تركيا ترسل بحريتها ووحداتها العسكرية في كل الاتجاهات في طول وعرض شرق البحر الأبيض المتوسط، من المياه الدولية المحيطة بقبرص بحثاً عن الغاز، إلى بحر إيجة لاختراق المجال البحري اليوناني، إلى حدود المياه الاقتصادية بين مصر واليونان، إلى الغرب الليبي، حيث تقوم بإنزالات عسكرية، إلى الجنوب الليبي للوصول إلى بوابات الساحل الأفريقي الواسع. وعلى المحور الشرقي ترسل أنقره وحدات للتمركز في قطر، وتدعم ميليشيات في جنوب اليمن، وصولاً إلى تعزيز نفوذ مشترك مع الدوحة في الصومال. هذه أعمال ميدانية كبرى من طراز إستراتيجيات القوى العظمى، وليس من منهجيات وقدرات الدول الوطنية في المنطقة.
في المقابل، يتحرك التحالف العربي ضمن قدراته، عبر مصر والشرق الليبي لردع “التوسع” التركي في شمال أفريقيا برسم خط أحمر من سرت إلى الجفرة، شبيه بالخط الفاصل بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية خلال الحرب الباردة. إلا أن “عرب الاعتدال” انتقلوا إلى مرحلة بناء التحالفات “الأطلسية” مع عضوين من الحلف يطلان على المتوسط، هما فرنسا (وهي قوة عظمى)، واليونان التي لها حدود بحرية هائلة مع السواحل التركية من مرمرة إلى المتوسط. فبدأت البحرية المصرية والإماراتية تشاركان البحريتين الأطلسيتين الفرنسية واليونانية، والبحرية “الأوروبية” القبرصية في مناورات مشتركة في شرق البحر المتوسط، ونشير، إلى أن قطعاً بحرية إيطالية وألمانية، وهي أطلسية وأوروبية، تشارك في عمليات ضبط السلاح المهرب إلى ليبيا، وهو في أكثره يرسل على متن سفن تركية.
إذاً هناك محوران بحريان يتبارزان في شرق المتوسط، محور تركي (عضو وحيد في الأطلسي) قطري، يتحرك تحت المظلة الفكرية للإخوان، ويسيطر على أجزاء من ليبيا وسوريا، ومحور عربي أطلسي أوروبي، يمتد من الجزيرة إلى شمال أفريقيا، وإلى السواحل القبرصية واليونانية والفرنسية، وتبقى ثلاث قوى متوسطية أخرى خارج المعادلة حتى الآن.
الأولى هي روسيا والنظام السوري، ومن ورائهما إيران و”حزب الله”، هذا المحور يسيطر على كامل الساحلين السوري واللبناني، مع قاعدة إستراتيجية في طرطوس، وله مصالحه الخاصة، ويعمل على تعزيز تواجده على الساحل الشرقي للمتوسط، ويسعى أحياناً للتمدد إلى ليبيا أو البحر الأحمر، والمحور الروسي الإيراني يسعى إلى ربط مواقعه في المشرق بروسيا عبر البوسفور، أو بإيران عبر السويس وباب المندب.
ثم هناك إسرائيل ذات القوة العسكرية القوية، بما فيها الطيران والبحرية، مع العلم أن أولويتها هي، ردع إيران شرقاً، ومواجهة “حزب الله” شمالاً، فهي لها أصدقاء وخصوم في المتوسط، وتنسق مع مصر ضد الإرهابيين في سيناء، وتشارك مع قبرص واليونان في مناورات مشتركة، ولها علاقات لمكافحة الإرهاب مع فرنسا، وبدأت علاقات مميزة مع الإمارات تتوجه إلى المكافحة المشتركة للتطرف، ومن المعروف أن حكم أردوغان قد شن حملات انتقاد ضد إسرائيل منذ سنوات، إلا أن المفارقة أن التجارة بين الدولتين لها حجم كبير، لذا بينما تنسق الحكومة الإسرائيلية مع حلفائها الأطلسيين ضد التكفيريين (يسمون جهاديين في الغرب) في المتوسط، لا تزال تل أبيب تبقي الحد الأدنى “التجاري” مع تركيا على الرغم من دعم هذه الأخيرة لحماس في غزة.
المملكة العربية السعودية، تلعب الدور المركزي في قيادة التحالف العربي لمواجهة إيران في الخليج بالشراكة مع مصر والإمارات، وتقود جهود محور الاعتدال الإسلامي ضد المنظومة “الإسلاموية”، في شرق المتوسط، وتدعم الرياض الدور المصري والإماراتي في التواصل مع الشركاء الأوروبيين في الكفاح ضد الإرهاب والميليشيات الإخوانية، وعملياً في التوازن مع قوة الرئيس أردوغان.
ويبقى أخيراً الدور الإستراتيجي للولايات المتحدة، فأين تقف واشنطن من سباق المحاور بين “الكتلة الإخوانية الإقليمية” والحلف العربي الأوروبي؟.
في عهد إدارة أوباما اقترب البيت الأبيض من الإخوان وقطر، وبشكل غير مباشر، من الرئيس أردوغان، وكما شهدته السنوات الست منذ الربيع العربي، وقفت إدارة أوباما مع الإخوان ضد خصومهم في مصر، وليبيا، وتونس، بالإضافة إلى سوريا، ولو جزئياً، وكذلك توقفت واشنطن عن مجابهة إيران عملياً منذ رسالة أوباما إلى خامنئي في 2009، وصولاً إلى ذروة العلاقات الجديدة عبر الاتفاق النووي منذ عام 2015.
ترمب قلب المعادلة كلياً مع طهران، عبر انسحابه من الاتفاق، ونشره قوات إضافية في الخليج، ووضع الباسدران على لوائح الإرهاب، وضربات على قيادات القدس، وغيّر السياسة الأميركية تجاه طهران، ولكن إدارته لم تغيرها تجاه المحور الإخواني، وذلك لأسباب متعددة ومعقدة، وقد تفاجأ التحالف العربي منذ 2017 لعدم حسم واشنطن هذا الخيار، لا سيما بعد قمة الرياض ومقاطعة التحالف قطر في يونيو (حزيران) من العام نفسه، إذاً، ففي الوقت الذي صعد ترمب ضد إيران بقوة، ترك إدارته تقف في منتصف الطريق بين المحور القطري التركي والتحالف العربي، ما أعطى ضوءاً أخضر ذاتياً لمحور الإخوان أن يتحرك في المنطقة من دون فرامل أميركية، وستكشف الأيام قريباً عن عمق التأثير القطري في واشنطن، وكيف تمكن من تغطية التحركات الميدانية في الإقليم وخصوصاً في سوريا وليبيا.
إلا أن الصدمة الأقوى كانت لدى الرئيس ماكرون وحكومته، عندما تعرضت فرنسا لهجوم سياسي شرس من قبل الرئيس أردوغان ومنظومة الإخوان في الأسابيع الماضية، والمفاجأة الكبرى كانت لدى الدول الأوروبية الأطلسية، خصوصاً اليونان وفرنسا، وجمهورية قبرص، عندما لم تتحرك إدارة ترمب للدفاع عن سفن الـ”ناتو” الأوروبية عندما تعرضت لتهديد البحرية التركية.
لذلك، وبغض النظر عن تدخل دبلوماسي أميركي، للحد من إرسال الأسلحة من تركيا إلى ليبيا، فواشنطن لم تكشر عن أنيابها أمام انتشار التكفيريين (الجهاديين) في طرابلس، ولم تضغط بقوة على أنقرة لسحبهم، لذلك لا يُنتظر أن تعبئ إدارة ترمب، وهي تخوض معركة قانونية وسياسية شرسة حول نتائج الانتخابات الرئاسية، لمواجهة في المتوسط إلى جانب حلفائها الأطلسيين الأوروبيين والعرب، إلا أن ولاية ثانية لترمب، وهي صعبة المنال، ولكن ليست مستحيلة نظرياً، كانت لتشهد تغييرات سياسية إستراتيجية بسبب “معاهدة أبراهام” بين التحالف العربي وإسرائيل، فهذه الأخيرة كانت لتغير بعض المعادلات في واشنطن.
أما فريق بايدن، الذي يتكون من فريق أوباما للسياسة الخارجية، فهو لن يصطدم بأردوغان وقط، بالعكس تماماً، فاللوبي الإخواني له نفوذ مؤسساتي أقوى على معسكر أوباما وبايدن، ونظم هذا اللوبي دعماً “إسلاموياً” واسعاً لحملة بايدن، وسيكون للنواب الممثلين لهذا التيار مواقع مهمة داخل الإدارة أو على الأقل تأثير فعال، من هنا، فمحاور شرق المتوسط ستحافظ على “ستاتوسكو” معين إذا دخل بايدن البيت الأبيض، وكذلك إذا حصلت مفاجآت أخرى.
المحور العربي الأوروبي في المتوسط خلال الأشهر التسعة المقبلة عليه أن يتقدم على محورين، حتى اتضاح الأمور في أميركا، أولاً أن يطور هذا الحلف العربي الأطلسي قدراته وتحركاته ليتحول إلى واقع لا بد لأية إدارة أن تأخذه في الحسبان، وثانياً أن تُوسع “معاهدة أبراهام” لأبعد الحدود، لتصبح العودة إلى الوراء مستحيلة.
وليد فارس
اندبندت عربي