احتجاجات كردستان العراق… جمر تحت الرماد

احتجاجات كردستان العراق… جمر تحت الرماد

تجدد اشتعال الأعمال الاحتجاجية في محافظة السليمانية في كردستان العراق يوم 8 كانون الاول/ديسمبر الجاري، إذ شهدت عدة مدن وبلدات في المحافظة تظاهرات اتسمت بالعنف، وهاجمت مقرات أحزاب السلطة، وأشعلت النيران في عدد منها. قوات الأمن الكردية، وقوات مكافحة الشغب، وقوات البيشمركة، واجهوا المحتجين بعنف مفرط هذه المرة، واستعملوا الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، وحتى الرصاص الحي، ما أدى إلى سقوط حوالي 10 ضحايا وجرح العشرات.
الحركة الاحتجاجية في أساسها حركة مطلبية، تحركها الحالة الاقتصادية المتردية، يضاف لها سوء الخدمات، والقمع المفرط وتكميم الأفواه في الإقليم. التلكوء بصرف الرواتب ومستحقات موظفي حكومة الإقليم، الذين لم يستلموا رواتبهم منذ شهرين، كان المحرك والدافع المباشر لموجة الاحتجاجات الأخيرة، إذ لم تسلّم حكومة الأقليم موظفيها طوال عام 2020 سوى أربعة رواتب، وقد طالها الكثير من الاستقطاعات، ما أوصل الحالة المعاشية للسكان إلى مستويات غير مسبوقة من التدني، يضاف لتردي الحالة الاقتصادية، كمحرك لحركة الاحتجاجات الأخيرة، تردي الخدمات في إقليم كردستان، فتجهيز الكهرباء يعاني من انقطاعات تصل إلى 12 ساعة في اليوم، والمحروقات غير متوفرة في فصل الشتاء قارس البرد في كردستان، وكذلك تردي الحالة الصحية في الإقليمن نتيجة النقص الحاد في الخدمات، وعدم القدرة على مواجهة تداعيات جائحة كورونا.

شماعة المؤامرة جاهزة لتعليق الفشل عليها، وهي أول ما يتفوه به أي سياسي عراقي، يريد أن يعلق على الحال الكارثي الذي وصل له البلد

الأحزاب الحاكمة من جهتها سارت بنهجها القديم نفسه المتسم باللامبالاة، إذ أن الأزمة التي يعيشها المواطن الكردي عمرها خمس سنوات، ولم تقدم له حكومة كردستان أي حلول حقيقية، وبرلمان الإقليم مشلول، بالإضافة إلى الانشقاق الحاصل بين حكومتي أربيل والسليمانية، ونهب المداخيل وتوزيعها بين مافيات الأحزاب الحاكمة؛ الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي تتحكم به إقطاعية آل بارزاني في دهوك وأربيل، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي تتحكم به إقطاعية آل طالباني في السليمانية وحلبجة، وبعض الإقطاعات الصغيرة لرموز حركة التغير وبعض الأحزاب الإسلامية.
المفارقة أن نهج حكومة الإقليم في التعاطي مع الوضع الكارثي الذي يعيشه المواطن، هو النهج نفسه، الذي تنتهجه حكومة بغداد وباقي الحكومات المحلية الفاسدة في مختلف محافظات العراق، إذ أن شماعة المؤامرة دائما جاهزة لتعليق الفشل عليها، وهي أول ما يتفوه به أي سياسي عراقي، يريد أن يعلق على الحال الكارثي الذي وصل له البلد. وردا على حركة الاحتجاجات الأخيرة في السليمانية، اتهم رئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني أطرافاً، لم يسمها، باستغلال الاحتجاجات، وحرف مسارها إلى العنف والتخريب، وقال بارزاني في مؤتمر صحافي؛ «إن الحكومة المركزية تقلص الأموال التي ترسلها إلى إقليم كردستان، وإن الاقليم يبذل مساعي لتسوية الخلافات والقضايا العالقة مع بغداد». الأزمة المالية بين حكومتي بغداد وأربيل أصبحت معضلة فلسفية عمرها 17 عاما، وتحولت إلى معضلة البيضة والدجاجة. بغداد تطالب أربيل بتسديد أموال النفط والمنافذ الحدودية، وبقية الجبايات الحكومية للخزينة الاتحادية، ليتم صرف حصة الإقليم من الموازنة الاتحادية، التي قيمتها 17% من موازنة البلد، والكرد يرفضون ذلك بحجة عدم شفافية قانون النفط والغاز، والتحجج بمختلف الحجج، ويقولون إن بغداد تآمرت على الإقليم وجوعت مواطنيه، والمفارقة أن حـــكومة الإقلـــيم ومافيات الفساد التي تقودها الأحزاب الكردية تبيع النفـــط وتنهب أمواله، وتنهب أموال المنافذ الحدودية، والجبايات الحكومية المختلفة، من دون أن تسدد شيئا للخزينة الاتحاديــــة، وتطــالب بغداد بل تتهمها بأنها هي التي تسببت في مجاعة موظفي الإقليم.
عندما كانت أسعار النفط مرتفعة، وكان العراق يصدر كميات كبيرة من نفطه، وكانت خزينته ممتلئة، كان تسديد الأموال للإقليم يتم عبر آلية أقرب للأتاوة، تتم عبرها صفقات الفساد، التي ربطت أحزاب الطبقة السياسية في بغداد مع الأحزاب الكردية، لكن مع تدهور الحال وخواء خزينة بغداد من الأموال، بات الكرد يطالبون رئيس الحكومة الاتحادية وبرلمان بغداد بالاقتراض، ليدفعوا لهم الأتاوة، وهذا الأمر وقف له بعض الرافضين بالمرصاد، ما أجج الأزمة بين بغداد واربيل مرة أخرى.
يتساءل الصحافي الكردي سامان نوح في تغطيته للأزمة الأخيرة قائلا «هل يعقل أن مبيعات صادرات أكثر من 400 الف برميل يوميا، وعدة معابر دولية ومحلية غير قادرة على تأمين 50% من الرواتب كل شهر؟». ويضيف مخاطبا حكومة الإقليم والأحزاب المتنفذة بقوله «إذن لماذا تصرون على البيع المستقل؟ وتضعون ابناءكم في خانة الضيق والعوز والحرج؟ ومن أين لكم كل هذه الخيرات والاستثمارات والشركات والمقاولات التي لا تخطئها عين؟». وقد صرح مسرور بارزاني رئيس حكومة الاقليم قبل موجة الاحتجاجات الاخيرة، من دون أن يرف له جفن ومن دون أدنى خجل «بأن ديون الإقليم بلغت 27 مليار دولار». وأفاد بارزاني، في خطاب متلفز، بأن «أوضاع الإقليم الاقتصادية الصعبة سببها الاعتماد الخاطئ على إيرادات النفط»، وأردف؛ «ديون حكومة إقليم كردستان تبلغ 27 مليار دولار، الجزء الأكبر منها سببه الحكومة الاتحادية لعدم إرسالها الميزانية الخاصة بالإقليم». من جانبه أكد الخبير الاقتصادي حمزة الجواهري على أن إقليم كردستان تنازل أخيرا عن 18% فقط من حصته النفطية الإنتاجية لبغداد، وأشار إلى أن الإقليم يسلم إيرادات النفط من حقول كركوك وليس من حقوله. وقال الجواهري في تصريح متلفز، إن ما تنازل عنه إقليم كردستان من النفط إلى الحكومة المركزية بالتأكيد سيدعم الموازنة، ولكن هو شيء بسيط لأن المجموع الكلي لإنتاج النفط في الإقليم يبلغ 650 ألف برميل يوميا، والحديث مع بغداد كان على 450 الف برميل يصدر عبر الخط التركي من حقول كركوك، وبعد أن تستقطع منه كلفة إلانتاج، وما يتم تسديده للشركات يكون المتبقي 250 ألف برميل يوميا يسلم إلى بغداد، وهذا بعيد جداً عن الواقع. وأضاف الجواهري، أن هناك عدم شفافية بالنسبة للمجموع الكلي لنفط الإقليم، المعروض من قبلهم على حكومة بغداد، لأن الـ 450 الف برميل أغلبها تؤخذ من حقول نفط كركوك والإيرادات، التي سيقوم الاقليم بتسليمها من هذه الحقول، وهذا يعني أن الإقليم تنازل عن 18% من النفط فقط مقابل تسديد بغداد للكرد مبلغ 380 مليون دولار شهريا لتغطية الرواتب.
وكلما اثير موضوع الجوع والعوز والحالة المعاشية المتردية التي يعانيها المواطن الكردي، تثار بالمقابل موضوعات النهب المنظم الذي يمارسه ساسة الكرد، فقد كشف تقرير لمجلة «Variety» الأمريكية قبل بضعة أشهر عن قيمة القصرين اللذين أشتراهما منصور بارزاني نجل مسعود بارزاني، في مدينة لوس أنجلس الأمريكية. إذ قالت المجلة في تقرير لها، إن «منصور ابن مسعود بارزاني الرئيس السابق لإقليم كردستان العراق، اشترى قصرين في حي الأثرياء في بفرلي هيلز في لوس انجلس قيمة أحدهما 20 مليون دولار، والثاني 27 مليون دولار». وعلى خلفية هذه الفضيحة دعت حركة الجيل الجديد إلى فتح ملفات الفساد في بيع النفط في إقليم كردستان، مبينة أن جميع أموال بيع النفط تذهب خارج إطار ميزانية الدولة أو البنوك الحكومية. وقال القيادي في الحركة محمد رؤوف في تصريح اعلامي، «إن على الجهات المختصة التحقيق بجميع ملفات الفساد في العراق وفي اقليم كردستان». وأضاف رؤوف، أن «ملف الفساد في الاقليم يختصر في بيع النفط وتحويل الأموال إلى جهات نافذة في الإقليم، من دون تقييدها أو ضمها إلى خزينة الدولة، كما تجري العادة في جميع البلدان».
بعد كل ذلك يتساءل المراقبون، هل ستمتد حركة الاحتجاجات التي تشهدها السليمانية إلى محافظتي دهوك وأربيل؟ وهل ستتحول احتجاجات كردستان إلى الانتفاضة التوأم لحراك تشرين في مدن وسط وجنوب العراق؟ والجواب هو كلا، لان هنالك هامش حرية في سياسة حزب الاتحاد الوطني في السليمانية، سمح بالاحتجاجات، وهذا الامر لا يقارن بسياسة القبضة الحديدية التي يمسك بها الحزب الديمقراطي الكردستاني محافظتي دهوك واربيل، التي لن يسمح بامتداد الاحتجاجات لها، وإذا حصل الأمر فستكون هنالك مجازر بحق المحتجين.
أما ما يخص تحول الحراك إلى انتفاضة كردية، فلابد من الإشارة إلى أن الشارع الكردي، رغم كل الظلم الذي يعيشه مازال متخوفا من الوصول لمرحلة الانتفاضة الكاملة على حكومة الإقليم الفاسدة، ومافيات الأحزاب الناهبين لخيرات الاقليم، لان تخويف الشارع الكردي بورقة سيطرة بغداد عليهم، ما زال ذا تأثير كبير، لذا ليس من المتوقع أن تتطور الاحتجاجات إلى مديات تهدد الطبقة السياسية الفاسدة في كردستان.

صادق الطائي

القدس العربي