الجديدة، وبالتأكيد فإنّ الموقف الفلسطيني الموحّد سيكون أقوى في التعامل مع تحديات مرحلة ما بعد ترامب، وخراب ترامب، خاصة بكل ما يتعلّق بمحاولة أمريكية متوقّعة لفرض إملاءات سياسية، مقابل بعض الدعم وتخفيف الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني.
جمال زحالقة
القدس العربي