طرح مقتل العالم الإيراني البارز محسن فخري زادة داخل إيران أسئلة عدة حول، أسباب تصفية الرجل الذى يُعتبر أبو المشروع النووي العسكري الإيراني، والجهة المنفذة. كما ألقى الضوء على رد الفعل الإيراني المحتمل، لا سيما أن عملية الاغتيال هذه تمثل خسارةً كبيرة تتساوى مع سابقتها التي قُتل خلالها الجنرال قاسم سليماني. وفي الوقت ذاته، ألقت علمية الاغتيال الأخيرة مزيداً من الضوء على صدقية الردع الإيراني، في ظل تكرار اغتيال شخصيات رئيسة ضمن النظام. وعلى الرغم من عدم إعلان أي جهة مسؤوليتها، إلا أن إيران ومعظم الإدانات الغربية جاءت لتشير إلى إسرائيل.
فإسرائيل معنية بتأخير المشروع النووي الإيراني، كما كانت منذ البداية ترفض الاتفاق النووي الذي تم توقيعه في عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، بل إن العلاقات الإسرائيلية- الإسرائيلية توترت على خلفية تقارب أوباما وطهران. كذلك تباهت إسرائيل منذ سنتين بحصولها على الأرشيف النووي السري لإيران، ومنذ أشهر قليلة تم تفجير مفاعل نطنز النووي، ضمن سلسلة الانفجارات الغامضة التي أصابت مواقع عسكرية واقتصادية داخل إيران. ومن ثم فإن السيناريو المرتبط باحتمال قيام إسرائيل بهذا العمل الأخير له ما يؤيده، بخاصة في ظل انتظار إيران للدخول في مفاوضات مع إدارة بايدن. بالتالي لا ترغب إسرائيل في انتهاج بايدن مقاربة أوباما نفسها تجاه طهران، سواء من خلال عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق أو التقارب للاعتماد على إيران في حل بعض قضايا المنطقة، وهو ما تريده طهران.
ومما لا شك فيه، أن طهران تسعى إلى الحصول على اعتراف القوى الكبرى كالولايات المتحدة بدور محوري لها، أو أن تكون مفتاحاً لحل بعض صراعات المنطقة. وهنا يكون تأخير البرنامح النووي وتعطيله، مناسباً في الفترة الانتقالية قبل رحيل ترمب ووصول بايدن الذي ربما كان سيرفض الخطوة الإسرائيلية.
لكن على الرغم من هذا الطرح الخاص بإسرائيل، إلا أنه يمكن القول إن عملية اغتيال محسن فخري زادة لا تلقي الضوء فقط على وجود خلل أمني إيراني، حيث تم تنفيذ العملية داخل إيران وفي ظل موجة استهداف مواقع عدة بسلسلة هجمات غامضة منذ أشهر عدة، بل إن عملية الاغتيال تثير أسئلة عدة حول تراخي إيران في حماية شخص يمثل قيمة كبيرة لبرنامجها النووي. فقد تحدث علي شمخانى الأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني عن أن الاستخبارات الإيرانية كانت تتوافر لديها معلومات قبل عملية الاغتيال، كما تم قطع الاتصالات لحظة شن العملية. كما كان فخري زادة في بؤرة الاهتمام الإسرائيلي، إذ تحدث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صراحةً وقدم الكثير من المعلومات عنه. كل ذلك يشير إلى تراخٍ إيراني تجاه حماية الرجل. وهنا يُثار التساؤل: هل هناك قصد من عدم حمايته ومن ثم زيادة أوراق الضغط على الإدارة الأميركية أثناء التفاوض؟ أم هي رغبة لدى المتشددين بتأزيم العلاقات بين طهران وواشنطن وغلق فرص الحوار؟
ففي ظل التنافس السياسي بين التيارات الإيرانية، وميل ميزان القوى لمصلحة المتشددين و”الحرس الثوري” الرافضين لأي انفتاحٍ على الغرب قد يقيّد جموح وعسكرة السياسة الإقليمية الإيرانية، وقد يدفع في اتجاه الانفتاح على مزيد من الحريات والحقوق التي قد تطالب بها إدارة بايدن، ربما وُجِدت نزعة لإحداث أزمة بين إيران وإسرائيل تحول دون فتح أفق للحوار مع الغرب. فبعد فوز بايدن، قال الرئيس الإيراني إن وقف التصعيد مع الولايات المتحدة بعد ترمب يمكن أن يكون سهلاً، معتبراً أن طهران يمكن أن تخفف التوترات مع الإدارة الأميركية الجديدة. لكن بعد الحادث، شدد رد الفعل الإيراني على أمرين، أولاً التحقيق في الجريمة وملاحقة مرتكبيها وقادتها، وثانياً مواصلة جهود فخري زادة العلمية والتكنولوجية في جميع القطاعات التي كان يعمل فيها. وبعد أربعة أيام من عملية الاغتيال صوّت البرلمان الذي يسيطر عليه المتشددون بغالبية ساحقة على مشروع قانون يدعو إلى انتهاك طهران لالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في عام 2015.
ويطالب مشروع القانون الحكومة بأن تخفض التزاماتها تجاه الاتفاق النووي بشكل كبير، ويدعو إلى قفزة بنسبة 20 في المئة في تخصيب اليورانيوم، وهي نسبة أعلى بكثير من نسبة 3.67 في المئة التي وافقت عليها إيران بموجب الاتفاق. كما يطالب مشروع القانون منظمة الطاقة الذرية الإيرانية بوقف تنفيذها الطوعي للبروتوكول الإضافي في غضون ثلاثة أشهر إذا أخفقت الأطراف الأوروبية الموقعة على “خطة العمل الشاملة المشتركة” (الاسم الرسمي للاتفاق النووي) في الالتزام بجانبها من الاتفاقية. ويحدث ذلك في وقت تعتبر حكومة روحاني الاغتيال بمثابة فخ إسرائيلي يجب على طهران تجنب الوقوع فيه وأن أي استجابة يجب أن تكون مدروسة، خشيةً على مصير الاتفاق النووي.
وتكشف كل تلك التطورات أيضاً عن الانقسامات السياسية العميقة ضمن النخب الإيرانية الحاكمة. ففي حين اعتبرت الحكومة أن الملف النووي ليس من اختصاص البرلمان، قال رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف بعد التصويت على المشروع، إن الاتفاق النووي لم يعد لعبة أحادية الجانب يسيطر عليها الموقعون الآخرون، وأن من حق البرلمان التدخل لحسم أي قضية.
من جهة أخرى، فإن تكرار عملية استهداف مواقع وشخصيات داخل إيران- وهو ما يختلف عن استهدافهم خارج إيران- يطرح تساؤلات حول قدرات الردع الإيرانية التي أضحت موضع شك خلال العام الماضي. فقد كانت البلاد مسرحاً للعديد من الحوادث الغامضة، مثل الانفجار الذي وقع في منشأة نطنز النووية وكذلك الانفجار الضخم في مجمع بارشين العسكري شمال شرقي طهران.
أما عن رد الفعل الإيراني، فمن المؤكد أنه لن يتم سريعاً، وربما يجب الانتظار إلى حين اتمام اتفاق مع الولايات المتحدة، وحينها قد تلجأ طهران إلى الهجوم السيبراني والإلكتروني ضد أهداف إسرائيلية مثلما حدث منذ أشهر حين هاجمت شبكة المياه الإسرائيلية، وردت إسرائيل بمهاجمة ميناء بندر عباس. لكن تساؤلاً أخيراً يُثار حول سبب تأخر رد إيران، فهل هو لتجنب رد فعل عسكري ضد منشآتها النووية من قبل إدارة ترمب أو إسرائيل؟ أم أن سبب هذا الصبر الإيراني على مدار العام الحالي، وفي ظل كل ما تعرضت له، هو رغبة المرشد الإيراني في الاقتراب من الولايات المتحدة لإبرام الصفقات على مساحات مشتركة داخل الشرق الأوسط، بما يمنح الإيرانيين اعترافاً أميركياً بمصالحهم داخل بعض مناطق الصراعات. كل إجابات الأسئلة المرتبطة بالصبر الاستراتيجي الإيراني ستتم الإجابة عنها عند بدء الحوار بين واشنطن وطهران، سواء على مستوى سري أو معلن.
هدى رؤوف
اندبندت عربي