أمريكا والعراق: تنبؤان مستقبليان

أمريكا والعراق: تنبؤان مستقبليان

في ظل الوضع العالمي، الذي يشهد تحولات استراتيجية كبيرة، سوف تمهد لصياغة عالم جديد، يختلف عن هذا العالم الذي نحن فيه الآن، عالم آخر في الطريق إلى التشكل، كثرت وتوسعت تحليلات الخبراء ومراكز دراسات المستقبل في التنبؤ بشكل العالم المفترض والمنتظر.. ويذهب الكثير من هذه الدراسات إلى أن أمريكا ستتفكك في الأمد المتوسط، فيما يذهب آخرون إلى أنها ستتفكك في الأمد المنظور، كما تفكك الاتحاد السوفييتي.
بعض العرب، ومن بينهم عراقيون يتنبؤون بتفكك الولايات المتحدة من جهة، ومن الجهة الثانية، يتنبؤون بقيامها بتقسيم العراق إلى ثلاث دول، وهي رؤية متناقضة، وهم يحيلون توقعاتهم هذه إلى بحوث خبراء دراسات المستقبل من أمريكيين وروس، وليس من دراستهم للوضع في العراق والقوى الفاعلة فيه، وقوى المجتمع الأخرى، وإلى تاريخ العراق الموغل في القدم، ما يعني أن هذه التنبؤات تفتقر إلى التحليل العلمي والموضوعي والواقعي، بإهمالها مكونات المجتمع العراقي، والسِفر التاريخي لهذا المجتمع، الذي تكوّن عبر ثمانية آلاف سنة، جغرافيا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، وفي القسم الأكبر والغالب من سكانه، قوميا ولغويا ودينيا.
الولايات المتحدة تعاني من مشاكل بنيوية في الوقت الحاضر، وهذا أمر واضح تماما. لكن السؤال المهم هل تقود هذه المشاكل ذات الأبعاد البنيوية والهيكلية إلى تفكك أمريكا في الأمد المنظور أو المتوسط؟ وفي رأيي، أمريكا، لن تتفكك بل سيعاد بناؤها بما يلائم تشكل العالم الجديد، وفي الوقت ذاته لن تظل بقوتها الحالية، بل ستتراجع، ولكنها ستحافظ على وضعها كدولة عظمى، لتكون واحدة من أقطاب عظمى وكبرى، ستتحكم في مصائر الدول على سطح الكوكب، إلى ما شاء الله، ولحين قدرة الشعوب على التحرر من هذا التحكم، بالاعتماد على قوتها وعلى قدراتها الذاتية.
المقارنة بين تفكك الاتحاد السوفييتي وتفكك أمريكا المفترض، مقارنة خاطئة تماما، كما يذهب إليه الكثير من خبراء الدراسات المستقبلية من الأمريكيين والروس، للسبب التالي: الاتحاد السوفييتي، كان النظام فيه، نظاما شموليا، إضافة إلى القوميات، التي تعيش في دول لها حدودها ضمن حدود الاتحاد السوفييتي (اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية) وجميعها حافظت على لغتها وثقافتها وإرثها التاريخي، خلال ثلاثة أرباع القرن، وهو عمر الاتحاد السوفييتي، وأغلبها كان قد تمرد على السيطرة السوفييتية، أثناء الحركة الإصلاحية التي قام بها غورباتشوف، وعليه فإن السياق التاريخي، وفلسفة الحكم في الاقتصاد والسياسة والثقافة للاتحاد السوفييتي تختلف كليا عنها في أمريكا، فنظامها ديمقراطي راسخ وصلب ومدعوم بمؤسسات رصينة وراسخة وصلبة، ضابطة له بقوة القانون في المداخل والمخارج. من الجهة الثانية، الولايات المكونة لأمريكا لها الحرية الكاملة في الإدارة الذاتية، ولها أيضا قوانينها الخاصة. الأهم أن الاقتصاد الأمريكي، هو اقتصاد سوق تتحكم فيه شركات عملاقة، بالإضافة إلى أن هذه الشركات هي التي تحكم أمريكا، وتتحكم بها، سواء من كان يترشح منها عبر صناديق الاقتراع، الى الإدارة الأمريكية، أو إلى مجلسي النواب والشيوخ. لذا، فإن هذا الوضع الراسخ والمتجذر، لا يمكن أن يتحطم ويتفكك، لأن مصالح الجميع ترتبط مع بعضها بعضا، ارتباطا عضويا ونفعيا ومصلحيا، في شبكة صناعية واقتصادية وتجارية ومالية واسعة في جميع الولايات، وأي انسلاخ لأي جزء من هذه الشبكة يؤثر في قوتها، وبالتالي يؤثر في ربابنتها، أي أصحاب هذه الشركات، الذين هم من يحكمون أمريكا، سواء في حكومات الولايات، أو في الإدارة الفيدرالية في البيت الأبيض، أو في الكابيتول هيل، أو في المؤسسة العميقة.

عراقيون يتنبؤون بتفكك الولايات المتحدة كما يتنبؤون بقيامها بتقسيم العراق إلى ثلاث دول، وهي رؤية متناقضة

من الجهة الأخرى فإن الشعب الأمريكي عبارة عن مهاجرين، جرى دمجهم في المجتمع الأمريكي، أو أن أمريكا أنتجت مجتمعها الخاص بها، بهوية وطنية جامعة في اللغة والثقافة، وسيرورة التكون الذاتي للشخص الفرد، سيكولوجيا وثقافيا وسياسيا واجتماعيا، على قاعدة الحرية الفردية الكاملة الحركة، أو التحرك تماما سواء على صعيد الحركة الشخصية أو حركة الفرد الشخص في فضاءات اقتصاد السوق. إن السود واللاتينيين يشكلون في الولايات الجنوبية نسبة سكانية مؤثرة وفعالة، وقد تصل في بعض هذه الولايات إلى الثلث من عدد السكان، ما يتيح لهم الضغط على المشرع الامريكي على التفكير بصياغة قوانين تكفل لهم أوضاعا أفضل، سواء بالتظاهر والاحتجاج، كما حدث مؤخرا، أو عن طريق ممثليهم من النخبة، كما حدث قبل عقود، حين انبرى مارتن لوثر كنغ بالدفاع عن حقوقهم وقد حصلوا عليها.
أمريكا كيان إمبريالي تُسيره وتتحكم فيه شركات عملاقة، هدفها الاستغلال ونهب ثروات شعوب الكرة الارضية بمختلف الطرق المتاحة لها، سواء باستخدام القوة العسكرية الهائلة والمدمرة، التي تملكها، أو باستخدام قدراتها الاقتصادية والمنظومة الأخطبوطية لذيولها من دول التبعية في أركان المعمورة الأربعة، أو في فرض عقوبات اقتصادية قاسية كمنصة لإخضاع دولة بعينها، أو عدة دول تشاكسها، أو تقف حجر عثرة على طريق ريادتها للعالم. أما وضعها الداخلي فقد رسخت وجذرت نظاما ديمقراطيا، بصرف النظر عن ما فيه من عيوب، لكنه يظل نظاما ديمقراطيا فعالا، يتيح الحرية للناس في اختيار ممثليهم في الإدارة ومجلسي النواب والشيوخ، مع حرية فردية في إبداء الرأي في مختلف القضايا، بلا رقيب أو مهدد.. أو في حرية العمل باستخدام قوة العمل لاقتناص الفرص باستثمار الذكاء، وطاقة العقل الخلاق، بابتكار أو بتخليق الفرص لحياة أفضل، أو حتى إلى الثراء، كما هو حال والد أوباما، وهيلاري كلينتون، ما يعني سيادة الأمل على اليأس، على خلاف ما هو حاصل في بلاد العرب.. هذا لا يعني أن الإمبريالية التي تمثل رأسها وقوتها، امريكا، منظومة إنسانية، بل العكس هو الصحيح. تغيب في الرأسمالية الأمريكية، شياطين التفاصيل في حركة المجتمع الأمريكي لصالح حركتها، في الإطار العام والجامع للمجتمع الأمريكي في فضاءات تنافسية بحرية تامة لحركة الفرد في هذه الفضاءات.. ما يؤدي عمليا إلى تراجع مرعب في رؤية التوحش في التفاصيل، لانشغال الفرد الإنسان حياتيا وعمليا في السير على طريق الأمل في إمكانية انقلاب حاله إلى غير ما هو فيه.. ومما يكثف الأمل في النفوس، لوحة الناجحين في هذا المسار، مع انفتاح جميع طرق النجاح أمامهم، بحرية تامة وبلا قيود.. يصاحب هذا، الاستعداد التام من الإدارة ومن المؤسسة العميقة ومن مجلسي الشيوخ والنواب، على صياغة قوانين جديدة تلائم التطور، ومتغيرات الوضع. كما حدث في تغيرات الوضع الداخلي الأمريكي، أي الأنظمة والقوانين التي تسيره بحوكمة ضابطة، مع المحافظة الصارمة على الحرية الفردية.. عليه فإن التنبؤ بتفكك الولايات المتحدة، تنبؤ خاطئ.
خبراء دراسات المستقبل ومنهم كما قلنا، عراقيو المنافي الذين مضى على وجودهم هناك أكثر من أربعة عقود، من الذين تركوا وطنهم تحت ضغط الواقع المعيش حينها، يقولون إن أمريكا ستتفكك ويحدث لها ما حدث للاتحاد السوفييتي وقد اعتمدوا في تحليلهم هذا على كتاب كان قد كتبه أمريكي من أصل روسي وهو آلفين تولفر، كان من جناح تروتسكي ثم لجأ إلى أمريكا. كما يرون أيضا أن أمريكا خططت منذ زمن ليس بالقليل لتقسيم العراق، وهي جاده الآن في تنفيذ ما كانت قد عزمت على فعله، في تناقض صارخ بين وضعها المهدد بالتقسيم وخططها في تقسيم العراق. وهم اي العراقيون على وجه التحديد يعتمدون في رؤيتهم هذه على ما تنبأ به الباحث ألفين تولفر في دراسات المستقبل، قبل فترة، أو زمن ليس بالقليل، من أن أمريكا سوف تتفكك، كما أنها سوف تعمل على تقسيم العراق، كما كان قد تنبأ في تقسيم يوغسلافيا، وقد تم بالفعل تقسيمها في وقت سابق. على هذا الأساس يؤكدون صحة تنبؤ آلفين تولفر.
هذا التحليل خاطئ بالكامل للأسباب التالية: يوغسلافيا تم جمعها من عدة دول لها لغتها وإرثها وتاريخها في كونفيدرالية معروفة، بينما العراق هو دولة واحدة عمرها أكثر من ثمانية آلاف عام – الشعب العراقي باستثناء أهلنا في كردستان العراق، يرفض تماما تقسيم وطنه، سواء بالفيدرالية او الكونفيدرالية، كذلك جميع دول المنطقة، سواء ما كان منها في المنطقة العربية (باستثناء الامارات العربية المتحدة ودولة أخرى والكيان الصهيوني) أو في جوار العراق من الدول الإقليمية الأخرى، (وهنا نحن لا نقصد أطراف العملية السياسية) في المقابل شعوب يوغسلافيا كانت تتحين الفرص للحصول على استقلالها – بينما الدول الأوروبية المحيطة بيوغسلافيا كانت تريد أن يعاد تقسيمها، أي إرجاعها إلى ما كانت عليه قبل اتحادها في عهد جوزيف بروس تيتو.. إن من يحاول من تيارات العملية السياسية في العراق، استثمار وجود بايدن على رأس الإدارة الأمريكية في إعادة بث الروح في طروحات أقلمة العراق، هو على خطأ استراتيجي وتكتيكي في آن، ويعكس بالضرورة سطحية قراءته للواقع العراقي والإقليمي والمتغير الاستراتيجي في امريكا والعالم.

مزهر جبر الساعدي

القدس العربي