أتت إعادة افتتاح معبر عرعر الحدودي بين السعودية والعراق، بعد خطوات التكامل الاقتصادي بين مصر والعراق والأردن، لتدلل على المسعى العراقي للعودة إلى الحاضنة العربية واستعادة الدور العربي الضائع لبغداد. لكن نجاح هذا المسار سيتوقف على التجاذب الأميركي – الإيراني إزاء هذا البلد.
منذ وصول الدكتور مصطفى الكاظمي إلى سدة الحكم تبعا لتطورات الاشتباك المباشر أو بالوكالة بين الطرفين الأميركي والإيراني على الساحة العراقية والذي أسفر عن توازن سلبي أتاح بدء الانفتاح العراقي على محيطه العربي من دون أن يعني ذلك الخروج من دائرة النفوذ الإيراني والتملص من التأثير الأميركي. وفي نفس الإطار يرتبط الأمر بمصير اليقظة الوطنية العراقية وانتفاضتها في السنتين الأخيرتين، لأنه من دون إعادة بناء الدولة العراقية بشكل صحيح مع تدعيم أسس دولة القانون والسيادة والشفافية والمساءلة والعدالة، لن تبدأ إعادة تأهيل دور العراق الخارجي ولن تستكمل من دون إفلاته من القبضة الإيرانية والنفوذ الأميركي المباشر.
خلال عهد دونالد ترامب، كان العراق ساحة التجاذب الرئيسية بين واشنطن وطهران، وكان العام 2020 حافلا من خلال قصف حلفاء إيران واغتيال قاسم سليماني وصحبه، والرد عبر عملية عين الأسد الشكلية واستمرار رشقات الصواريخ على السفارة الأميركية في بغداد ومحيطها. واللافت أن الهجوم الصاروخي هذا الأسبوع أنهى هدنة غير معلنة تحت إشراف بعثة الأمم المتحدة، ما يشير إلى عدم قدرة الحكومة العراقية على ضبط هذا الصراع.
وعلى الأرجح ليس من المصادفات أن يأتي تحرك الميليشيات الموالية لإيران عشية افتتاح معبر عرعر المغلق بين العراق والمملكة العربية السعودية منذ ثلاثين عاما. وكأن وراء هذه الرسالة المسلحة يكمن الاعتراض على الانفتاح العربي وتوجيه تحذير إلى الإدارة الأميركية القادمة.
في المقابل من الغريب أنه لأول مرة منذ 16 عاما لم يكن العراق حاضرا في سياق الحملة الانتخابية الأميركية الأخيرة، ولم تكن هناك أية إشارة في حملة الرئيس المنتخب إلى طبيعة السياسة التي ستعتمدها إدارته في الملف العراقي. على الرغم من أن جو بايدن كان نائب الرئيس أوباما حين الانسحاب الأميركي الكامل من العراق في نهاية العام 2011، وكان شاهدا أيضا على قرار البيت الأبيض في واشنطن إعادة القوات لمجابهة تنظيم داعش في صيف 2014، من دون وضع تصور نهائي لمستقبل الوجود الأميركي في العراق.
منذ حرب العام 2003 التي جرى توصيفها ضمن “الحروب التي لا تنتهي” في القاموس الاستراتيجي الأميركي، تقاسمت واشنطن وطهران النفوذ في العراق. ولم تعد الدوائر الأميركية تنظر إلى بلاد الرافدين بشكل مستقل وخاص، فهي طورا “دولة فاشلة” (نتاج آثار إدارة بريمر والفساد المنهجي والاستفادة الإيرانية) أو “ملاذ الجهاديين” أو “موئل الإرهاب” وأخيرا تتم مقاربتها من منظور الملف الإيراني.
وطالما هناك أفق لحوار مع إيران سيكون العراق على جدول الأعمال ولذا ستكون إدارة بايدن ملزمة على المدى القصير بالاحتفاظ بوجود عسكري محدود في العراق، بمعزل عن المواقف الرافضة في العلن من قبل غالبية القوى العراقية التابعة، خاصة وأن هذه المواقف ستعتمد على تطورات العلاقة الأميركية ـ الإيرانية، وعلى تصميم الإدارة الأميركية على عدم التضحية بما استثمرت فيه واشنطن منذ فترة طويلة. ولذا لاحظنا أن استراتيجية الضغط الأقصى الترامبية لم تمس الشراكة الأميركية – الإيرانية في العراق حيث تم استثناء بغداد من العقوبات ضد إيران، وتم ترك العراق بمثابة رئة لتنفس الاقتصاد الإيراني المنهك (تصدير الغاز والكهرباء إلى العراق ومبادلات تجارية وصلت إلى ما يقارب 9 مليارات دولار سنويا). ومن الواضح أن “التوازن السلبي” بين الطرفين أو اللعبة المزدوجة لواشنطن ستستمر إبان المفاوضات المنتظرة بين إدارة بايدن والنظام الإيراني.
في سياق هذا التجاذب والتقاطع تحاول حكومة الكاظمي التحرك بمرونة ودقة لعدم تضارب المصالح الأميركية والمصالح الإيرانية مع انفتاح محدود على لاعبين خارجيين مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا، وذلك بالتزامن مع جهد كبير لتطوير العلاقات العربية بدأ مع بلورة اتفاقية تكامل اقتصادي بين العراق ومصر والأردن، وهذه الدول الثلاث تمتلك ثروة بشرية تقدر بـ150 مليون مواطن وثروة نفطية هائلة واحتياطات ضخمة جدا من النفط الخام والغاز، وتمتلك مصر والأردن مواقع استراتيجية هامة جدا، مثل خليج العقبة وقناة السويس، يمكن أن تشكل منافذ للعراق.
ومن دون شك فإن تصدير النفط العراقي إلى مصر لتكريره وبيعه مقابل تصدير الكهرباء إلى العراق (ضمن الربط الكهربائي بين مصر والأردن) يكرس إنجازا لهذه الأطراف. ودوما في نفس الاتجاه تندرج الانفراجة السعودية – العراقية وقبل فتح معبر عرعر في 18 نوفمبر الحالي، أكد اجتماع التنسيق العراقي – السعودي عبر تقنية الفيديو يوم 10 نوفمبر بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء العراقي الدكتور مصطفى الكاظمي على أهمية تعزيز العلاقات بين البلدين وتوسيع آفاق التعاون في المجالات المختلفة (السياسية والأمنية والتجارية والاستثمارية والسياحية) والتعاون في مجالات الطاقة وتبادل الخبرات.
لكن مجرد التداول بشأن استثمارات سعودية كبيرة في الزراعة وصناعة الألبان، سرعان ما أزعج الانفتاح العراقي – السعودي، أطرافا موالية لطهران، إذ أصدر زعماء فصائل مسلحة وقادة كتل بيانات وتصريحات صحافية ضد الاستثمارات السعودية ومشاريع عربية أخرى شملت حتى الاتفاقية بين بغداد والقاهرة.
يبرهن كل ذلك أن إيران تحاول التحكم بالشأن العراقي لجهة التسليم بدور أميركي محدد من دون المس بالتغول الإيراني، وفي نفس السياق يمكن القبول بانفتاح عراقي خجول على العالم العربي لا أكثر. ستبقى حكومة مصطفى الكاظمي “المتوازنة” ما دام هناك أفق للمساومة الأميركية – الإيرانية. ولن تتغير موازين القوى مع الانتخابات المبكرة القادمة لأن شباب الاحتجاجات الداعين إلى تغيير النظام بالوسائل السلمية لم ينجحوا في تنظيم صفوفهم، ولأن القانون الانتخابي ونمط المحاصصة سيضمنان عدم تغيّر الخارطة السياسية بشكل ملموس. ومن هنا يبدو درب استعادة الدور الإقليمي للعراق شائكا ما دام الاستنهاض الوطني رهينة تمزق الداخل وصراعات الآخرين.
د.خطار أبو دياب
العرب