يصعب عدم اعتبار سنة 2020 من أسوأ سنوات القرن الحادي والعشرين! صحيح أن البشرية عرفت خلال المائة سنة الماضية الكوارث على اختلافها من طبيعية إلى تلك التي صنعها الإنسان من حروب ونزاعات ومجازر، لا سيما إبان الحربين العالميتين وما تبعهما، إنما بالنسبة للأشخاص الذين لم يعايشوا تلك الكوارث، تعتبر سنة 2020 من أصعب السنوات التي شهدها العالم، وستحمل وصمة التعبير اللاتيني بأنها سنة مروعة Annus horribilis مع وطأة فيروس يتحور ولقاحات تسابقه. فالمشاكل العالقة عديدة ودرجات عنفها متفاوتة ويبدو من المعالجات المتداولة أنه لا ضوء في آخر نفقها يبشر بالحلول المنشودة.
وعلى غرار سنوات العقد الماضي التي يصح وصفها بسنوات اللانهايات، يبدو أيضاً أن سنة 2020 سترحّل مشاكلها المستعرة إلى السنة المقبلة. فعلى صعيد الصحة والبيئة، ما أن توصل العالم إلى اللقاح المنتظر ضد فيروس «كورونا» وبدأت عمليات التلقيح في أكثر من بلد، حتى سبقه الفيروس بتحور جديد شغل العالم وكاد ينسي اللقاح. أما أزمة المناخ فهي لم تصل بعد إلى خواتيمها السعيدة ولا تزال تشغل العالم رغم كل المؤتمرات التي عقدت ومحاولات معظم الدول الحثيثة لمعالجتها. وعلى الصعيد المالي الاقتصادي والاجتماعي، يعاني العالم أجمع من ضائقة خانقة فاقمتها أزمة اللاجئين قبل جائحة «كورونا».
على الصعيد السياسي، نبدأ بأميركا حيث احترام الدستور والقوانين هو قدس الأقداس. فنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة لا تزال محط أخذ ورد في مناخ غير معهود ينذر بأفول مؤسف لديمقراطية رائدة، إضافة إلى ظهور مشكلة العنف العنصري المستجد تمثلت بأحداث مأساوية وعنف غير مسبوق لرجال الشرطة في بعض الولايات الأميركية ضد مواطنين من أصول أفريقية. أما النزاع الأميركي الإيراني الذي أخذ شكلاً مستجداً مع العقوبات القصوى بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في العام 2018، فهو أيضاً سيرحّل إلى العام 2021 دون أفق واضح لحله.
وفي أوروبا، يطل الاتحاد السوفياتي برأسه مجدداً في نسخة محدثة اسمها روسيا – بوتين ليحتل القرم في محاولات لإعادة هيمنته على الدول التي كانت سابقاً جزءاً منه.
ومن أقصى الشرق وفي البحر الأصفر، ما أن تقترب الكوريتان الشمالية والجنوبية من تسوية مشرفة حتى يعود عداء الإخوة على أشده. وفي هونغ كونغ، تصارع الديمقراطية وهي على الرمق الأخير. وفي أفغانستان، في يوم يزف خبر الانسحاب الأميركي والمصالحة وفي اليوم التالي تسقط التفجيرات مئات المدنيين وأطفال المدارس. وبين باكستان والهند، عدا أهوال العنف الديني والطائفي والعرقي المستعرة، فالحدود بينهما مغلقة على ضيم وأحقاد بعد تعليق جهود التسويات.
أما في منطقتنا فالعقد الأخير كان العقد العربي المعقد، أودت أحداثه بكل تباشير الربيع العربي الموعودة. فسوريا التي تدهورت حالتها من الرقم الصعب إلى المأساة الصعبة، على أرضها خمسة جيوش وشعبها بات شعب شتات ودمر ماضيها وشل حاضرها، حتى أصبح من الصعب تصور مستقبلها. وما تبقى من لبنان الدولة والمؤسسات، تدوسه الأقدام الميليشياوية وغباء قادته وأحقادهم. ونرى العراق يجاهد ليدخل في مدارات الاستقرار وإنهاء المرحلة الانتقالية على خير وطي صفحة الإرهاب الداعشي وعنف الميليشيات المذهبية والولاءات للقوى الخارجية غير المبالية بالمصلحة الوطنية العليا. وفي اليمن الفاقد لسعادته، العمى الآيديولوجي والولاءات المذهبية المسخرة لمشروع التوسع الإيراني، تحول دون الحلول المرجوة.
وفي قضية القضايا أي فلسطين، ينوء السلام تحت وطأة قيادات رافضة لقدومه أو عاجزة عن تحقيقه. إسرائيل تنخرط في انتخابات رابعة علها تصل إلى تمثيل شعبي شرعي لفريقها الحكومي، فيما السلطة تتردد بتجديد شرعيتها في زمن تحديات حركة سلام إن لم تشارك فيها ستتجاوزها. أما تركيا، فالطموح التركي الجامح يفتعل إعادة فتح الجروح بدل بلسمتها مستخدماً مرتزقة وقتلة، من ليبيا إلى سوريا إلى قره باغ.
وكما النزاعات، طُبع العقد الأخير بظاهرة الإرهاب والتطرف الديني وعادت لتطل برأسها على غرار ظاهرة الفيروسات المستجدة بتشكيلات عدة وبعنف منقطع النظير، طال ظلالها دول العالم أجمع.
ليس المقصود من هذا السرد الذي قد يكون مملاً عرضاً لوقائع بقدر ما نقصد القول بأن ما يشهده العالم ليس مسؤولية قادة فاشلين فقط بقدر ما هو مسؤولية مجتمعات تعيش تحوّلات ومتغيّرات ثقافية اجتماعية واقتصادية سلبية أوصلت هذه القيادات إلى الحكم. فمعظم هؤلاء القادة لا سيما في المجتمعات الغربية هم انعكاس لمجتمعات مرفهة ترفض التنازل عما حققته من رفاه ومكتسبات رغم الأزمات والصعوبات الاقتصادية، وباتت من جهة ثانية تعيش في عالم افتراضي متخيل جراء توسع تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. ويبدو أنهم يديرون العالم بأسلوب القيادة من الخلف «الأوبامي»، وبعضهم جنح إلى شعبويّات تحمل معها مخاطر جمّة على ما حققته البشرية في العقود السابقة من تطور وتقدم على مستوى الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية.
ورغم أن العالم يبدو منقسماً بين دول ذات نمط يسمى بالديمقراطيات الغربية الحديثة وبين دول تتميّز بأنظمة استبدادية أو شعبوية، ثمة شعور بأن الأولى تنزلق نحو الثانية في ظل أزمة تعيشها ديمقراطياتها، فضلاً عن أن الديمقراطيات ما زالت تقترف خطأ التعاطي مع الدول الشعبوية والمستبدة من خلال مفاهيمها هي وقيمها وعاداتها وثقافتها، وتنسى أن تلك الدول محكومة بآيديولوجيات أو ديكتاتوريين لا ينظرون إلى الأمور بالمنظار نفسه. فالدول المستبدة على غرار إيران لا تنفع معها التسويات الناعمة أو التسويات عبر الدبلوماسية المعتادة بالقفازات البيضاء كما هو جار، ما أدى في نهاية المطاف إلى استعصاء حل النزاعات معها. ويعيدنا ذلك إلى إشكالية الديمقراطية القديمة الجديدة في التعامل مع الديكتاتورية: كيف تستطيع الديمقراطية أن تقضي على الديكتاتورية من دون التخلي عن أسسها وهي حكم القانون وليس حكم الأفراد.
هذه الإشكالية وصعوبة تخطيها جعلت الدول الكبرى النافذة تمل الانخراط بمشاكل العالم وتسعى للخروج منها، كما حصل مع التجربة الأميركية في العراق وأفغانستان وسوريا ولبنان والقضية الفلسطينية التي وصلنا فيها إلى نتائج «ترمبية» فرضت تسويات على الفلسطينيين لا تنصف حقوقهم ولا ترضيهم.
ولعل استمرار النزاعات يكمن أيضاً في كون العالم بأسره منشغلاً بقضايا أكبر وأهم، على رأسها تحديات الاقتصاد المعولَم الذي يُرتب إشكاليات كثيرة على مستوى العلاقات الاقتصادية والدولية، كما مسار العلاقات المعقدة بين الصين وأميركا وروسيا وأميركا على ضوء تنامي الدور الصيني ومحاولات روسيا العودة إلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفياتي.
خلاصة القول إنَّ عقد اللانهايات وسنة اللانهايات 2020 شهدا نهاية واحدة مزلزلة هي أفول العالم العربي الذي نعرفه، على أمل أن تمهد السنة المقبلة لعالم عربي جديد بمقدورنا التعرف عليه. ويبقى الأمل منعقداً على انتهاء الأزمات لتعزيز المواجهة ضد تغول إمبراطوري من دول الجوار، يصدر أزماته ويزعزع أمن جيرانه متلطياً وراء حجج مذهبية واهية، وعلى إدراك قيادي عربي جاد لمصالح شعوبه وانفتاح على سياسة واقعية.
سامي المنسي
* نقلا عن “الشرق الأوسط”