الطريق لتقويض روسيا والصين.. ما المهمة التي يستعد لها وزير خارجية بايدن؟

الطريق لتقويض روسيا والصين.. ما المهمة التي يستعد لها وزير خارجية بايدن؟

يقف أنطوني، أو طوني كما يعرفه الجميع، بقميص كلاسيكي أسود، وجيتار إلكتروني، ويتحرَّك جسده بهدوء مع ألحان موسيقى “الروك” التي بدأت تُعزَف لتوِّها، ثم ينطلق صوته ليُغنِّي مع رفاقه الذين ارتدوا ملابس شبه رسمية أيضا وهم يدقّون الدرامز ويعزفون الهارمونيكا. لعلها واحدة من المرات القليلة التي عُزِفَ فيها الروك بدون صخب الجمهور المصاحب له في العادة، وفي مكان أقرب لقاعة مؤتمر مهم أو غُرفة اجتماعات بأحد الفنادق الفخمة منه للحانات والحفلات، وكان أهم الحاضرين فيه السفير البريطاني الذي اجتمعت نخبة العاصمة في واشنطن على شرفه تلك الليلة. كان طوني نفسه قد قارب على الخامسة والخمسين آنذاك، وبدا اللون الأبيض وقد بدأ زحفه البطيء على جانبَيْ رأسه، غير أن مشهد امتزاج كبار المسؤولين بموسيقى الروك في بعض أروقة واشنطن مُعتاد للعارفين بخباياها.[1]

لا يُعَدُّ طوني بلينكِن، الذي سُمِّيَ وزيرا للخارجية الأميركية قبل أيام، وسيُباشر مهامه مع تولِّي جو بايدن منصب الرئاسة رسميا في منتصف يناير/كانون الثاني المقبل، لا يُعَدُّ عازفا فحسب، بل ويملك عمله الفني الخاص الذي يمكن الوصول له بسهولة على تطبيق “سپوتيفاي” الموسيقيِّ تحت اسم “أبلينكِن” (ABlinken)، إذ أصدر الرجل أغنيتين من تأليفه وألحانه، إحداهما باسم “Lip Service” (نِفاق)، تسمية أثارت تساؤلات ساخرة عما إن كانت عنوانا لما مضى أو ما هو قادم في مشواره السياسي، لكنها على الأرجح محض أغنية فحسب، إذ إن الرجل لا ينفك يُفصح عن نيّاته وسياساته بوضوح وصراحة، ما جلب له انتقادات واسعة في معسكر “التقدميِّين” داخل الحزب الديمقراطي، الذين ودَّوا لو أن بايدن اختار شخصا أكثر رغبة في إحداث تحوُّل في السياسة الخارجية الأميركية، وأكثر انحيازا لتصوُّراتهم من طوني: الرجل التقليدي الذي صنعه سُلَّم المؤسسة الدبلوماسية في واشنطن.[2]

بوضوح قالها بلينكِن، مُثيرا غضب الديمقراطيات الداعمات للقضية الفلسطينية وأهمهن رشيدة طليب، إن إدارة بايدن لن تربط مساعداتها لإسرائيل بسياسات الأخيرة، ولن تُعيد سفارتها إلى تل أبيب وستُبقيها في القدس المحتلة، وإن الخلافات بخصوص المستوطنات، وكذا القرارات الإسرائيلية الأُحادية بدون مشاورة السلطة الفلسطينية، لن تكون سببا في تقليص المعونة السنوية للكيان المحتل، الكيان الذي يعتبره الرئيس المنتخب بايدن الضمانة الوحيدة “لعدم تعرُّض اليهود لخطر التدمير من جديد” كما أخبر بلينكن نفسه الصحافة الإسرائيلية مُتفِقا معه، بل سيكون كل ذلك موضوعا للتشاور بين الحلفاء خلف الأبواب المغلقة فحسب.[3]

أنطوني بلينكن

في الوقت نفسه، فإن طوني لم يجد قيمة حقيقية للتطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين، مُشيرا دون مواربة إلى أنه لم تكن هناك حرب من الأساس بين أطراف الاتفاق، وأنه مع ترحيبه بأي تطبيع بين العرب وإسرائيل، فإنه لا يرى إمكانية لتجاوز البُعد الفلسطيني في القضية. هُنا يحضُر بالطبع الاتجاه الكلاسيكي ذو الشقين لواشنطن تجاه الصراع الذي مَيَّز سياستها في الشرق الأوسط على مدار القرن العشرين: الدعم غير المشروط لإسرائيل، مع الإقرار بوجود “أزمة فلسطينية” تستوجب الحل دون المساس بالسيادة والأمن الإسرائيليَّين، وهو اتجاه تجاهلت إدارة ترامب شقه الثاني الفلسطيني تماما.

صرَّح بلينكِن سابقا، مُلتزِما بالحفاظ على حلفاء الولايات المتحدة المركزيين، أن هنالك طريقا لا بد من إيجاده للتعاون مع تركيا، لا سيما في سوريا.[4] وعبَّر الرجل سابقا أيضا عن خيبة أمله من ردة فعل بلاده الرسمية تجاه محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في أنقرة في يوليو/تموز عام 2016، قائلا في المؤتمر السنوي للعلاقات الأميركية التركية: “لعلنا لم نُعرِب عن فهمنا لعُمق المشاعر في تركيا تجاه أحداث يوليو (2016)”، ومُشيرا إلى دعمه وقوف واشنطن إلى جانب الحكومة المُنتخَبة في تركيا التي زارها بصُحبة بايدن آنذاك، وتفقَّد مقر البرلمان الذي تعرَّض للقصف في أنقرة، ومُشيدا ببطولات الأتراك الذين واجهوا الانقلاب.[5] وفي الوقت نفسه لم يُخفِ بلينكِن دعمه لأكراد سوريا، وضرورة مواجهة تركيا بأهميتهم للولايات المتحدة هناك، مقابل الحرص على فك الارتباط بينهم وبين حزب العمال الكردستاني قدر الإمكان، وذلك في مقال له قبل ثلاثة أعوام في “نيويورك تايمز” بعنوان “سلِّحوا أكراد سوريا من أجل هزيمة داعش”[6]. مجددا، لم يُخفِ بلينكِن أهمية تركيا كونها حليفا مركزيا حين سأله الصحافي التركي “پِنار أرسوي” في حوار مع صحيفة “جمهوريت” عمَّن تختار واشنطن إن خُيِّرَت بين أنقرة وأكراد سوريا. “أي خيار هذا! تركيا بالطبع حليفتنا وشريكتنا”.[7]

لا يتميَّز بلينكِن بوضوح مواقفه فحسب، بل وبحكايات شخصية يعشق تكرارها على العكس من دبلوماسيين كُثُر يُفضِّلون الفصل بين عملهم وشخصهم. واحدة من الحكايات الشهيرة التي يُردِّدها ليُثبت التزامه المُطلق بأمن إسرائيل جرت عام 2014 حين نشبت الحرب بين حماس وإسرائيل في غزة، حينها هاتفه السفير الإسرائيلي في واشنطن “رون دِرمِر” في منتصف الليل مُستنجدا بالدعم الأميركي لوقف سيل الصواريخ الفلسطينية على المدن الإسرائيلية، وهنا يحكي بلينكن: “في الصباح التالي مباشرة لفتُّ انتباه الرئيس أوباما ونائبه بايدن في البيت الأبيض، وشرحت ما سمعته من السفير وملحقه العسكري، وجاءني الرد منهما في ثلاث كلمات؛ ’أنجز المهمة‘، وفي غضون أيام كان لدينا ربع مليار دولار لتمويل تجديد القبة الحديدية”.[8]

بلينكن ونتنياهو
يُشير مُحلِّلون إلى أن اختيار بلينكِن نابع من رغبة بايدن في تمرير ترشيحه بنجاح عبر مجلس الشيوخ الخاضع لهيمنة الجمهوريين حتى الآن، فهنالك تخوُّفات من عرقلتهم أي اسم في فريق بايدن يجنح أكثر من اللازم للمجموعة التقدمية في الحزب الديمقراطي، ومن ثمَّ جاء ترشيحه لـ “واشنطوني تقليدي” لتلك المهمة. بيد أن اختيار بلينكِن بالتحديد يحوي بُعدين مهمَّين؛ أولهما شخصي، بالنظر لعلاقته الوطيدة بجو بايدن على مدار عقدين تقريبا في ملف السياسة الخارجية مع شبه تطابق في الرؤى والمواقف، وثانيهما مؤسسي، بالنظر لانتماء الرجل إلى مدرسة الخارجية الأميركية التي هُمِّشَت لعقدين. ووفق ما يُشير[9] “جاك دِتش” و”روبي جرامِر”، مُراسلا “فورين پوليسي” لشؤون الأمن القومي، يُعَدُّ ترشيح بلينكِن خبرا سعيدا لوزارة الخارجية لاستعادة موقعها المركزي في صياغة الإستراتيجية الأميركية، فقد رزحت الوزارة تحت قبضة رجال ترامب خلال رئاسته، كما عانت من تراجع أهميتها خلال رئاسة أوباما التي هيمن فيها مجلس الأمن القومي والبيت الأبيض معا على مهام الخارجية، وخلال رئاسة جورج بوش الابن أيضا تحت قيادة “كولِن پاول” و”كوندوليزا رايس” أبناء المؤسسة العسكرية ومجلس الأمن القومي بالترتيب.

سيصير بلينكِن إذن أول وزير للخارجية مُنتمٍ لمدرسة الدبلوماسية الأميركية في المقام الأول، بل وينتمي لها مع عائلته كاملة التي يحكي عنها باستمرار وعن دورها في تكوينه، ومنها أبوه وعمّه وزوج أمِّه أصحاب المهام الدبلوماسية والدولية السابقة. وسيكون طوني كذلك أول وزير خارجية يُعيد اتجاه الولايات المتحدة للعمل باتساق مع حلفائها ومع المؤسسات الدولية منذ زمن مادلين أولبرايت، الوزيرة التاريخية للخارجية الأميركية، التي دخل بلينكن إلى عالم السياسة وهو ابن الثلاثين في ذروة نشاطها الدبلوماسي، وذروة القوة الأميركية في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي وتزايد التدخُّلات الأميركية عالميا.

بدأ طوني مشواره في العاصمة عضوَ مجلس الأمن القومي خلال إدارة بيل كلينتون عام 1994، ثم انتقل إلى السلطة التشريعية ليصبح “سيناتور” في مجلس الشيوخ وعضوا في لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس، التي ترأسها آنذاك جو بايدن في ظل رئاسة جورج بوش الابن، وقام فيها الرجلان معا -ما سيُثير الجدل فيما بعد- بالتصويت لصالح غزو العراق عام 2003. منذ تلك اللحظة لم يفترق بلينكِن عن بايدن، فشاركه في محاولته الترشُّح عن الحزب الديمقراطي عام 2008، قبل أن تذهب بطاقة الترشُّح لأوباما، وظل مُلازِما له في عمله نائبا للرئيس لثماني سنوات خلال رئاسة أوباما، إذ عمل في أثنائها مستشارا للأمن القومي لبايدن حينها، قبل أن يتولَّى منصب نائب وزير الخارجية عام 2014.[10] ورُغم مشواره الطويل والدؤوب، تكمُن الحكايات الأكثر إثارة لطوني، والخلفية الأبعد أثرا في تصوُّراته عن العالم، في تاريخه وجذوره اليهودية والأوروبية، التي تمتزج فيها خيوط مثالية لحكاية أميركية من القرن العشرين، وأخذت القسط الأكبر من وقته خلال كلماته الوجيزة بعد إعلانه وزيرا للخارجية في إدارة بايدن قبل أيام.

بلينكِن هو ابن عائلة يهودية من مانهاتن بنيويورك، إذ فرَّت أمُّه من النظام الشيوعي في المجر ولجأت للولايات المتحدة، في حين امتلك أبوه “دونالد” ثروة لا بأس بها من عمل جدِّه بالمحاماة، فأتاحت له صِلاته بعالم نيويورك المالي والفني على السواء أن يحجز لابنه طوني مكانه في مدرسة “دالتون” المرموقة والخاصة في نيويورك. ولكن طوني سرعان ما انتقل مع والدته وهو في التاسعة من عُمره إلى باريس، بعد انفصالها عن أبيه وزواجها من “پيزار”، وهو محامٍ أميركي يهودي آخر شغل منصبا دبلوماسيا هناك، ولا يقلّ نفوذا أو ثروة عن دونالد، حيث عمل مستشارا اقتصاديا للرئيس جون كينيدي، وامتلك نفوذا واسعا في أروقة العاصمة الفرنسية، منها صداقة شخصية مع الرئيسين الفرنسيَّين السابقين “ڤاليري جيسكار دِستان” و”فرانسوا ميتِران”. ويملك طوني علاقة جيدة بزوج أمه الذي ساعده في نهاية المطاف على الدخول إلى عالم السياسة في واشنطن، وتظل قصته إلهاما رئيسا لطوني.[11]

لا يمل بلينكِن أبدا من الحديث عن نجاة پيزار بأعجوبة من قبضة النازيين بعد أن فقد والديه وأخته، وتنقَّل عبر ثلاثة معسكرات ألمانية خُصِّصَت لليهود، ويحكي وزير الخارجية الأميركي الجديد قصة زوج أمه قائلا: “أثناء اختبائهم في أحد الأيام، تطلَّع زوج أمي بناظريه ليجد مشهدا لم يره من قبل؛ إنها دبابة تعلوها نجمة بيضاء خُماسية، وليس الصليب المعقوف الحديدي (النازي) المخيف.. هرول (پيزار) نحو الدبابة، فانفتح بابها ليخرج منها جندي أميركي أسود، جثا زوج أمي على ركبتيه وتلفَّظ بثلاث كلمات إنجليزية تعلَّمها من أمه ولم يعرف سواها؛ ’ليبارك الرب أميركا‘، فحمله الجندي معه إلى أميركا، إلى الحرية، نعم، تلك هي القصة التي كبُرت معها”.

وبعيدا عن دقة تلك القصة وقدر المبالغة في تفاصيلها، فإن أميركا التي يعرفها طوني وورث حكاياتها بالنسبة له هي ملجأ الفارين من النازية والشيوعية على السواء، ومعقل الحرية والفن والإبداع، إنها “الأمل الأخير والأفضل على وجه الأرض” كما جاء على لسانه قبل أيام.[12] لم يكن غريبا إذن أن يخرج الرجل مُنتقِدا ترامب وسياساته خلال السنوات الأربع الماضية، إذ مَثَّلت إدارته عبثا واضحا بذلك الإرث التقليدي لموقع أميركا في العالم، ولصالح رؤية أكثر انغلاقا وأقل ارتباطا بتاريخ المؤسسة الرسمية الأميركية.

بخلفيته الأوروبية، وفرنسيته الفصيحة، يولي بلينكِن الرابطة الأطلسية اهتماما كبيرا، ويحمل توجُّسا شديدا من روسيا تحت إدارة بوتين، ويراها أخلفت وعودا كثيرة قطعتها روسيا ما بعد الشيوعية في التسعينيات تحت إدارة يلتسين وغورباتشوف. وقد كان طوني واحدا من مهندسي العقوبات الدولية على روسيا بالتنسيق مع الدول الأوروبية بعد قيام موسكو بالاستحواذ على شبه جزيرة القرم[13]، وأعرب الرجل عن أسفه من تحوُّل روسيا لنهج الجغرافيا السياسية المُغلقة والبحث عن وكلاء لها من دول شرق أوروبا على غرار ما فعلته خلال الحرب الباردة، قائلا: “لقد سعينا بصدق لدمج روسيا في الغرب والمؤسسات الدولية” في حوار مطوَّل عن روسيا مع “پي بي إس”، غير مُدرك ربما أن المشكلة تكمن هنا بالضبط، حيث التمركز حول الغرب والنظام الدولي الذي توصَّلت له واشنطن بعد نهاية الحرب الباردة، وأن ذلك ربما هو علَّة الديمقراطيين الأساسية في توجهاتهم الخارجية؛ ما يُصعِّب من مهمة الاشتباك الحقيقي بالقوتين الروسية والصينية. ولن يُعقِّد ذلك المنظور من علاقة بلينكِن بموسكو فقط، بل سيُعقِّد أيضا من تحالفات واشنطن الأطلسية التي يسعى الوزير الجديد لإصلاحها.

في عام 2001، كتب بلينكِن لمجلة “فورين أفيرز” مقالا بعنوان “الأزمة الزائفة فوق الأطلسي”، وقد كانت العلاقات الأميركية-الأوروبية حينئذ تمرُّ بأزمة نتيجة المنهج الأُحادي والمنفرد الذي انتهجه جورج بوش الابن، وتجاهله للتحالفات الأميركية وللمؤسسات الدولية، وراجت آراء آنذاك بين مُفكرين وسياسيين كُثُر في أوروبا عن الهوّة الشاسعة بين القارتين، وسُلِّط الضوء على الخلافات الثقافية، مثل الفروقات فيما يتعلَّق بالتأمين الصحي وحق امتلاك السلاح وغيرها، باعتبارها دليلا على وجود حضارتين مغايرتين على دفتَيْ الأطلسي. وقد فنَّد بلينكِن تلك المزاعم مُعتبِرا إياها صنيعة دوائر المثقفين في أوروبا وبعيدة عن الواقع، واقع يكشف في رأيه عن قيم مشتركة عديدة، وتداخل بين الانحيازات السياسية والاقتصادية على المستوى الشعبي.[14] وإن كانت بعض آراء المثقفين الأوروبيين رهينة صور نمطية عن المجتمع الأميركي وثقافته، فهنالك بدرجة كبيرة تجاهُلٌ من جانب بلينكِن لفارق شاسع في الاشتباك بين الدولة والمجتمع يفصل بوضوح بين كنساس الأميركية والريف الفرنسي، أو نبراسكا وسويسرا، “فالقيم المشتركة” التي اعتاد عليها طوني منذ طفولته في واشنطن وباريس ليست سوى الثقافة الكوزموبوليتانية(*) والرأسمالية التي شكَّلت المدن الكبرى هُنا وهُناك، وفي زمن صعود اليمين، وتنامي وزنه قادما من خارج المدن الكبرى نتيجة تراجع التصنيع المصاحب لصعود آسيا، ستصير تصوُّرات بلينكِن عن الرابطة الأطلسية النقطة الأضعف في رؤيته للعالم.

لا يقل الاشتباك بآسيا أهمية عند بلينكِن، فهو أحد رعاة الارتكاز الآسيوي تحت رئاسة أوباما، وكذلك أحد المشاركين في التوصُّل لاتفاق مع إيران بخصوص برنامجها النووي. وبقدر ما انتقد بلينكِن سياسة ترامب الصدامية تجاه الصين، مُعتبِرا أن الاشتباك بالصين في إطار النظام الدولي سياسيا واقتصاديا هو السبيل الوحيد للمُضي قُدُما، فإن الرجل -على عكس ترامب- يملك أجندة واضحة في اتباع سياسة حقوقية أشد، خاصة فيما يتعلَّق بقمع التظاهرات في هونغ كونغ، والانتهاكات بحق مسلمي الأويغور في تركستان الشرقية. وفي مايو/أيار الماضي صرَّح بلينكِن بأنه قد يدفع بقانون يفرض عقوبات جزئية على الصين[15] بسبب هونغ كونغ، وكذلك صرَّح بأن تحالف واشنطن مع السعودية لا يجب أن يكون “شيكا على بياض” كما هو الحال تحت إدارة ترامب، وأن التجاوزات في اليمن وملف خاشقجي تستوجب وقفة مع الرياض، ويُعَدُّ الرجل أحد المؤيدين لسحب الدعم الأميركي بالكامل من الحرب في اليمن.[16] تمتزج إذن عند بلينكن الرغبة في الاشتباك بالحلفاء والخصوم والبُعد عن الصِّدَام، وهي رغبة موروثة عن إدارة أوباما، بالرغبة في الحسم واستخدام القوة الأميركية لإحداث تغيير في السياسات المنافية لمصالح أو قيم الولايات المتحدة، وهي رغبة موروثة عن حقبة بيل كلينتون.

“إن تعاوننا مع غيرنا من الشعوب ليس رفاهية أو إحسانا، فالمشكلات التي تواجهنا اليوم عصية على الحل؛ لا سيما الحل من جانب واحد، فليس بوسعنا بناء حائط مرتفع بما يكفي لوقف منسوب مياه المحيطات المتنامي أو حرارة كوكبنا الآخذة في الارتفاع، وليس بوسعنا تدشين بوابة كهربية تَحول دون وصول الأمراض إلينا أو تكسر جاذبية التطرُّف العنيف”. بتلك الكلمات وَجَّه بلينكِن نقدا مُبطَّنا لاتجاهات الإدارة الجمهورية الحالية، وبالأخص مساعيها لبناء حائط مع المكسيك وتقييد الهجرة ولوم الأجانب على وقوع الوباء وغيرها.[17] بيد أن طوني، مع انحيازاته السياسية وعدم إيمانه بالبوابات الكهربية والجدران، يؤمن بمتاريس تقنية أكثر تعقيدا ونعومة لحماية الولايات المتحدة، وقد عكف بالفعل على تدشينها خلال سنواته الأربع الأخيرة خارج أروقة السُّلطة، التي لم يُمضِها بحال بعيدا عن واشنطن ودهاليز مؤسساتها العسكرية-الصناعية المعروفة.

على بُعد أمتار قليلة إلى الغرب من البيت الأبيض، ومُلاصِقا للمكتب البيضاوي من ناحية ولمبنى أيزنهاور التنفيذي من ناحية، يمُر طريق “وِست إﮔزِكيوتيڤز” المعروف اختصارا بـ “وِست إﮔزِك” (West Exec). لا يسع المارة دخول الشارع المُغلق منذ عام 2017؛ إذ خُصِّصَ لتسكين سيارات الموظفين العاملين في المكتب التنفيذي للرئيس الأميركي. ولم يتوقف بلينكِن عن المرور في الشارع المُغلَق طوال عمله بالبيت الأبيض، لكنه اضطر لتركه على مدار سنوات ترامب الأربع مع زملائه من مسؤولي إدارة أوباما، لكن الطريق لم يغِب عنه أبدا، فقد أسَّس شركة استشارات باسم “مستشاري وِست إﮔزِك” حالما انتهت رئاسة أوباما، وصاحبه في تأسيس الشركة رفاقه القدماء، وأبرزهم “ميشيل فلورني” وكيل وزارة الدفاع للسياسات تحت رئاسة أوباما، ونائب مساعد وزير الدفاع تحت رئاسة كلينتون.

“ميشيل فلورني” وكيل وزارة الدفاع للسياسات تحت رئاسة أوباما
جمع بلينكِن وفلورني نُخبة زملائهما وأسَّسا شركة لا تهدف بالأساس إلى منح الاستشارات السياسية المعتادة للجهات الأجنبية أو غيرها، وإنما تهدف لرأب الصدع بين وزارة الدفاع والمؤسسة العسكرية الأميركية من ناحية، وشركات التكنولوجيا الكبرى في وادي السيليكون من جهة أخرى، بما يخدم المصالح الأميركية. وأتى أبرز وأول مشروع جمع الطرفين في صورة مشروع “جيـﮔسو” (Jigsaw)، وهي حاضنة أعمال تكنولوجية تابعة لغوغل، متخصصة في استخدام التكنولوجيا لمعالجة تحديات مثل الإرهاب والتطرُّف على الإنترنت والهجمات السيبرانية وخطاب الكراهية، وتهدف لبلورة سياسات تجمع “الأمن القومي والأمن السيبراني معا” كما تُشير فلورني. وقد اجتذبت نشاطات “وِست إﮔزك” الأضواء إبَّان تعالي أصوات المعترضين من موظفي شركة “غوغل” على تعاونها مع المؤسسة العسكرية، وزاد ذلك ما نشره موقع “ذا إنترسِبت” قبل عامين عن مشاريع الشركة وأكثرها إثارة للجدل وهو مشروع “مَيڤن” (Maven) الذي أطلقته وزارة الدفاع، ويهدف لاستخدام الذكاء الاصطناعي المتطوِّر لرفع كفاءة الطائرات المُسيَّرة في تحديد أهدافها.[18]

ولا تتعاون الحكومة الأميركية وحدها مع “وِست إﮔزِك” رُغم استئثارها بنصيب الأسد من شراكاتها، إذ يُشير موقع “أميريكان پروسپِكت” إلى أن شركة الذكاء الاصطناعي الإسرائيلية “ويندوارد” واحدة من عملائها أيضا، وهي شركة أسَّسها ضابطان في البحرية الإسرائيلية، ويضم مجلس إدارتها رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، “جابي أشكنازي”، كما يملك مدير الاستخبارات الأميركية السابق “ديفيد پترايوس” استثمارا فيها. وتعكف “ويندوارد” على تطوير برامج رصد ومراقبة لتتبُّع السفن، وتساعدها “وِست إﮔزِك” بالطبع في التواصل مع وادي السيليكون والاستفادة من خبراته.[19] ولا يسعنا معرفة عملاء الشركة كافة في الأخير، إذ إنها مُسجَّلة بوصفها شركة استشارات لا جماعة ضغط، ومن ثم لا يجب عليها الإفصاح عن عملائها كافة مثل الشركات المُسجَّلة بوصفها جماعات ضغط في واشنطن.

تُوظِّف “وِست إﮔزِك” نُخبة من مسؤولي واشنطن السابقين، ومعظمهم ديمقراطيون بالأساس، وتقول فلورني في حوارها مع “ذا إنترسِپت” إن “معظمهم عملوا نوّابا لمسؤولين، ويملكون المعرفة والخبرة والاتصالات والشبكات، وما نقوم به هو مساعدة الشركات الأميركية في الخارج على مواجهة الأخطار الخارجية، ومساعدة شركات التكنولوجيا على بيع منتجاتها في المجالات الحكومية”. ويُعَدُّ أبرز هؤلاء النوُّاب نائب وزير الدفاع الأسبق “روبرت وورك” كولونيل المارينز المتقاعد، وسفير الولايات المتحدة السابق في تل أبيب “دان شاپيرو”، ونائبة مدير الاستخبارات “أڤريل هَينز”، التي أعلنها بايدن قبل أيام مديرة للاستخبارات المركزية. وتُعَدُّ هينز بالطبع واحدة ممّن شكَّلوا برنامج الطائرات المُسيَّرة واستخداماتها تحت إدارة أوباما، ويقول المدافعون عنها إنها تبذل قصارى جهدها لتقليص ضحايا الطائرات من المدنيين. وهنالك أيضا “ديفيد كوهين” نائب مدير الاستخبارات ووزارة المالية سابقا، والمعروف باهتمامه بالجانب الرقمي للاستخبارات، وتعزيز الروابط بين وادي السيليكون والمؤسستين الأمنية والعسكرية[20].

“ديفيد كوهين” نائب مدير الاستخبارات ووزارة المالية سابقا
سيعود الرفاق بالعشرات من مكاتب “وِست إﮔزِك” إلى الشارع الذي سُميت الشركة باسمه في غضون أسابيع قليلة، إذ يرتبط أكثر من نصف أعضاء مجلس إدارة الشركة بحملة بايدن، وكذلك العديد من موظفيها. وحين استأجر بلينكِن وفلورني ورفاقهما مكتبا على بُعد خطوات قليلة من البيت الأبيض قبل بضعة أعوام، لم يغِب عن بالهم احتمال عودتهم إليه مع إدارة ديمقراطية جديدة، لذا فقد وضعوا في عقد استئجارهم للمكتب بندا خاصا يقضي بإمكانية فسخ عقد الإيجار دون إخطار سابق في حالة واحدة: إذا عاد كبار موظفي الشركة إلى عملهم بالبيت الأبيض.[21]

لقد جلب قفز الهواة معدومي الخبرة السياسية الكوارث خلال إدارة ترامب، لكن لذوي الخبرة عِلَّاتهم أيضا، ومعظم حلفاء واشنطن، وأعداؤها على السواء، قرَّروا التعاطف فيما يبدو مع ذئب اعتادوا عليه، بدلا من مصارعة ثور هائج يجهلونه تماما. وبعد ثلاثة عقود من العمل في كنف الدبلوماسية الأميركية، وسنوات أخرى لا تقل أهمية من العمل الخاص المثير للجدل على مقرُبة من البيت الأبيض، سيعود بلينكِن إلى مكتب لطالما تطلَّع إليه، سيرا على درب أبيه وزوج أمِّه، وسيرا أيضا على درب العقيدة الواشنطونية المنحازة للتحالفات الكُبرى والتدخُّلات متعددة الأطراف التي عاصرها خلال رئاسة كلينتون، وعقيدة أوباما الجديدة التي تداخلت فيها خيوط الأمن والتقنية أكثر من أي وقت مضى.

اعلان

تحمل نغمات أغنية “الصبر”، الأغنية الثانية لطوني بلينكِن، لحنا أهدأ من أغنية “نفاق”، ويعتقد موقع “ستيريوﮔَم” الموسيقيّ أن الأغنية الصادرة عام 2018 لربما صدرت في إشارة مُبطَّنة لمشاعر الرجل أثناء رئاسة ترامب، لكن بلينكِن لن يحتاج إلى الصبر أكثر من ذلك، فشارعه المُفضَّل سيُفتَح له من جديد بعد أسابيع، ولن يترك له المجال ليُطرب جمهوره مجددا، والبالغ عددهم أكثر من 15 ألف متابع على تطبيق سپوتيفاي. بيد أن زملاءه وعملاء شركته المجهولين، الأقل عددا والأثقل وزنا والأكثر خطورة، سيدخلون معه عبر طريق “وِست إﮔزِكيوتيڤز” إلى قلب البيت الأبيض بلا أي شك.

نهى خالد

الجزيرة