“في وسع من يبحث عن أسباب داخلية للتصدع المزدوج الذي يصيب طرفي ثنائية (يمين ويسار) أن يقع على كثير منها، ابتداء بتحولات الخرائط الطبقية وليس انتهاء بالوعي الرجعي الذي يضرب الطبقة العاملة، فضلاً عن أوهام الثراء السريع والفردي التي تغزو الفئات الوسطى بعيداً من أي سيرورة وتحول اجتماعيين”، هذا ما كتبه الباحث اللبناني حازم صاغية في معرض وصفه لثنائية اليسار واليمين في العالم العربي والعالم أجمع، إذ باتت الحدود متداخلة بينهما حتى لم يعد ممكناً تفريق أحدهما عن الآخر في برامجهما وأهدافهما السياسية والاقتصادية.
اليوم باتت هذه الثنائية قديمة، ولا يمكن تقسيم العالم على أساسها، أي يمين محافظ وتقليدي يطلب الثبات ويكره التغيير المفاجئ، وصاحب خطاب قومي وشعبوي وتعبوي ضد المهاجرين مثلاً، ويسار تقدمي يدافع عن المضطهدين، ويطالب بالمساواة والعدالة الاجتماعية، والنضال ضد القوى الرجعية والمحافظة، فقد تداخلت المطالب والبرامج والأهداف حول العالم بين طرفي هذه الثنائية.
أحوال اليسار العربي
لكن كيف هي أحوال أحزاب اليسار في العالم العربي في العقد الثاني من الألفية، وما الأسباب التي أدت إلى تراجع دورها وتلاشيها في دول عربية كثيرة وفقدانها التأثير الشعبي والاجتماعي وغيابها الحقيقي والفاعل عن محاولات التغيير في المجتمعات العربية؟ لا سيما بعد ما كانت أحزاباً فاعلة منذ أواسط القرن الماضي، وعنواناً للتغيير والمطالبة بحقوق الطبقات المسحوقة والتحرر الوطني وحق الدول في تقرير مصيرها ورفض الاستغلال والاستعمار، وغيرها من المطالبات ذات الصبغة اليسارية.
في العالم العربي، ارتفع “العلم الأحمر” في كل مكان بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967 في حرب “الأيام الستة”، وكان صعود اليسار العربي رد فعل واضحاً في وجه الأنظمة السياسية المهزومة، على الرغم من أن هذه الأنظمة نفسها كانت ترفع شعار “الاشتراكية” وتصم نفسها باليسارية، وفي نهاية الستينيات من القرن الماضي، تأثر الجيل الجديد في العالم العربي، بطبيعة الحال، بما يجري في العالم “اليساري” من ثورات وما يجري في فيتنام وكوبا، وتأثر بالثورة الطالبية في فرنسا، هذا عدا عن ظهور الجماعات “الماوية” والتروتسكية في تلك الفترة رداً على التحجر الأيديولوجي للاتحاد السوفياتي.
في منتصف الستينيات، بدأت الأحزاب التي تجمع بين القومية العربية والاشتراكية بالظهور في مختلف الدول العربية، وكان عدد كبير منها من ضمن الفصائل الفلسطينية، والبقية الباقية جعلت من القضية الفلسطينية مرتكزاً نضالياً أساسياً لها، مدعومة من أحزاب اليسار العالمي كجماعة “بادر ماينهوف الألمانية” والجيش الأحمر الياباني و”الألوية الحمراء” الإيطالية والحركات التروتسكية والجماعات “الغيفارية” الصاعدة حينها.
بداية، ظهرت الأحزاب الناصرية التي تضع نفسها في خانة الأحزاب الاشتراكية، وانتشرت كالفطر في ربوع البلاد العربية، وكانت الأبرز من بينها “حركة القوميين العرب”، إلى جانب حزب البعث العربي الاشتراكي، قبل أن ينقسم إلى فرعين سوري وعراقي بعد وصول الحزب إلى السلطة في هذين البلدين على إثر انقلابين عسكريين.
أنظمة يسارية ضد اليسار
ومع الناصرية، باتت اليسارية أو الاشتراكية مجرد عنوان أو واجهة بلا مضمون، ودارت في فلكي “الوحدة العربية” والمعركة مع إسرائيل “التي لا يعلو صوت فوق صوتها”، فكانت ممارسة اليسار العربي معاكسة لأهدافه من قمع المعارضة وتكميم الأفواه وفتح السجون وإفقار الشعوب، وكان اليساريون الاشتراكيون والماركسيون من أوائل ضحايا النظام الناصري، وبهم امتلأت السجون، وفي مواجهتهم تمت تقوية الجماعات الإسلامية.
في سوريا، قام بعض الضباط من القسم “اليساري” لحزب البعث السوري، من الملتفين حول صلاح جديد، بانقلاب عسكري في 23 فبراير (شباط) 1966، وفي لبنان برز “يسار جديد” من خارج الحزب الشيوعي، فتم تأسيس “لبنان اشتراكي” على يد مجموعة من الطلبة اللبنانيين في منتصف الستينيات، في حين انفصل “التيار اللينيني” عن الحزب الشيوعي اللبناني، ليتحول لاحقاً إلى “اتحاد الشيوعيين اللبنانيين”، وفي تونس، برزت كل من مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي، ومجلة “برسبيكتيف” (آفاق).
الباحث الفرنسي نيكولا دوت بويار (باحث مشارك في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت) يعتبر أن هزيمة 1967 أطلقت العنان لما كان ضمنياً، عبر تحرك يساري جامح في كل أرجاء العالم العربي، لكن على عكس أقرانها في أوروبا، فإن الحركات اليسارية العربية لم تخرج من رحم الأحزاب الشيوعية، بل من رحم القومية العربية.
ويمكن إضافة فشل الوحدة بين مصر وسوريا وانفكاك عقدها في عام 1961، إلى أسباب إحباط اليسار العربي من الأنظمة العسكرية، مما أسهم في تشكيل الأحزاب والحركات والجماعات اليسارية في مختلف الدول العربية.
النكسة وهزيمة 67
ومن بين تأثيرات هزيمة 1967 تفكك “حركة القوميين العرب” إلى أحزاب وفصائل اعتمدت الماركسية منهجاً وفكراً مع الحفاظ على النزعة “الناصرية” أو القومية العربية، فظهرت “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” في ديسمبر (كانون الأول) 1967، ثم “منظمة الاشتراكيين اللبنانيين” عام 1969، ومنها ولدت “منظمة العمل الشيوعي”، و”الحركة الديمقراطية لتحرير فلسطين”، وتنظيمات ناصرية كثيرة، وفي الجزائر، سيطرت “جبهة التحرير الوطنية” على السلطة، وظهرت الحركة المغربية “إلى الأمام” عام 1970، وفي تونس أُنشئت مجموعة “العامل التونسي”.
الحزب الشيوعي اللبناني الذي تأسس في عام 1924 قدم انتقاداً ذاتياً في تلك الفترة، فأصبح أشد انتباهاً لمسألة الوحدة العربية كما اعترف بالدور المركزي للقضية الفلسطينية في حركة التحرر العربية، وطالب المؤتمر الثالث للحزب في يناير (كانون الثاني) 1972 بالوحدة، ليس بين الأحزاب الشيوعية فحسب بل بين كل القوى “التقدمية”، منظمة التحرير الفلسطينية، والاتحاد الاشتراكي العربي، الذي انصهرت فيه الأحزاب الشيوعية المصرية منذ عام 1965، وجبهة التحرير اليمنية والبعث العراقي والبعث السوري.
خفوت اليسار وتلاشيه
في عام 2020 وقبله بكثير، تبدو الحركات اليسارية التي ولدت من رحم هزيمة 67، وكأنها في حال من التلاشي والانهزام، أو على الأقل غير ذات قوة وتأثير في مجتمعاتها لولا بعض الأحزاب في تونس التي أعادت لها الثورة التونسية وهجها، على عكس ما جرى في الدول العربية الأخرى، حيث استطاع حراك الجماعات الإسلامية الصعود على أكتاف اليسار وإضعافه، كما في مصر، والعراق، والجزائر، واليمن، وعلى الرغم من الحراك الذي طال العالم العربي منذ عام 2011، فإن أحزاب اليسار بدت مغيبة عن نتائج هذا الحراك على الرغم من تأثيرها في تحقيقه، فالحركات الإسلامية استولت على هذا الحراك ودفعت اليسار إلى الهامش لتحتل المتن، وذلك لأسباب كثيرة.
الباحث خلدون النبواني في مقالته “في أزمة اليسار واليسار العربي”، يرجع أزمة اليسار العربي إلى خضوع اليسار لشعار السلطات العربية، “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، مع إسرائيل ومع الإمبريالية العالمية التي تحاربها هذه الأنظمة الشمولية نفسها، “فصار هناك تحالف، بل وتواطؤ رضي به اليسار العربي وشرعن بذلك سلطة الدولة البوليسية ذات النموذج السوفياتي. هكذا، لم ينتبه اليسار العربي إلى أنه يتحول إلى أداة في أيدي الدولة الشمولية العربية التي تتبنى بعض أنظمتها (ولو مجرد تبن فارغ) شعارات اشتراكية مناهضة للرأسمالية والاستغلال”.
المشكلة الثانية التي أسهمت في أفول الحركات اليسارية العربية، تكمن في انتهاء صلاحية الأيديولوجيا لتصبح أكثر تصالحاً مع الواقع والممكن وإكراهاتهما، و”بتعبير آخر تصبح يمينية محافظة”، بل أدى تحالف الأيديولوجيا الاشتراكية مع الدولة الشمولية إلى تطابقهما، حتى باتا يدلان على معنى واحد، أي الاشتراكية هي الشمولية والعكس، ثم تحول معظم اليساريين العرب إلى أصحاب أيديولوجيا أصولية في فهمهم وقراءتهم للأحداث، وتمسكهم بنظريات وشعارات فقدت صلتها بالواقع من دون أي نقد ذاتي أو إعادة قراءة للتجربة.
والتحق اليسار العربي بالمركز السوفياتي لدرجة الاستلاب، بينما كان قادة السوفيات يتحالفون مع الحكومات العربية الفاسدة، فوجد اليسار المؤدلج نفسه في مواجهة أنظمة شرسة مسؤولة بشكل كامل عن الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي وتفقير الشعوب، وهكذا اصطدمت أحزاب اليسار مع السلطات الحاكمة في العالم العربي الذي نكل بقوى اليسار ولاحقها وعذبها وسجنها، بل وصفاها، ويقال في ما يشبه الطرفة، إن “الشيوعيين المصريين بينما كانوا في سجون عبد الناصر كانوا مع ذلك يدينون له بالولاء و(يحلفون بحياته)”.
الكاتب والأكاديمي الأردني موسى برهومة وغيره كثيرون من المثقفين اليساريين والماركسيين القدامى الذين أجروا إعادة قراءة لتجربتهم السياسية المديدة، يروون أن اليسار العربي في لحظته الراهنة قد “استقر على هيئة واحدة: تتمثل في مضغ التاريخ، وتجشؤ الماضي”.
فيديل سبيتي
اندبندت عربي