ملاحظات أولية على انتخابات الرئاسة الأميركية

ملاحظات أولية على انتخابات الرئاسة الأميركية

لم تكن انتخابات الرئاسة الأميركية، في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، عادية بأي مقياس، بل يمكن القول، من دون أدنى قدر من المبالغة، إنها الأغرب والأخطر والأكثر إثارة في تاريخ الولايات المتحدة، وأيضا إن بعض الآثار التي تمخضت عنها ستظل حاضرة، ومتفاعلة على مسرح السياسة الأميركية والعالمية فترة طويلة. صحيحٌ أن وسائل الإعلام الأميركية أعلنت بالفعل، وبالإجماع، فوز جو بايدن، وأن معظم رؤساء الدول والحكومات قدموا له التهنئة، وأنه بدأ في تشكيل الفريق المعاون له، وفي اتخاذ الاستعدادات اللازمة لتمكينه من ممارسة السلطة فور دخوله البيت الأبيض يوم 20 يناير/ كانون الثاني المقبل، إلا أن الرئيس ترامب، وعلى غير المألوف في التقاليد السياسية الأميركية، لم يعترف بفوز جو بايدن، ولم يهنئه بالفوز حتى كتابة هذه السطور، وما زال يؤكد أنه الفائز الحقيقي في هذه الانتخابات التي يدّعي أن عمليات تزوير واسعة شابتها.

وتدلّ مؤشّرات عديدة على أن هذا الرجل الغريب الأطوار عازم على التمادي في حالة الإنكار التي تتقمصه، بالتشكيك في صحة النتائج المعلنة، وبالإصرار على خوض المعركة القضائية حتى النهاية، بما في ذلك الذهاب إلى المحكمة العليا إن اقتضى الأمر، بهدف تعديل النتائج المعلنة، ولتمكينه من الفوز بفترة ولاية ثانية. ليس هذا فحسب، بل يبدو مصرّا، في الوقت نفسه، على الانتقام ليس فقط ممن يعتقد أنهم خذلوه أو تسبببوا بخسارته، وإنما من بايدن نفسه، بالإصرار على إثارة كل ما يستطيع من عقبات، ووضع كل ما يقدر عليه من عراقيل في طريق الرئيس المنتخب. لذا سيظل العالم يحبس أنفاسه حتى يوم 20 يناير/ كانون الثاني المقبل، تحسبا لأي عمل غير مألوف وغير متوقع، قد يُقدم عليه ترامب الخاسر والغاضب إلى حد الجنون.

جرت الانتخابات في جو من الانقسام المجتمعي الحاد، ومن ثم نجحت في تحفيز أكثر من 150 مليون ناخب على المشاركة فيها

قد يكون الوقت مبكرا للقيام بتحليل شامل لما أسفرت عنه هذه الانتخابات المثيرة من نتائج، أو لتقييم تأثيراتها المحتملة على الصعيدين، الداخلي والخارجي. لذا أكتفي هنا بملاحظات أولية، أجملها على النحو التالي:

الأولى: تتعلق بدلالات التصويت. جرت هذه الانتخابات في جو من الانقسام المجتمعي الحاد، ومن ثم نجحت في تحفيز أكثر من 150 مليون ناخب على المشاركة فيها، سواء بالذهاب مباشرة إلى صناديق الاقتراع في اليوم المحدّد له، أو بأي وسيلة أخرى من الوسائل التي تحدّدها قوانين الولايات، بما في ذلك التصويت عبر البريد. معنى ذلك أن نسبة المشاركة الفعلية في هذه الانتخابات بلغت ما يقرب من 70% من إجمالي المقيدين على الجداول الانتخابية، وهي أعلى نسبة في تاريخ الانتخابات الرئاسية الأميركية منذ أكثر من قرن. وفي تقديري، لم يتوجّه الناخبون إلى المشاركة في انتخابات هذه المرة للمفاضلة والاختيار بين زعيمين، يرى أنصارهما أن سماتهما الشخصية تؤهلهما لقيادة البلاد بشكل أفضل، وإنما للاختيار والمفاضلة بين مشروعين مجتمعيين ورؤيتين سياسيتين وتيارين فكريين. فالذين صوتوا لصالح ترامب، بعد كل ما تكشف من سماته الشخصية غير المتزنة، والمثيرة للجدل، خلال السنوات الأربع الماضية، لم يذهبوا إعجابا بشخصه أو بصفاته القيادية، ولكن انحيازا إلى ما يمثله مجتمعيا وفكريا وسياسيا. كذلك الحال بالنسبة لجو بايدن الذي يرى مراقبون كثيرون أنه يفتقد إلى سمات عديدة من الكاريزما، ومن مقومات القيادة أو الزعامة. بعبارة أخرى، يمكن القول إنها كانت انتخابات كاشفة في حد ذاتها عن عمق الانقسام الذي أصاب المجتمع الأميركي على المستويات كافة، ومن جميع الزوايا.

انتخابات كاشفة عن عمق الانقسام الذي أصاب المجتمع الأميركي على المستويات كافة، ومن جميع الزوايا

الثانية: تتعلق بدلالات نتائجها المعلنة حتى الآن. تشير هذه النتائج، ظاهريا، إلى أن جون بايدن حقق في هذه الانتخابات فوزا صعبا، وأن الكفة بدت، في أحيان كثيرة، وكأنها قابلة لأن تميل، في أي لحظة، لصالح ترامب الذي كان يمكن أن يخرج منها فائزا وليس خاسرا. غير أن التدقيق فيما أعلن من هذه النتائج يشير إلى عكس ذلك، ويدل على أن الفوز الذي حققه بايدن كان مريحا، إن لم يكن كاسحا، فقد حصل في التصويت الشعبي على أكثر من خمسة وسبعين مليون صوت، أي بزيادة قدرها أكثر من خمسة ملايين صوت مقارنة بما حصل عليه ترامب. صحيحٌ أن الأخير حصل في انتخات 2020 التي خسرها على أصوات أكبر من التي مكّنته من الفوز في انتخابات 2016، ولكن يجب ألا ننسى أن المرشحة المتنافسة معه، هيلاري كلينتون، حصلت في تلك الانتخابات، على الرغم من خسارتها، على أصواتٍ تزيد بأقل قليلا من ثلاثة ملايين صوت عما حصل عليه ترامب، على الرغم من فوزه. بعبارة أخرى يمكن القول إن ترامب خرج من انتخابات 2016 نصف فائز أو نصف مهزوم، أما في انتخابات 2020 فهزيمته كاملة وتامة على صعيدي التصويت الشعبي وأصوات المجمع الانتخابي.

الأخطر أن تصرفات ترامب بدأت تأخذ شكل الانتقام ممن يعتقد أنهم خذلوه، أو لم يقفوا إلى جواره بالقدر الكافي أو المتوقع منهم

الثالثة: تتعلق بجدية الاعتراضات التي يثيرها ترامب. تفتقر تماما إلى أدنى قدر من الجدّية، والغرض منها هو التشكيك وإثارة البلبلة لا أكثر ولا أقل. إذ يبدو واضحا لكل ذي عينين أن أغلب الذين توجهوا إلى صناديق الاقتراع مباشرة كانوا من أنصار ترامب، وأن أغلب الذين صوتوا عبر البريد، وعددهم يقترب من مائة مليون ناخب، بسبب فيروس كورونا، كانوا من أنصار بايدن. وهذا طبيعي ومنطقي جدا، بالنظر إلى أن ترامب هو من قاد بنفسه حملة التهوين من شأن الفيروس، وحرّض أنصاره على عدم ارتداء الكمّامة، بينما كان بايدن يفعل العكس على طول الخط. لذا الأرجح ألا تسفر القضايا المرفوعة من إدارة ترامب عن أي نتيجة ملموسة تثبت ادعاءات التزوير، حتى لو جرى إعادة الفرز في بعض الدوائر الانتخابية، أو حتى في بعض الولايات مثل جورجيا. طبعا ليس من المستبعد وجود أخطاء بشرية في حساب الأصوات الصحيحة، ولكن من المستبعد تماما أن تكون من الضخامة، بحيث تغير من نتيجة الانتخابات. ولأن التصويت بالبريد أمر تجيزه لوائح معظم الولايات وقوانينها، يجب أن يدخل في الحسبان، طالما أنه أرسل قبل يوم الانتخاب، وولو وصل متأخرا. أما إذا نجح ترامب، باستخدام واحدة أو أكثر من وسائله الملتوية المعتادة، في الفوز بالمعركة القضائية، وإثبات أن الانتخابات شهدت تزويرا متعمدا واسعا لصالح بايدن، فسيشكل هذا النجاح ضربة قاصمة ليس لبايدن وحده، وإنما أيضا للديمقراطية الأميركية وللنظام الانتخابي الأميركي برمته، وهذا مستبعد بالمطلق، ولا يمكن تصور حدوثه، لأن النتائج المترتبة عليه ستكون أخطر وأبعد أثر بكثير من مجرد استبدال رئيس بآخر.

ستتنفس شعوب العالم بأسره الصعداء، حين تشاهد ترامب، وهو يضع قدميه خارج البيت الأبيض

الرابعة: تتعلق بسلوك ترامب المحتمل خلال الفترة الانتقالية المتبقية من ولايته. بدأ يتصرّف الآن كثور جريح، فعلى الرغم من أنه يؤمن في قرارة نفسه بأنه خسر الانتخابات فعلا، بدليل ما تردّد إنه يفكر جديا ويبحث في إمكانية الترشح في انتخابات 2024، مرشحا عن الحزب الجمهوري أو مستقلا، إلا أن تصرّفاته تعكس حالة إنكار تدفعه إلى اتخاذ إجراءات طائشة، ومن ثم يتوقع أن يقدم على تصرّفات أكثر جنونا مما هو متوقع، فقد أعطى ترامب تعليماته بعدم اتخاذ الإجراءات التي تكفل انتقالا سلسا للسلطة، الأمر الذي أدّى إلى امتناع مديرة إدارة الخدمات العامة، إيميلي مورفي، عن الإفراج عن الأموال، أو إتاحة الأماكن اللازمة، لتمكين بايدن من إدارة المرحلة الانتقالية بطريقة معتادة، وإلى امتناع أجهزة الأمن والاستخبارات عن تقديم الإفادات والمعلومات السرية اللازمة لإحاطته بما يحدث في العالم، ولتمكين الرئيس المنتخب من متابعة القضايا التي قد تنطوي على تهديد لأمن الولايات المتحدة، وهو ما يرى فيه كثيرون تجاوزا للخطوط الحمراء. الأخطر أن تصرفات ترامب بدأت تأخذ شكل الانتقام ممن يعتقد أنهم خذلوه، أو لم يقفوا إلى جواره بالقدر الكافي أو المتوقع منهم، بل وصلت هذه التصرّفات إلى حد تعمد وضع العراقيل أمام جو بايدن، لشل قدرته على التعامل الفعال مع ملفاتٍ بعينها في المستقبل، في مقدمتها ملفا إيران النووي والصراع العربي الإسرائيلي، فقد يكون لقرار ترامب إبعاد وزير الدفاع، مارك إسبر، في توقيت كهذا، دلالات أبعد من مجرد الانتقام من رجلٍ لم يكن مستعدا لأن يقول له نعم على طول الخط، وأن يطيع أوامر تتناقض مع قناعاته الشخصية، فمن المعروف للكافة أن إسبر كان قد رفض طلبا لترامب بإنزال الجيش لضرب المتظاهرين، ولا يستبعد أن يكون تمهيدا لشن هجوم خاطف على إيران، أو لمنح إسرائيل ضوءا أخضر لتوجيه ضربة كبيرة لحزب الله، أو للقيام بأي عملٍ من شأنه تعقيد خطط بايدين، إذا ما أراد التعجيل بعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران. بل ولا يستبعد أن يحرّض ترامب رئيس حكومة إسرائيل، نتنياهو، ويدفعه إلى استغلال المرحلة الانتقالية، لضم غور الأردن والمستوطنات اليهودية إلى إسرائيل.

سيظلّ العالم يحبس أنفاسه إلى أن يتمكّن بايدن من وضع قدمه في البيت الأبيض. صحيح أن سياساته المقبلة قد لا تكون على مستوى التوقعات أو الطموحات، وقد تشكل إحباطا لكثيرين، ولكن لا شك في أن شعوب العالم بأسره ستتنفس الصعداء، حين تشاهد ترامب وهو يضع قدميه خارج البيت الأبيض.

د. حسن نافعة

العربي الجديد