ترجح غالبية القيادات السياسية والأوساط المتابعة على مستوى العالم لجوء الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترمب إلى فرض مزيد من العقوبات على إيران في الأيام المتبقية من ولايته حتى 20 يناير (كانون الثاني) 2021. ويُتوقع أن تعقد هذه العقوبات المهمة أمام الرئيس الجديد جو بايدن وتعرقل أجندته السياسية والإستراتيجية في التعامل مع الأزمة. هذا في حال تم استبعاد أو إخراج خيار العملية العسكرية المباشرة على منشآت حيوية أو نووية في نطنز وغيرها، الذي ارتفعت وتيرة الحديث عنه في الأيام الماضية، أو عمليات متفرقة تستهدف حلفاء إيران في الشرق الأوسط.
خيار مزيد من العقوبات على إيران يبدو الأكثر مرونة لدى ترمب وإدارته في أيامهما الأخيرة، بالتزامن مع قرار خفض عديد القوات الأميركية في العراق وأفغانستان، على الرغم من المعارضة الواسعة من داخل الحزب الجمهوري لهذا القرار، خصوصاً من البلدين الجارين لإيران، وما في ذلك من أضرار قد تلحق بالإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط ومنطقة غرب آسيا.
المؤسسة العسكرية الإيرانية تراقب عن كثب وبكثير من الحذر مع حلفائها في الإقليم الإجراءات الأميركية العسكرية التي بدأت منذ أسابيع مع قرار إخراج القطعات البحرية للأسطول الأميركي من مياه الخليج في اتجاه المياه الدولية في المحيط الهندي على مقربة من المنطقة، لإبعادها عن مصادر النيران المعادية. وهذه الإجراءات تعتبر تمهيدية لإمكانية الدخول في حرب محتملة. ما استدعى من الجيش وحرس الثورة الإيرانيين وحلفاء طهران الدخول في حالة استنفار للرد على أي عمل ضدها. وقد ارتفعت هذه الحالة مع الإعلان الأميركي عن خفض عديد القوات في العراق وأفغانستان. ما رفع من احتمال اللجوء إلى عمل عسكري. ولعل ما عبر عنه المسؤول السابق لشؤون غرب آسيا في الخارجية الإيرانية رسول موسوي، إذ قال “على أميركا ألا تخرج من أفغانستان بطريقة غير مسؤولة”، هو مؤشر على هذه المخاوف وإن جاء هذا الموقف في سياق كلام موسوي عن آليات الحوار الأميركي مع حركة طالبان والتعاون الأمني بين إيران والحركة في المناطق الحدودية المشتركة بين البلدين.
وعلى الرغم من استبعاد القيادات السياسية الإيرانية لجوء ترمب إلى خيار عسكري محدود، فإن القلق الإيراني الحقيقي يتجاوز أهداف هذا التهديد وخيارات الرد عليه. فقد سارع علي ربيعي، المتحدث باسم حكومة الرئيس حسن روحاني، إلى التأكيد أن الخيار العسكري سيكون “مدمراً”، في إشارة إلى إمكان استهداف إسرائيل بشكل مباشر، إلى جانب القواعد الأميركية ومصالحها في منطقة غرب آسيا. ويرتبط هذا القلق بالتحديات التي تحملها إدارة بايدن وكيفية تعاملها مع إرث ترمب من عقوبات متشعبة ومتداخلة ليس من السهل على الإدارة الجديدة تفكيكها من دون تعاون إيجابي من مجلسي الشيوخ والكونغرس.
الصمت الذي يهيمن على فريق الرئيس الأميركي الجديد، وحتى على الرئيس نفسه، حول الآليات التي سيعتمدها لتنفيذ الوعد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، يكشف مدى الصعوبات التي ستواجه الإدارة الجديدة في التعامل مع هذا الملف. فإذا ما أقدم بايدن على تنفيذ هذا الوعد، فإنه سيكون ملزماً بالتعامل مع النتائج التي ترتبت على قرار الانسحاب الذي اتخذه سلفه ترمب في مايو (أيار) 2018. وسيكون عليه سلوك ثلاثة مسارات في هذا الإطار.
المسار الأول، يقتصر على العودة إلى طاولة المفاوضات، وما يعنيه من العودة إلى رفع العقوبات التي ألغاها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231 الذي شكل المظلة الدولية للاتفاق النووي، وهو إجراء أقدمت عليه إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما من دون نجاح كبير على المستوى الأميركي بسبب العراقيل التي وضعها أمامه مجلس الشيوخ حينها. إلا أن القرار الدولي سمح للدول الغربية، خصوصاً الترويكا الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) بالانفتاح على إيران والتعاون التجاري والاقتصادي والنفطي معها في المجالات التي حددها قرار مجلس الأمن الذي استثنى العقوبات التي فرضت على النظام الإيراني في مجالات حقوق الإنسان والحريات والإرهاب. وهي التي قيدت أوباما ومنعته من الذهاب إلى سياسة أكثر انفتاحاً على طهران.
المسار الثاني، هو تضييق فعالية العقوبات التي فرضها ترمب، من خلال الحد من فعاليتها التي أعطاها ترمب تأثيراً دولياً يطال كل الجهات غير الأميركية التي تتعامل مع إيران في المجالات الاقتصادية والمالية. أي جعل هذه العقوبات خاصة بالشركات الأميركية من دون غيرها من الشركات غير الأميركية.
المسار الثالث، هو الضغط على إيران للحصول منها على تنازلات تطال جوانب أخرى من خارج الاتفاق النووي، والتي تشكل عامل عدم استقرار ومصدر قلق لواشنطن والمجتمع الدولي ودول في الشرق الأوسط، تحديداً تلك التي تأتي من البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي. وقد يعمد بايدن إلى استخدام سيف العقوبات التي وضعت تحت بند مجالات حقوق الإنسان والإرهاب، مستخدماً ورقة سلفه ترمب الذي وضع غالبيتها تحت هذه العناوين، في حين يتطلب إلغاؤها موافقة مجلسي الشيوخ والكونغرس.
هنا، يكمن فهم الإجراءات التي لجأ إليها النظام الإيراني في الأسابيع الماضية، بإصدار المرشد الأعلى علي خامنئي عفواً عن بعض المعتقلين السياسيين وعدد من المشاركين في “انتفاضة البنزين” في ديسمبر (كانون الأول) 2019، فضلاً عن قرار إطلاق سراح الناشطتين نركس محمدي ونسرين ستوده، وتخفيف القيود عن مهدي كروبي الموضوع في الإقامة الجبرية مع مير حسين موسوي وزوجته زهرا رهنورد منذ عام 2009 بعد انتفاضة الحركة الخضراء، إضافة إلى رفع القيود والإبعاد عن عدد من دراويش الحركة الصوفية وبعض الناشطين من نقابات مختلفة.
هذه الإجراءات تصب في إطار محاولة النظام تفكيك ملف الاتهامات التي تطاله في مجال حقوق الإنسان والحريات السياسية والاجتماعية والفكرية والعقائدية، في محاولة لتمهيد الطريق أمام نزع الألغام من طريق التفاوض مع واشنطن في المرحلة المقبلة. وإلا كيف يمكن تفسير المبادرة التي قام بها وزير الخارجية محمد جواد ظريف بالاتصال بنظيره البريطاني دومينيك راب التي لا يمكن أن تحصل من دون التنسيق مع المرشد الأعلى وموافقته. وهي مبادرة لا يمكن أن تقتصر مفاعليها على مفاوضات إطلاق سراح البريطانية من أصول إيرانية نازنين زاغري مقابل رفع القيود عن أموال إيرانية مجمدة منذ عقود في بريطانيا، لأن هذه المفاوضات المتوقفة كانت قبل أشهر تقترب من خواتيمها إلا أنها تعطلت مع اشتداد المعركة الانتخابية الأميركية.
حسن فحص
اندبندت عربي