يشهد الوضع العام في العراق منذ أسابيع صراعاً دينياً مع انطلاق التظاهرات الاحتجاجية في بغداد وعدد من المدن جنوب البلاد بسبب سوء الخدمات والفساد الإداري والمالي والمطالبة بالإصلاحات السياسية، ومثلما حصل مع غيرها من الأحداث التي مرت على البلاد منذ عام 2003، فإن مواقف علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى وعلي خامنئي المرشد الأعلى الإيراني كانت متعارضة.
ويعود أصل الخلاف التاريخي بين رجال الدين الشيعة في النجف العراقية، ورجال الدين الشيعة في مدينة قم الإيرانية إلى فكرة ولاية الفقيه، فالمرجعية الدينية في النجف التي يرأسها السيستاني ترفض وبشدة تلك الفكرة وتطالب بفصل الدين عن الدولة وتدعو إلى تأسيس دولة مدنية، بينما تسعى المرجعية الدينية في قم بزعامة خامنئي إلى تطبيق ولاية الفقيه في العراق.
وهنالك العديد الملفات السياسية والأمنية التي ينظر إليها كل من السيستاني وخامنئي، اليوم، برؤية مختلفة عن الآخر تتعلق بطبيعة النظام السياسي، وكيفية محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” والتعامل مع التظاهرات الاحتجاجية التي يشهدها العراق منذ أسابيع قليلة. ويرفض السيستاني حتى اليوم إطلاق اسم “الحشد الشعبي” على الفصائل الشيعية التي تحارب داعش في العراق، وهو يسميهم “المتطوعين” أثناء خطبه الدينية.
صراع أزلي محتدم
يقول عقيل الوائلي، وهو طالب ديني في النجف، إنّ “الصراع بين مرجعية النجف بزعامة السيستاني ومرجعية قم بزعامة خامنئي هو صراع أزلي حول من يكون الزعيم الوحيد للشيعة مثلما هو الحال مع دولة الفاتيكان المسيحية”.
ويضيف إن “النجف هي مركز الشيعة وهي مدينة عربية وهي تحتوي على ضريح المرجع الأساسي للمذهب الشيعي وهو علي بن أبي طالب، ابن عم النبي محمد (ص) وزوج ابنته فاطمة، وهم عرب، ولكن إيران تسعى لأن تكون هي قائدة الشيعة رغم أنها غير عربية”.
وتمتلك إيران أدوات مختلفة للتدخل في الشؤون العراقية، من بينها دعم فصائل مسلحة شيعية وجعلها قوية جداً، من أبرزها “عصائب أهل الحق” ومنظمة “بدر” و”سرايا الخراساني” و”كتائب حزب الله” و”النجباء”، وترتبط هذه الفصائل دينياً بخامنئي ولا تعترف بولاية السيستاني عليها.
ومن الأدوات الإيرانية الأخرى التي تستعملها في العراق، اللجوء إلى استخدام رجال دين شيعة يؤمنون بولاية الفقيه للترويج لهذه الفكرة بين العراقيين عبر مكاتب رسمية في النجف مجاورة لمكاتب السيستاني. ويدعم السيستاني من جهته تشكيل “الحرس الوطني”، وهي قوة أمنية جديدة بدأت فكرة تشكيلها بعد انهيار الجيش العراقي أمام تنظيم داعش في يونيو عام 2014، ويدعو إلى ضمّ الفصائل الشيعية والعشائر السنية التي تحارب التنظيم المتشدد إلى هذا الجهاز ليكون قوة أمنية رسمية. ولكن الفصائل الشيعية الموالية لإيران ترفض ذلك وتسعى لإبقاء نفسها كقوة مستقلة.
وسياسياً تسعى الفصائل الشيعية ورجال الدين التابعين لإيران إلى إلغاء الدستور والبرلمان وتحويل نظام الحكم إلى رئاسي. وقد استغلت تلك الفصائل التظاهرات الأخيرة للمطالبة بإلغاء العملية السياسية بالكامل عبر الآلاف من أتباعها الذين زجّت بهم بين المتظاهرين، ولكن علي السيستاني رفض إلغاء الدستور وحلّ البرلمان.
وفي الحادي والعشرين من شهر أغسطس الماضي ردّ السيستاني على الفصائل الشيعية الموالية لإيران، وقال المتحدث باسمه أحمد الصافي إنّ “المرجعية تدعم القانون، وعملية الإصلاح التي تقوم بها الحكومة يجب أن تكون وفق الدستور ومن خلال البرلمان”، وهو أبرز انتقاد يظهره السيستاني لأهداف الفصائل الشيعية وإيران في العراق.
أجندات متضاربة
لقيت زيارة قاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني، مؤخرا، إلى العراق والتي عقد خلالها عددا من الاجتماعات مع سياسيين شيعة وعدد من رجال الدين رفضا من قبل الدوائر المقربة من السيستاني، الذي تحفّظ بدوره على لقائه، إيمانا منه بأنّه يسعى من خلال زيارته لانتقاد عدد من مواقفه ومواقف المؤيدين له.
وتنقسم مواقف الأحزاب والقوى الشيعية العراقية الأساسية بين من يؤيد السيستاني وبين من يؤيد خامنئي؛ فـ”المجلس الأعلى الإسلامي” بزعامة عمار الحكيم، والتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر والفصائل الشيعية التابعة لهم، وجزء من حزب “الدعوة” بينهم رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي يؤيدون السيستاني. أمّا الفريق الذي يدعم خامنئي فيتشكل خاصّة من حزب “الدعوة” ويضمّ رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي ومنظمة بدر.
ويتصارع هذان الفريقان حالياً حول ملفات سياسية وأمنية مهمة وخطيرة، ولأنّ المالكي المتهم في قضايا فساد يحظى بدعم إيراني واسع فقد بات يمثّل نقطة خلاف إضافية بين خامنئي والسيستاني.
وقد التقى خامنئي بالمالكي في طهران بعد ثلاثة أيام من صدور تقرير من البرلمان العراقي يحمله المسؤولية عن سقوط الموصل بيد داعش، وأشاد به المرشد الأعلى كثيراً وقال إنّ “مواقفه الإسلامية والوطنية ودعمه لخط المقاومة والممانعة يستحق الثناء والشكر”.
وبعد يومين من ذاك اللقاء، وجه السيستاني انتقاداً مباشراً للمالكي، وقال أثناء رده على أسئلة وُجهت إليه له من قبل وكالة الصحافة الفرنسية إن “السياسيين الذين حكموا البلاد في السنوات الماضية يتحملون معظم المسؤولية في ما آلت إليه الأمور، ولولا استشراء الفساد في مختلف مؤسسات الدولة لا سيما المؤسسة الأمنية، ولولا سوء استخدام السلطة ممن كان بأيديهم الأمر لما تمكن تنظيم داعش من السيطرة على قسم كبير من الأراضي العراقية”.
وبدورها مثّلت التظاهرات التي بدأ آلاف العراقيين ينظمونها أسبوعياً منذ الـ31 من يوليو الماضي وحتى اليوم، أبرز النقاط الخلافية التي أججت الصراع بين السيستاني وخامنئي، ففيما أعلن الأول عن تأييده للمتظاهرين في أكثر من بيان رسمي وطالب من السياسيين تنفيذ مطالبهم، كان للثاني موقف آخر.
ولأنّ إيران فشلت في تغيير مجرى التظاهرات وتطويعها خدمة لمصالحها ومن أجل هدم العملية السياسية برمتها بفعل الدعم الذي قدمه السيستاني لمسار الإصلاحات الذي أعلن عنه حيدر العبادي، فقد غيرت من موقفها وبدأت تنتقدها؛ ففي التاسع من أغسطس الماضي قال رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء حسن أبادي إن “الدعوات إلى التظاهر في العراق تتم بتحريض من مجموعات معروفة، ومن غير المسلمين أحياناً”.
وحتى المالكي أعلن عن انتقداته لموجة التظاهرات، وقال في مقابلة مع قناة “آفاق” التابعة لحزب “الدعوة” في الـ14 من الشهر الماضي “اليوم نتعرض إلى هجمة جديدة من الشعارات والشتائم في المظاهرات ضد رموز سياسية وعلماء دين من قبل التيار المعادي للتيار الديني”.
ويلتزم السيستاني منذ سنوات بمنهج الاعتدال، وفق عدد من المراقبين، الذي يقولون بأنه أضحى يتعامل مع الأحداث السياسية والأمنية الكبيرة بحكمة من خلال ابتعاده عن الحشد الطائفي، كما أنه أضحى من أبرز المطالبين بالحوار مع الطائفة السنّية. ولكلّ هذه الأسباب يقوم مؤيدو خامنئي باتهامه بخيانة الشيعة وعدم الوقوف إلى جانبهم. ويمتلك السيستاني شعبية كبيرة بين الشيعة في العراق، وينتظر الملايين منهم أي قرار صادر عنه لتنفيذه دون تفكير.
أمّا خامنئي فهو لا يمتلك بالمقابل شعبية كبيرة بين شيعة العراق، ولكنه يطوّع العديد من الفصائل الشيعية المسلحة للسيطرة على الأمن، ويمتلك العديد من السياسيين العراقيين الموالين له، كما تقدم إيران دعما عسكرياً كبيراً للحكومة العراقية في حربها ضد داعش وتهدد بشكل غير مباشر بوقف هذا الدعم عندما ترى ما لا يعجبها في العراق.
وبين هذا وذاك يبدو أنّ الجواب على سؤال من سينتصر في تحقيق أهدافه في العراق غير واضح حتى اليوم، ولكن المؤكد أن الصراع بين السيستاني وخامنئي مازال مستمرا وهو اليوم أوضح من أي وقت مضى.
صحيفة العرب الندنية