اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده في طهران تعبير عن سعي إسرائيل والولايات المتحدة لمنع إيران من إمتلاك قدرات نووية، هذا الصراع ليس جديدا، ففي تعبيرات وتصريحات المسـؤولين الإسرائيليين ما يؤكد بأن إسرائيل لديها هوس في منع هذا الاحتمال، وذلك بالرغم من حقيقة انها الدولة النووية الأولى في منطقة الشرق الاوسط، وهذا الهوس نفسه متوفر لدى اليمين الأمريكي والأنجيليين ومؤيدي إسرائيل. لقد تم اغتيال قاسم سليماني في اواخر 2019 مما يعكس ايضا طبيعة الصراع الأمريكي( اليمين الأمريكي) الإسرائيلي مع إيران، كما أن علماء نوويين آخرين تم اغتيالهم في ظل ظروف غامضة. والواضح أن الرئيس ترامب أراد تصعيدا عسكريا رفضته المؤسسة العسكرية الأمريكية، مما دفع بترامب للموافقة على عملية الإغتيال. لكن الإغتيال يكشف مدى التعاون الإسرائيلي الأمريكي، ففي هذه العملية بصمات الموساد وبصمات أمريكية.
لكن لماذا هذه العلمية الآن؟ يتضح من أكثر من زاوية أن الهدف الأساسي هو إدارة بايدن من خلال دفع إيران لاستهداف المواقع الأمريكية، مما قد يؤثر على الرأي العام الأمريكي ويصعب من قدرة الإدارة الجديدة على إحياء الإتفاق النووي. إن جعل بايدن غير قادر على العودة للاتفاق النووي الذي سيتضمن في مرحلة لاحقة رفعا للعقوبات وإعادة تأهيل إيران اقتصاديا وسياسيا هو الهدف الأساسي.
لكن الموضوع أكثر تعقيدا، فإيران من جهة تتعامل مع الضغوط عليها بصبر كبير، وهي بسبب الاغتيال وبعض التفجيرات التي استهدفت منشآتها تستطيع أن تستخدم بعض الأوراق كإخفاء جانب أكبر من برنامجها النووي. كما أن إيران تهيئ نفسها لخيارات كثيرة من أهمها العمل على كسب التعاطف الدولي، فهناك باستمرار إدانة لقيام دولة كالولايات المتحدة أو إسرائيل بعمليات إغتيال في اراض دول أخرى.
فكلتا الدولتين من اكثر الدول رفعا لشعار محاربة الإرهاب. لكن أليس هذا إرهاب دولة ضد هدف سلمي مدني؟. إن الخيار الأهم لإيران سيبقى متضمنا في سعي إيران للعودة للاتفاق النووي. وهذا سيعني أنها ستبقى منضبطة ولن تصب في سياسات ترامب، وستحافظ بكل ما لديها على برنامج بصفته جزءا من مشكلتها، لكنه بنفس الوقت جزء أساسي من خروجها من دائرة العقوبات والضغط والدولي.
إسرائيل تشعر بالخوف من سياسات إدارة بايدن القادمة، وهي تعي أن وزير الخارجية الأمريكي الجديد آنثوني بلينكين سيكون مع العودة للإتفاق النووي، كما أن جاي ساليفين مستشار الرئيس بايدن للأمن القومي هو الآخر من الذين عملوا على المفاوضات حول النووي الإيراني منذ البداية. هناك تيار كبير في الولايات المتحدة يريد وضع العلاقة الإيرانية الأمريكية ضمن اتفاق وتفاهم ليستطيع التصرف مع مسائل أخرى في الاقليم وفي العالم. فالشرق الأوسط ليس الإقليم الوحيد في العالم والولايات المتحدة بحاجة لإعادة أولوياتها نحو القضايا الأخرى كالبيئة، والتجارة العالمية والمناخ، والصين.
إسرائيل تشعر بالخوف من سياسات إدارة بايدن القادمة، وهي تعي أن وزير الخارجية الأمريكي الجديد آنثوني بلينكين سيكون مع العودة للإتفاق النووي
الولايات المتحدة منقسمه اليوم بين مشروعين، الأول مشروع الحفاظ على الامبراطورية والسيطرة والحروب وتحجيم صعود دول كبرى أخرى ودعم إسرائيل مهما كان الثمن، وبين المشروع الثاني الذي يعي جيدا أن الشمس بدأت تغرب عن المشروع الإمبراطوري الإستعماري وذلك بسبب كثرة التمدد العسكري وكثرة الحروب وسوء الإقتصاد وعمق الإنقسام الداخلي.
ومع إستلام الرئيس بايدن لمهامه ستكون خياراته في عقلنة إدارة الأولويات بما يسمح للولايات المتحدة باستخدام قدراتها الدبلوماسية، والتفاوضية، إضافة لعقد الصفقات والعمل على بناء التفاهمات الجماعية بين دول شتى. بين أمريكا التي تدير إمكانياتها وقوتها بحكمة وبين أمريكا التي تدير امكانياتها بتهور وجموح وعسكرية يقع الفارق بين مدرستين.
إن أقل من نصف الأمريكيين متعطش لقيادة تشبه ترامب، وهذا يعني أن أقل من النصف لازال يحلم بالمشروع الامبراطوري والداعم لإسرائيل تحت كل الظروف. لكن هذا النصف ليس في الحكم الآن وسيسلم مقاليد الامور لرئيس جديد، وسيواجه الكثير من المفاجآت في العصر القادم. لكن قطاعا كبيرا من الأمريكيين وهم الأغلبية إنتخبوا بايدن من أجل تغيير أوضاعهم المحلية والتعامل مع قضية العدالة والإقتصادالمنتج، وحل مشاكل الفقر والغنى، والوباء. بل هناك أغلبية أمريكية تبحث عن مصداقية الدولة وسياساتها وقدرتها على التركيز على ما يطور التعليم، والبنى التحتية، والمعرفة، والاقتصاد المنتج على حساب الحروب والعنجهية.
والجدير بالإنتباه أن القادة العسكريين الأمريكيين يعون مخاطر الحروب أكثر من اليمين الأمريكي، وهم على معرفة بعدم المقدرة على الانتصار في معركة مع إيران بحكم عدد السكان والحجم والقدرات التدميريه، وهم يعرفون بأن الخروج من ورطة عسكرية مع إيران لن تكون أمرا ممكنا. فإن استمرت الحرب في العراق منذ 2003 لليوم، فكم ستستمر حرب في إيران. لهذا ففكرة الحرب أصبحت بعيدة، واكثر صعوبة، وخطورة.
الولايات المتحدة عبثت كثيرا في الشرق الأوسط، وهي في هذا استمرار لسياسات الدول الغربية الاستعمارية منذ القرن الماضي. لقد سمحت لنفسها بممارسة الانحياز في الكثير من سياساتها، يكفي موقفها من قضية فلسطين ومن تمدد إسرائيل انعكاسات ذلك على توازنات واستقرار الشرق الأوسط. إن الانحياز المتأصل في السياسة الأمريكية درجات، وبين بايدن وترامب درجات في ممارسة الإنحياز. لازالت الولايات المتحدة امبراطورية كبرى، لهذا فإن عملية الإنتقال لتصفية الإرث الإمبراطوري لن تكون ممكنة بلا مرحلة انتقال طويلة. لقد بدأ العد التنازلي، لكنه في البداية. إن التوتر مع إيران مظهر واضح من مظاهر الإمبراطورية الأمريكية التي بنت تمددها على التوتر وصفقات السلاح وخوف الاخرين من الدول المحيطة. فهل يصل هذا التوتر مع ادارة بايدن لنقطة توازن وتهدئة جديدة؟.
د.شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي