لم يتأخر مسؤولون إيرانيون عن توجيه أصابع الاتهام إلى إسرائيل بالوقوف وراء عملية اغتيال العالم النووي الإيراني، محسن فخري زادة، الذي كان يشغل منصب معاون وزير الدفاع ورئيس منظمة الدراسات والصناعات الدفاعية، وحمّلوها مسؤولية عملية الاغتيال وتبعاتها، وتوعّدوها برد قاس ومزلزل انتقاماً على فعلتها، الأمر الذي يطرح أسئلة بشأن توقيت عملية الاغتيال، والغاية منها، وتداعياتها وإرهاصاتها، وبشأن كيفية الرد الإيراني وطبيعته ونوعه، وهل سترد إيران سريعاً أم ستنتظر الوقت المناسب، حسب ما أشار الرئيس الإيراني، حسن روحاني، وبما لا تتعدّى تداعياته إطار المواجهات المضبوطة.
وتأتي عملية الاغتيال في وقت تعيد فيه القوى الإقليمية والدولية حساباتها واصطفافاتها بعد فوز جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأميركية، وبداية مرحلة جديدة في السياسة الأميركية تفترق عن سياسة الرئيس ترامب، حيال إيران بشكل خاص والمنطقة بشكل عام، حيث أعلن بايدن، في أكثر من مناسبة، عزمه العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران. وبالتالي، سيعقّد أي ردّ إيراني ضد إسرائيل، في هذه المرحلة، الحسابات، ويزيد التحدّيات التي سترافق التوجه الأميركي الجديد، وسيضرب عرض الحائط دعواتٍ إيرانية تنادي بضرورة اغتنام الفرصة وإبداء مرونة حيال نهج الرئيس الجديد، وحيال المطالبات الأميركية بالتفاوض لتعديل الاتفاق النووي السابق، كي يشمل البرنامج الصاروخي الإيراني، ونفوذ النظام الإيراني في دول المنطقة.
تأتي عملية الاغتيال في وقت تعيد فيه القوى الإقليمية والدولية حساباتها واصطفافاتها بعد فوز بايدن في انتخابات الرئاسة الأميركية
ولا يخفي ساسة إسرائيل وجنرالاتها معارضتهم الشديدة عودة بايدن إلى الاتفاق النووي، ويساندهم في ذلك الرئيس ترامب الذي انسحب منه، وفرض عقوبات اقتصادية أميركية قاسية على إيران، ولذلك راح يفتش عن وضع عراقيل أمام توجه الرئيس الجديد، حيث تحدثت تقارير أميركية وغربية، منذ خسارته الانتخابات الرئاسية، عن إمكانية أن يوجه ضربة عسكرية ضد إيران في الأسابيع الانتقالية. ونشرت تسريبات عن طلب ترامب من كبار مستشاريه خيارات توجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيرانية، لكنه تراجع خوفاً من تبعات قيامه بمغامرة عسكرية في الأسابيع الأخيرة له في البيت الأبيض. وبالتالي، من المحتمل أن تكون إسرائيل قد تولت المهمة، في ظل حاجة رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، إلى محرج من جملة ملفات داخلية تطارده للهروب باتجاه إيران. ولذلك هناك من ربط بين عملية الاغتيال مع حديث نتنياهو في عام 2018، حين كشف عن تمكّن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) من سرقة وثائق من الأرشيف النووي من إيران، وذكر اسم محسن فخري زادة، بوصفه رأس المشروع النووي الإيراني، والشخصية الأخطر فيه. إضافة إلى عملية الاغتيال، ترسل رسالة إسرائيلية إلى الرئيس الأميركي الجديد بصعوبة قيامه بأي خطوة تطبيعية مع النظام الإيراني، من دون يأخذ مصالح إسرائيل بالاعتبار.
تمتلك إسرائيل سجلاً حافلاً في تنفيذ عمليات اغتيال في دول عربية وفي إيران وسواهما
وتمتلك إسرائيل سجلاً حافلاً في تنفيذ عمليات اغتيال في دول عربية وفي إيران وسواهما، وتقوم بعمليات عسكرية ضد الوجود الإيراني المليشياوي في سورية. ولا تعد عملية اغتيال فخري زادة الأولى من نوعها التي تتهم بها إسرائيل، إذ سبق أن اتهمت باغتيال أستاذ الفيزياء النووية في جامعة طهران، مسعود محمدي، مطلع عام 2010، واغتيال العالم النووي الإيراني مجيد شهرياري في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، واغتيال المهندس، داريوش رضايي نجاد، في يوليو/ تموز 2011، واغتيال أستاذ الفيزياء النووية، مصطفى أحمدي روشن، في مطلع عام 2012.
تعد عملية اغتيال فخري زادة ذات دلالات ورسائل متعدّدة، كونها جرت في الداخل الإيراني، واستهدفت شخصيةً لها دور بارز في الملف النووي الإيراني
وتعد عملية اغتيال فخري زادة ذات دلالات ورسائل متعدّدة، كونها جرت في الداخل الإيراني، واستهدفت شخصيةً لها دور بارز في الملف النووي الإيراني، بما يعني اختراق الأجهزة الأمنية الإيرانية التي تقوم بحمايته، وخصوصا جهاز أمن وكالة الطاقة الذرية الإيراني، المكلف بحماية المنشآت النووية والعاملين فيها، إلى جانب جهاز أمن حراسة الثورة، وقد سبق أن جرى اختراقهما عبر تفجير منشأة نطنز لتخصيب اليورانيوم في 2 يوليو/ تموز الماضي. ولذلك تحمل عملية الاغتيال رسالة مفادها بأن الداخل الإيراني مكشوفٌ أمام العمليات الأمنية لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية التي بات في وسعها الوصول إلى الأهداف التي تسعى إليها داخل إيران وخارجها. إضافة إلى أن عملية اغتيال فخري زادة مختلفة عن عملية اغتيال قائد فيلق القدس السابق، قاسم سليماني، وتبناها الرئيس الأميركي ترامب، وتفاخر بها، وكان الرد الإيراني غير مباشر ومحدود، حيث قامت مليشيات عراقية تابعة لإيران بعمليات قصف لمواقع أميركية في العراق.
معطيات عديدة تشير إلى ترجيح عدم لجوء النظام الإيراني إلى القيام بعمل عسكري ضد إسرائيل
وترافقت عملية الاغتيال مع جملة من التطورات الميدانية، حيث أعلن الجيش الأميركي إرسال طائرة من طراز B-52 (ستراتوفورتريس) في 21 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين ثاني)، من قاعدة جوية في ولاية نورث داكوتا إلى الشرق الأوسط، ووصفت القيادة المركزية للجيش الأميركي مهمة الطائرة بـ”الطويلة”، وهدفها “ردع العدوان، وطمأنة شركاء الولايات المتحدة وحلفائها”. كما قرّرت وزارة الدفاع الأميركية تحريك حاملة الطائرات “يو إس إس نيميتز” (USS Nimitz) باتجاه منطقة الخليج العربي مع سفن حربية أخرى، واعتبر مسؤول أميركي أن قرار إعادة حاملة الطائرات إلى الخليج اتُخذ قبل اغتيال العالم فخري زاده. ومع ذلك، يُراد من هذه التحرّكات العسكرية الأميركية توجيه رسالة ردع إلى إيران، في حال تفكيرها بالقيام بأي عمل عسكري، ردّاً على اغتيال فخري زادة.
ويعي ساسة النظام الإيراني أن أي رد عسكري على عملية الاغتيال لن يخدم مصالحهم في ظل التغير المرتقب في الموقف الأميركي مع الرئيس الجديد، وربما سيخفضون مستوى التهديد والوعيد بالثأر إلى تبني موقف سياسي، عبّر عنه وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، الذي طالب الدول الأوروبية بالتخلي عن سياستها التي تكيل بمكيالين حيال التعامل مع إسرائيل، وضرورة إدانتها بوصفها تمارس الإرهاب.
والحاصل أن معطيات عديدة تشير إلى ترجيح عدم لجوء النظام الإيراني إلى القيام بعمل عسكري مباشر ضد إسرائيل، على الرغم من أقاويل عن تحديد الجيش الإيراني أهدافاً دولية وإقليمية في دائرة ردّه الانتقامي، وربما يكتفي بترداد ما دأب عليه حليفه النظام السوري بالرد لفظياً على الهجمات العسكرية الإسرائيلية المتكرّرة، عبر التوعد بأنه “سيرد في المكان والزمان المناسبين”، من دون أن ينفذ ما اعتاد على قوله منذ سنوات عديدة.
عمر كوش
العربي الجديد