مع اقتراب موعد تنصيب الرئيس الأمريكي جو بايدن في 20 كانون الثاني/يناير 2021، لا يزال نهج إدارته تجاه العراق غير مؤكد. ففي التصريحات العلنية التي أدلى بها حتى الآن، لم يذكر الشيء الكثير عن العراق باستثناء التعهدات بإنهاء “الحروب الأبدية” وسحب القوات الأمريكية من الشرق الأوسط مع الإقرار بضرورة إبقاء بعض القوات نظراً للتهديد الإرهابي في سوريا والعراق.
وسيكون من غير الواقعي توقع أن يكون العراق على رأس جدول أعمال بايدن نظراً للأولويات الأمريكية المحلية المهيمنة ورأس المال السياسي المحدود بشكل عام عندما يتعلق الأمر بالعراق. ومع ذلك، يرى بايدن، وأنتوني بلينكين، الذي اختاره الرئيس الأمريكي المنتخب وزيراً للخارجية ووُصف بأنه “أقرب مستشاريه وأكثرهم ثقة”، أن روسيا والصين تندرجان ضمن أولويات السياسة الخارجية، ولذلك لديهما فرصة لتبنّي نظرة استراتيجية طويلة تجاه العراق. ومع استمرار السياسة الخارجية الأمريكية في التحوّل نحو المنافسة بين القوى العظمى، فلن يؤدي دعم الأمن والديمقراطية في العراق إلى كبح المطامع الإيرانية فحسب، بل طموحات روسيا والصين أيضاً.
لقد أدرك المحللون منذ فترة طويلة أن الهدف الأساسي للمشروع الاقتصادي الصيني المعروف بـ “حزام واحد طريق واحد” هو جيوسياسي في النهاية – حيث تسعى الصين إلى إبراز دورها كقوة عظمى عالمية. وليس بالخبر الجديد أن الشرق الأوسط، الذي برز في السنوات الأخيرة كأكبر مُورِّد للهيدروكربونات إلى الصين، هو ساحة استراتيجية جوهرية في المخططات الاستراتيجية العالمية لبكين. ومع ذلك، فإن الخبر الأقل وضوحاً هو أن بكين تتطلع بشكل متزايد إلى ترسيخ مكانة رئيسية لها في العراق – ليس فقط بسبب احتياطيات النفط الهائلة للبلاد، بل ربما الأهم من ذلك، موقعها الاستراتيجي، وهو أمر حاسم لتأسيس مركز مهيمن يربط طرق التجارة بين أوروبا وآسيا.
وبالفعل، سبق للصين أن دخلت في شراكة مع إيران. فمن خلال إلقاء نظرة سريعة على خريطة “حزام واحد طريق واحد” تُظهر هذه الخريطة أن إيران تشكل نقطة ارتكاز إقليمية رئيسية في هذه الخطط، علماً بأن طهران وبكين كانتا تتطلعان خلال الأشهر الأخيرة إلى تعميق شراكتهما. لكن الصين بحاجة إلى العراق أيضاً، ولهذا الغرض، عززت بكين وجودها بهدوء في البلاد في السنوات الأخيرة. وقد برزت الصين كأكبر شريك تجاري للعراق، متقدمة حتى على “الاتحاد الأوروبي” والولايات المتحدة. والعراق هو أيضا ثالث أكبر مُورِّد للنفط الخام للصين بعد السعودية وروسيا. وتعمل الشركات الصينية في العراق، بما في ذلك في حقول النفط في الجنوب، وتنخرط في خدمات مثل صيانة محطات الطاقة. ويلاحظ العراقيون أن بعض رجال الأعمال الصينيين يتحدثون العربية والكردية بطلاقة، وصولاً إلى اللهجات المحلية، الأمر الذي يبرز التزامهم [بالمهمة التي أُرسلوا من أجلها]. ومن أوضح الدلالات على دور الصين المتعاظم في البلاد أن رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي وقّع العام الماضي مذكرة تفاهم بقيمة 10 مليارات دولار مع الصين لتقديم القروض للعراق، وعُرفت باتفاقية “النفط مقابل الإعمار” – حيث سيقوم العراق بتزويد الصين بـ 100,000 برميل نفط يومياً مقابل مشاريع البنية التحتية التي تنفذها الشركات الصينية.
ويقيناً، واجهت الاتفاقية انتقادات داخلية كثيرة، بما في ذلك داخل مجلس النواب العراقي. إذ اعتقد البعض أن عبد المهدي استخدمها لإعادة توجيه دفة الحديث بعيداً عن الإخفاقات الاقتصادية لحكومته. وأشار آخرون إلى عدم شفافية الاتفاقية، حيث تساءل أحد النواب: “كيف يمكن لمجلس النواب أن يدعم مثل هذه الاتفاقات إذا كنا مستبعدين وغائبين تماماً عن المفاوضات …؟” إلّا أن الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي وضعت مذكرة التفاهم قيد الانتظار ولا تبحث عن ترتيبات بديلة أخرى مع بكين. بالإضافة إلى ذلك، تبقى الشكوك حول قيمة الاتفاقية بالنسبة للعراق كونها تأتي في النهاية على شكل قروض إضافية تؤدي إلى التبعية، في الوقت الذي يحتاج فيه العراق فعلياً إلى استثمارات وفرص عمل. ومع أن القوانين العراقية تستوجب نظرياً أن يكون نحو نصف العمال المستأجرين من السكان المحليين وليس من الصينيين، فباستطاعة الصين دفع الرشاوى اللازمة لتجاوز القانون نظراً للفساد المتفشي المعروف. ومع ذلك، لا تزال الصين حريصة على ضمان المزيد من الاتفاقيات مع العراق وستواصل السعي لتحقيق هذه المصلحة، في حين أن غياب البدائل الأخرى لن يؤدي إلّا إلى أسباب تدعو لإيجاد طرق للعمل مع الصين في نهاية المطاف – وفي النهاية قد يُعتبر الاتفاق غير الكامل أفضل من لا شيء.
ومن جانبها، تستمر روسيا في التركيز على مزاياها النسبية في العراق، كما كَتبتُ سابقاً – أي على الأسلحة والطاقة والصلات مع الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، ضمن الرؤية الأوسع لمنافسة القوّة العظمى مع الولايات المتحدة. فموسكو، مَثلها مثل الصين، ليست بالضبط في الصدارة في العراق، لكن مصالحها والتنافس على النفوذ سيستمران في هذه القطاعات. وفي السنوات القليلة الماضية تم التركيز الكثير من الاهتمام على صفقة “روسنفت” الروسية في كردستان، ومن المؤكد أنها مهمة من الناحية الاستراتيجية؛ لكن هذا ليس كل شيء. وتهتم شركات الطاقة الروسية الأخرى مثل “لوكأويل” أيضاً بتوسيع مشاركتها. والأهم من ذلك، أن الصين تنظر إلى روسيا كنموذج عسكري، وليس عكس ذلك، وفي النهاية، تتعاون روسيا والصين أكثر بكثير مما تتنافسان؛ وكلاهما شريكان أيضاً مع إيران. ومن جانبهم، يواصل العراقيون النظر إلى روسيا على أنها دولة تتفهم خطر الإرهاب السني. كما أنهم يرون أن كلاً من الصين وروسيا أكثر استعداداً للمخاطرة من الغرب عندما يتعلق الأمر بالعمل في بيئات خطرة وغير مستقرة، حتى وإن كانوا يفضلون رؤية المزيد من الانخراط الأمريكي، والغربي على نطاق أوسع.
ماذا يعني كل هذا بالنسبة للولايات المتحدة؟ أولاً، في حين أن واشنطن قد تعتبر الشرق الأوسط على أنه تشتيت الانتباه عن منافسة القوة العظمى، إلّا أن كبار منافسي أمريكا ينظرون إلى المنطقة ككل، والعراق على وجه الخصوص، عبر منظار استراتيجي واسع – فالعراق بالنسبة لهم بمثابة جائزة. ثانياً، إن النفوذ المتزايد لتلك الأطراف الفاعلة في العراق سيتيح لها رسم معالم البلاد – وبالتالي المنطقة بأكملها – وفقاً لقيمها ومصالحها، والتي تتعارض مع قيم الغرب ومصالحه.
ويقيناً أن العراق ليس مجرد كرة قدم سياسية. فالعراقيون أصحاب سلطة. ولعل أبرز التعليقات المشجعة التي سمعتُها من بعض الشباب العراقيين خلال رحلتي الأخيرة إلى العراق هي الإقرار بالمسؤولية عن بلدهم – والذي نتج بحد ذاته عن الانخراط الأمريكي، والغربي على نطاق أوسع – ونقل القيم الأمريكية. وفي حين لا أحد لديه أوهام ساذجة على المدى القريب، إلا أن لديهم أمل على المدى البعيد. وهذا الأمل هو الذي دفع العراقيين في نهاية المطاف إلى الشوارع في نهاية العام الماضي للمطالبة بمحاسبة الحكومة وإنهاء التدخل الإيراني، وأدى إلى تشكيل حكومة تصريف الأعمال الحالية الموالية لأمريكا. وفي غضون ذلك، لم تعد لعنة النفط العراقي مجرد نقاش أكاديمي، بل نقاش عام.
إن مشاكل العراق عميقة، ومع ذلك تتمتع البلاد بإمكانات مذهلة للنمو لتصبح واحدة من أكثر الدول تطوراً في المنطقة. وبالتأكيد، لا تريد طهران بزوغ عراق كهذا، لكن حتى موسكو وبكين لا تريدانه في النهاية، طالما أن مصالحهما مضمونة. بالإضافة إلى ذلك، فإن تركيا، كونها شريكاً تجارياً مهماً للعراق، تساهم أيضاً في انعدام الأمن في العراق. إن السماح لإيران وروسيا والصين بالسيطرة على العراق لن يؤدي إلا إلى مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة، فهذه الدول لن تستثمر في أهم موارد العراق – أي شعبه.
وليس ثمة ما يدعو إلى أن يكون العراق على رأس أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، لكن الاستثمار في أمن العراق ووحدته وديمقراطيته سيُظهر حنكة سياسية حقيقية. ومع استمرار موجة الاستبداد في المنطقة في التنامي، سوف يسهم الانخراط في ضمان المصالح الأمنية والجيوسياسية للولايات المتحدة والتي ستتردد أصداؤها إلى ما هو أبعد من العراق.
آنا بورشيفسكايا
معهد واشنطن