يحيي الفلسطينيون في التاسع من ديسمبر/ كانون أول من كل عام، ذكرى اندلاع الانتفاضة الأولى، المعروفة باسم “انتفاضة الحجارة”.
وتعد “الانتفاضة” التي اندلعت عام 1987 واستمرت حتى عام 1994، من أهم المراحل التي شهدتها القضية الفلسطينية في العصر الحديث.
ونجحت الانتفاضة في انتزاع اعتراف إسرائيل والدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بالشعب الفلسطيني، وتأسيس حكم ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، تحت مسمى “السلطة الوطنية الفلسطينية”.
وكان تأسيس السلطة الوطنية من مخرجات “اتفاق أوسلو للسلام” بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل لعام 1993، والذي ينص على انتهاء عملية السلام عام 1999، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967 (الضفة وغزة)، وهو ما تنصلت منه إسرائيل.
وتسبب رفض إسرائيل إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية وإقامة الدولة المستقلة، باندلاع الانتفاضة الثانية (نهاية عام 2000 وحتى 2005).
انتفاضة الحجارة
كان حادث دهس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من العمّال الفلسطينيين (قتل 4 منهم آنذاك)، على حاجز بيت حانون “إيرز”، شمالي قطاع غزة، في 8 ديسمبر 1987، الشرارة التي تسببت باندلاع الانتفاضة.
وبدأت مواجهات “دامية” بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي يوم 9 ديسمبر، من مخيم جباليا للاجئين، شمالي قطاع غزة، احتجاجا على حادث الدهس.
ولاحقا، امتدت المواجهات لمختلف مناطق قطاع غزة، والضفة الغربية.
وشكّلت الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين “من سرقة الأراضي، وبناء المستوطنات، وجباية الضرائب، والاعتقال والحصار”، دافعا قويا لاندلاع تلك التظاهرات، وفق مؤرخين.
ورغم استخدام الفلسطينيين للتظاهرات والحجارة في الاحتجاجات، إلا أن إسرائيل قابلت ذلك باستخدام العنف المفرط، وردت بإطلاق النار على المتظاهرين ما أدى إلى استشهاد وجرح الآلاف.
كما تبنت إسرائيل، سياسة ما يعرف بـ”تكسير العظام”، حيث عمد الجنود، تنفيذا لقرار وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، اسحاق رابين، إلى ضرب راشقي الحجارة، بالعصي، بهدف كسر أطرافهم.
وبلغت حصيلة الضحايا الفلسطينيين الذين استشهدوا بفعل الاعتداءات الإسرائيلية خلال انتفاضة الحجارة، بحسب بيانات رسمية، 1162 فلسطينيا، بينهم حوالي 241 طفلا، فيما أصيب نحو 90 ألفا آخرين.
واستمرّت الانتفاضة لمدة 6 سنوات، قبل أن تنتهي بتوقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993.
شهود على “تكسير العظام”
يعد مشهد التقطته كاميرات الصحافة، لجنود يضربون فلسطينيَين اثنين، بوحشية، مستخدمين الحجارة بهدف تكسير أطرافهم، تنفيذا لسياسة “تكسير العظام” من أيقونات الانتفاضة الأولى.
وتسبب ذلك المشهد، الذي وقع في 26 فبراير/ شباط عام 1988، ردود فعل كبيرة على المستوى الدولي.
ويظهر في المقطع المصور مجموعة من الجنود الإسرائيليين، ينهالون بالضرب على فلسطينيين اثنين بالحجارة على سفح مكان مرتفع.
وقال أحد الفلسطينيَين الذين تعرضوا لتلك الواقعة، وائل جودة (49 عاما)، إنه تعرض للاعتداء الوحشي على سفح تل، قرب قريته “عراق التايه” القريبة من مدينة نابلس، حينما كان مع ابن عمه، أسامة جودة.
ويوضح أنه كان يبلغ آنذاك 17 عاما، فيما كان ابن عمه أسامة، يكبره بعام واحد.
ويضيف جودة، إنه تعرض لسياسة “تكسير العظام” التي انتهجها الجيش الإسرائيلي لقمع الانتفاضة، بتعليمات من رابين.
ويسرد “جودة”، قصة الاعتداء الوحشي، قائلا: “الحدث ليس عاديا أو عابرا، أظنه وسام للقضية الفلسطينية، ووصمة عار في جبين الاحتلال”.
وتابع: “كنت عائدا مع ابن عمي، بقطيع الأغنام على قمة جبل بجوار نابلس، صادفنا جنود مدججين بالسلاح، انهالوا بالضرب المبرح علينا، استخدموا الحجارة خلال الاعتداء، شعرنا أننا سنموت”.
وأكمل: “لم يكتفوا بالضرب، بل تم سحلنا مسافة كيلومتر، وتم اعتقالنا”.
ويضيف بالقول: “حتى اليوم عندما يتذكر الناس تلك الحادثة يتساءلون: كيف ما زلنا على قيد الحياة؟”.
ويقول جودة، إن من المفارقات، أن الضرب الوحشي، لم يتسبب بكسور له ولابن عمه في عظامهما، مضيفا: “كانت الحجارة علينا رحيمة، لم تكسر عظامنا رغم شدة الضرب”.
ويكشف جودة أن الصدى الكبير الذي أحدثه المشهد، على المستوى العالمي، دفع المخابرات الإسرائيلية، إلى تصويره وابن عمه، وعرضه عبر وسائل الإعلام، قبل أن يتم إطلاق سراحهما.
وعن هذا يضيف: “في اليوم الثاني لاعتقالنا، تم تجهيزنا بلباس خاص، وعرضنا ضباط المخابرات أمام وسائل الإعلام”.
ويكمل: “الضابط الإسرائيلي أخبرنا أن العالم يعتقد أننا قد فقدنا الحياة بسبب الضرب، لذلك تم عرضنا على وسائل الإعلام وأفرج عنا في ذات اليوم”.
ويشير إلى أن إسرائيل ارتكبت الكثير من الجرائم المشابهة بحق الفلسطينيين، إبان الانتفاضة، لكنها لم تجد من يوثقها ويعرضها للعالم، كما حدث معه.
ذكريات قاسية
وفي قطاع غزة، تعجّ ذاكرة المُسنّة الفلسطينية حورية عوض الله (83 عاما)، بالذكريات التي تصفها بـ”القاسية”، جرّاء ما عاصرته من جرائم إسرائيلية، وبخاصة إبان “الانتفاضة الأولى”.
وتقول عوض الله، إن جيش الاحتلال، قتل أحد أبنائها (خلال الانتفاضة)، واثنين من أشقائها (قبل الانتفاضة)، كما أصابها بالرصاص في قدمها.
ومن أسفل سريرها، الواقع في زاوية غرقة ضيّقة، في منزلها، بمخيم المغازي للاجئين الفلسطينيين وسط قطاع غزة، تُخرج “عوض الله” حقيبة، كُتب عليها بالإنكليزية كلمة “يونيسف”، كانت تستخدمها لمدة تزيد عن 40 سنة، في عملها كـ”قابِلة”.
هذه المهنة، أتاحت للقابلة “عوض الله”، خوض مغامرات في الكثير من الأحيان كانت “خطيرة”، للوصول إلى السيدات اللواتي يأتيهن المخاض، في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وفترات حظر التجوال.
وتضيف: “خلال فترة الانتفاضة وما قبلها، عانى الفلسطينيون من انتهاكات الاحتلال وملاحقاته للكل الفلسطيني بمختلف تصنيفاتهم، ومختلف أجناسهم وأعمارهم، ولم تسلم النساء أو الكبار في السن أو الأطفال، من الاضطهاد والإرهاب الإسرائيلي”.
من الذاكرة
بتمتمات خافتة، تحاول “عوض الله” استذكار أحداث تفصيلية جرت خلال الانتفاضة، وتعرّضت لها من انتهاكات، فقالت إن الحاكم الإسرائيلي العسكري، لمدينة دير البلح، أمر باستدعائها خلال الانتفاضة، وذلك تحت تهمة مساندة المقاومين الفلسطينيين.
وتقول: “في ذلك اليوم، اقتحم الجنود منزلي، وجروّني من شعري حتى الشارع العام، ليشرعوا بضربي بالعصيّ وأعقاب البنادق”.
حاولت “عوض الله” آنذاك المقاومة ومجابهة تلك القوات، فـ”قضمت إصبع أحد الجنود، ما دفعهم لإطلاق النار مباشرة على قدمها، فأصيبت برصاصتين، وفقدت وعيها، ونُقلت مباشرة للعيادة في المنطقة”.
ساعات مضت على خروجها من المستشفى ووصولها المنزل، حتّى بدأت سيارة الإسعاف بنقل نساء على وشك الولادة إليها، لتوليدهن.
وتقول عن ذلك: “في ذلك الوقت لا يمكن للإنسان، وإن كان جريحا، أن يتقاعس عن أداء أعماله، كونها تساهم في الحفاظ على الأرواح”.
وفي ذات السياق، تقول إنها كانت تخرج من المنزل في الكثير من الأوقات، ليلا وخلال فترة كان الجيش يفرض فيها حظرا للتجوال، الأمر الذي كان يعرّض حياتها للخطر أحيانا.
دور المرأة
عن دور النساء الفلسطينيات، خلال فترة الانتفاضة، تقول “عوض الله”، إن المرأة كان لها دور مهم خلال فترة الانتفاضة، من خلال إما المشاركة “المباشرة، أو تعبئة الشباب وحثّهم على المشاركة، أو من خلال حماية ومساندة المُنتفضين”.
وتذكر أنها ساهمت خلال سنوات الانتفاضة بـ”حماية الشبان المُلاحقين من الجنود الإسرائيليين، وإخفائهم داخل منزلها، وتوفير احتياجاتهم من طعام وشراب، وعدم السماح لهم بمغادرة المنزل إلا بعد تقّصي الطريق والتأكد من عدم وجود جنود”.
كما ساعدت “عوض الله”، الجرحى خلال فترة الانتفاضة، فكانت “تزورهم وتنظّف جراحهم، بشكل دوري، لمنع تعرّضهم لمضاعفات صحية”.
إلى جانب ذلك، فقد دفعت المرأة الفلسطينية ضريبة هذه الانتفاضة، من خلال استشهاد أبنائهن وأزواجهن، وإصابتهن أيضا.
وتستكمل قائلة، إنها فقدت نجلها (محمود) خلال الانتفاضة، برصاص إسرائيلي، كما فقدت كذلك (قبل الانتفاضة) اثنين من أشقائها برصاص الجيش الإسرائيلي.
(الأناضول)