أدى لجوء الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى مجموعة من المستشارين الذين يروجون لتكتيكات تستهدف إلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية، إلى مستويات جديدة من الشكوك والقلق بشأن ما يفكر فيه الرئيس وما يمكن أن يفعله خلال أقل من شهر واحد على نهاية ولايته الرئاسية. فمن بين الأفكار التي طُرحت عليه أن يفرض الأحكام العرفية لإعادة الانتخابات في أربع ولايات، أو أن يعين محققاً خاصاً للتحقيق في ادعاءات تزوير الانتخابات، أو أن يصدر أمراً تنفيذياً لفحص آلات التصويت، فضلاً عن سيناريو آخر بتحدي أصوات المجمع الانتخابي حينما يجتمع الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) المقبل. فما الذي يتجه إليه الرئيس ترمب، وما الذي يمكن له أن يفعله؟
استبعاد الحكومة
ما يثير المخاوف حول الطريقة التي سيتصرف بها ترمب أو كيف سيقاوم مغادرة البيت الأبيض يوم تنصيب الرئيس المنتخب جو بايدن، هو أنه تجنب مشاركة العاملين داخل الحكومة خلال اجتماع ضم كلاً من سيدني باول، المحامية المؤيدة لنظرية المؤامرة، ومايكل فلين مستشار الأمن القومي السابق الذي منحه عفواً قبل أيام، وستيف بانون كبير الإستراتيجيين السابق في البيت الأبيض، وبيتر نافارو المستشار التجاري المتشدد، فضلاً عن رودي جولياني المحامي الشخصي لترمب، لتقديم المشورة في شأن جهود قلب نتيجة الانتخابات الرئاسية التي خسرها الرئيس وفاز بها المرشح الديمقراطي بايدن.
يواصل ترمب علناً تأكيد فوزه الساحق في الانتخابات وأنه يحتاج إلى حزب يقاتل مع بعض أعضاء الكونغرس، فضلاً عن حاجته إلى دعم وزارة العدل. وخلال اجتماع مع وزرائه الأسبوع الماضي، أمضى معظم الوقت يعبر عن استيائه من تزوير الانتخابات. ما ترك بعض الحاضرين في حيرة من أمرهم، حسبما قالت وسائل إعلام أميركية.
فحص آلات التصويت
ولعل أكثر ما يقلق مستشاري ترمب يتعلق بالدور الذي يمكن أن تقوم به سيدني باول التي أقصيت من فريقه القانوني الرسمي قبل ثلاثة أسابيع فقط، ويفكر الرئيس في تعيينها مستشاراً خاصاً ضمن مكتب مستشاري البيت الأبيض، وما يمكن أن تقنع الرئيس به خلال الأسابيع الأربعة المتبقية من رئاسته، خصوصاً أن ترمب يبدو مهووساً بسيناريوهات عدة غير مقبولة من الناحية العملية أو السياسية لإلغاء نتائج الانتخابات.
وفيما شوهدت باول في البيت الأبيض يومي الأحد والإثنين، ولم يتضح مع من التقت أو من تخطط للقائه، كانت تروج لأن يصدر الرئيس أمراً تنفيذياً يسمح للحكومة الفيدرالية بمصادرة آلات التصويت لتفتيشها بحثاً عن صلاحيتها والتأكد من الاحتيال المزعوم. وهو اقتراح حذر مسؤولون في الإدارة، بما في ذلك تشاد وولف وزير الأمن الداخلي بالإنابة، من أنه ليس من سلطة الإدارة الأميركية أن تصدر قراراً بذلك.
تحدي المجمع الانتخابي
من بين السيناريوهات التي طُرحت، أن يتحدى عضو مجلس النواب الجمهوري مو بروكس فوز بايدن بأصوات المجمع الانتخابية عندما يجتمع الكونغرس للتصديق عليها رسمياً في السادس من يناير المقبل. وهو ما ناقشه ترمب مع عدد من المشرعين المحافظين في مجلس النواب، الإثنين الماضي، وقد بدوا واثقين من وجود مجموعة من الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ ستنضم إلى هذه الجهود في تحد واضح لرغبة القادة الجمهوريين في مجلس الشيوخ بزعامة ميتش مكونيل. ويأمل أنصار ترمب في حث أعضاء مجلس الشيوخ على عدم المشاركة كي لا يفرض عليهم الإدلاء بصوت يلحق الضرر بالرئيس ترمب.
وعلى الرغم من إدراك ترمب ومن يؤيدونه في مجلسي النواب والشيوخ أن هذه الخطوة مصيرها الفشل بسبب سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب والتأكد من خسارة التصويت في مجلس الشيوخ أيضاً نظراً إلى أن عشرات الجمهوريين سيرفضون الانصياع خلف ترمب، فإن الرئيس يسعى للاستمرار في هذا الجهد حتى النهاية كي يرسخ فكرة الانقسام والصراع اللذين يمكن أن يستغلهما مستقبلاً، إذا ما رغب في الترشح لانتخابات 2024.
رفض المغادرة
أما ثاني السيناريوهات المحتملة فهو رفض الرئيس مغادرة البيت الأبيض. ففي لحظات إنكاره حقيقة خسارته الانتخابات الرئاسية، أخبر ترمب بعض المستشارين أنه سيرفض مغادرة البيت الأبيض في يوم تنصيب الرئيس المنتخب. وهو احتمال أثار قلق بعض المساعدين على الرغم من أن بعضهم يعتقد أن ترمب لن يفعل ذلك، بينما تبدو هذه اللحظة ضبابية حتى الآن، في حين تظل وكالات إنفاذ القانون الفيدرالية مترددة في مناقشة هذا الاحتمال.
تعيين محققين خاصين
أما ستيف بانون، فقد نصح ترمب بتعيين مستشارين خاصين للتحقيق في مزاعم تزوير الانتخابات وفي الأمور المتعلقة بهانتر بايدن، نجل الرئيس المنتخب، مشيراً إلى ضرورة تعيين محقق خاص على الفور يقوم بدور مدع عام مستقل بشأن تزوير الانتخابات، ومحقق خاص آخر للنظر في قضايا هانتر بايدن، وهي أمور من حق الرئيس أن يطلبها من وزارة العدل.
غير أن وزير العدل وليام بار رفض بشدة خلال مؤتمر صحافي الدعوات التي تطالب الرئيس في الأيام الأخيرة بتعيين محقق خاص بشأن التصويت، مؤكداً أنه عين محققاً خاصاً، ورفض فكرة فحص ومصادرة آلات التصويت.
إعلان الأحكام العُرفية
غير أن ما اقترحه مايكل فلين، كان بمثابة القنبلة التي أثارت جدلاً في الأوساط السياسية والعسكرية، إذ اقترح استخدام الجيش من أجل إعادة الانتخابات في أربع ولايات متأرجحة خسرها ترمب. وقال على قناة “نيوز ماكس” اليمينية: “يتحدث الناس عن الأحكام العرفية وكأنها أمر لم نفعله من قبل، فقد سُنت الأحكام العرفية 64 مرة”.
في تصور فلين أن الأحكام العرفية ستمنع بايدن من أداء اليمين الدستورية، وتمدد ولاية ترمب إلى ما بعد موعد انتهاء صلاحيتها المنصوص عليه في الدستور الأميركي. لكن كبار قادة وزارة الدفاع أكدوا عدم وجود دور للجيش في الخلافات السياسية الداخلية. وهو ما كرره الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة وأوضحه قادة آخرون في الجيش، بألا دور لهم في تحديد نتيجة الانتخابات.
ولاء الجيش للدستور
وحتى لو فعلها ترمب في سيناريو غير محتمل، وأصدر أمراً باستخدام الجيش لمنع نقل السلطة، فإن الأمر سيذهب إلى وزير الدفاع الذي سينظر في تنفيذ الأمر غير القانوني، وسينقله إلى قائد القيادة الشمالية، الجنرال غلين فينهيرك الذي سيناقش فريقه من المستشارين القانونيين، الذين سيبلغونه أن الأمر يعد انتهاكاً للدستور، ومن ثم سيرفض وينهي الأمر ويرسله مرة أخرى إلى وزير الدفاع، لأن ولاء قادة الجيش، كما قال الجنرال ميلي، هو للدستور فحسب، وليس للرئيس ترمب.
ويؤكد خبراء قانونيون وعسكريون سابقون أنه ظهر يوم 20 يناير سيؤدي بايدن اليمين كرئيس، وسيعترف الجيش على الفور به باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، حتى لو رفض ترمب الاعتراف أو الإقرار به، لأن اعتراف الرئيس السابق بالرئيس الجديد ليس مطلباً دستورياً ولكنه عمل احتفالي، كما أن نقل السلطة لا يتطلب ذلك.
أحكام عرفية في ظروف مغايرة
وإذا كان فلين يتحدث عن فرض الأحكام العرفية في الولايات المتحدة 64 مرة، فإن الرقم الحقيقي هو 68 مرة، لكنها لم تكن في ظل الظروف التي تحدث بها فلين خلال لقائه التلفزيوني أو خلال اجتماعه بالرئيس ترمب في المكتب البيضاوي.
وقد حدد مركز برينان للعدالة كل مرة تم فيها تطبيق الأحكام العرفية على مدى تاريخ الولايات المتحدة، أي تولي الأجهزة العسكرية بشكل مؤقت الوظائف المدنية، مثل أجهزة إنفاذ القانون كالشرطة والمحاكم.
ويعد المثال الأكثر شهرة لتطبيق الأحكام العرفية هو وضع الكونغرس جميع الولايات الكونفدرالية السابقة (باستثناء تينيسي) تحت الأحكام العرفية أثناء إعادة الإعمار التي امتدت من عام 1867 حتى 1870، إذ فرض الجمهوريون المتشددون الذين سيطروا على الكونغرس قائمة من المطالب على هذه الولايات حتى يُعاد قبولها في الاتحاد، بما في ذلك تمرير دستور جديد للولاية يضمن حق الاقتراع العام للذكور والتصديق على التعديل الرابع عشر للدستور الأميركي.
تجربة جاكسون ولينكولن
ومن المثير أن الرئيسين الوحيدين اللذين أعلنا الأحكام العرفية هما الرئيسان اللذان أبدى ترمب إعجابه بهما، وهما أندرو جاكسون وأبراهام لنكولن، إذ لم يكن الأول رئيساً في الوقت الذي فرض فيه حالة الطوارئ، وإنما كان جنرالاً يقاتل البريطانيين في الحرب التي اندلعت عام 1812، فعندما اقتربت القوات البريطانية من ولاية لويزيانا في نهاية عام 1814، أعلن جاكسون الأحكام العرفية في مدينة نيو أورليانز لإجبار جميع الرجال من الميليشيات ورجال الحدود وحتى القراصنة والعبيد على صد البريطانيين. وهو ما جعل جاكسون بطلاً قومياً بعد انتصاره على البريطانيين.
أما لينكولن، فقد أعلن الأحكام العرفية على نطاق واسع، ليس في منطقة معينة ولكن على جميع المتمردين وعلى أي شخص يساعدهم. وهي خطوة كانت وما زالت مثيرة للجدل، لأن المحكمة العليا لم تحكم قط بشكل واضح عما إذا كان الرئيس يتمتع بسلطة إعلان حالة الطوارئ من دون موافقة الكونغرس.
لحسم النزاعات وليس للحرب
وخلال الحرب العالمية الثانية، وافق الرئيس فرانكلين دي روزفلت أيضاً على أمر إعلان حالة الطوارئ في هاواي، على الرغم من أن مَن أعلنها هو حاكم الولاية جيه بي بويندكستر.
وبحسب مركز برينان للعدالة، فقد أعلن حكام الولايات حالة الطوارئ بشكل متكرر لأسباب لا علاقة لها بالحرب، إذ إن 40 في المئة من الحالات التي تم اللجوء فيها إلى الأحكام العرفية كانت لمكافحة النزاعات العمالية. فعلى سبيل المثال، أعلن جيمس بيبودي حاكم ولاية كولورادو الأحكام العرفية في مقاطعات عدة خلال عامي 1903 و1904 أثناء ما يسمى “حروب العمال” التي كانت من أعنف النزاعات في التاريخ الأميركي بين عمال وأصحاب المناجم، إذ انحازت حكومة الولاية والحرس الوطني إلى أصحاب المناجم لحسم الخلاف حول عدد ساعات العمل.
وفي بعض الأحيان أفرط بعض الحكام في استخدام الأحكام العرفية، إذ فرضها وليام موراي حاكم ولاية أوكلاهوما أكثر من 30 مرة خلال توليه المنصب بين عامي 1931 و1935، وذلك لأسباب مختلفة مثل فرض قواعد الفصل العنصري ومواجهة تكساس في ما يسمى حرب رسوم الجسر، ولإجبار حقول النفط على الإغلاق عندما كان يعتقد أنها تنتج كثيراً وتؤدي إلى انخفاض الأسعار.
آخر الأحكام العرفية
وقبل تأسيس وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية، أعلنت حالة الطوارئ مرات عدة لمواجهة الكوارث الطبيعية، مثل إعصار جالفستون عام 1900، الذي لا يزال أكثر الكوارث الطبيعية تدميراً في تاريخ الولايات المتحدة، إذ أسفر عن مقتل عشرة آلاف شخص على الأقل.
كذلك تم فرض الأحكام العرفية نحو 12 مرة لاستعادة النظام بعد أعمال شغب عرقية وعمليات إعدام خارج نطاق القانون، خلال فترة امتدت نحو قرن من الزمن، أي من نهاية الحرب الأهلية حتى حركة الحقوق المدنية، إذ كان إعلان حاكم ولاية ميريلاند الأحكام العرفية في بلدة كامبريدج عام 1963 ولمدة زادت على 12 شهراً بعد سلسلة من تظاهرات الحقوق المدنية هو آخر حالة معروفة لفرض الأحكام العرفية في الولايات المتحدة وفقاً لرصد قام به مركز برينان للعدالة.
طارق الشامي
اندبندت عربي