في اليوم الأخير من العام المنصرم لتوّه، جاء في صحيفة «الوطن» السورية التي كان يملكها رامي مخلوف، تايكون الاقتصاد الأسدي المطلق سابقاً، حتى صراعه مع رئيسه: «كعادته وكما عرفه السوريون حضر الرئيس بشار الأسد إلى جانبهم ومعهم، وهم يعملون من جديد على بناء ما دمره أعداؤهم، وهذه المرة عبر زراعة أرضهم، التي أحرقها مرتزقة لا ينتمون لها، مرسلاً المزيد من الرسائل عن الشجرة التي نغرسها في الوطن فتنبت حباً. الرئيس الأسد فاجأ الفرق التطوعية لطلبة سوريا، التي كانت تقوم بعمليات تشجير في حرش التفاحة بالدريكيش، وحضر برفقة عقيلته السيدة أسماء، وأبنائهما حافظ وكريم وزين الشام، ومعهم باسل شوكت ابن شقيقته، إلى مكان التشجير الذي سبق وتعرض للحرائق».
جاء ذلك الخبر بصيغة دعاية انتخابية، ما أعاد تذكيرنا بقوة بأهم ما يمكن أن يتعرض له السوريون – فوق ما حصل لهم حتى الآن – وهو انتخابات رئاسية لتجديد وتمديد رئاسة بشار الأسد، تتمحور حولها السياسات السورية والروسية منذ فترة من الزمن، مع الغياب الحالي للسياسة الكبرى. كان يمكن للمرء أن يتناول مع نهاية عام وبداية آخر، أهم ما كان أو ما يمكن أن يكون، وتغري كثيراً حالة الوباء وطغيانه، مع أخبار طفو المعركة الانتخابية الأمريكية فوق الوضع الدولي، وما شكّلته السياسات التي قادها دونالد ترامب من ظواهر تنذر بتشكيل عالم جديد، أو تدارك ذلك، ولو إلى حدود معقولة.
قوّض المحتلان الروسي والإيراني، ما كان للأسد من شرعية كاذبة، بسيطرتهما على المرافق العامة وكلّ ما للدولة من خصائص في استقلالها
إلّا أن استفزاز مسألة الأسد يفرض علينا، نحن السوريين، على الأقل مواجهتها، ابتداءً من على الورق. ليس هنالك من شرعية لرئاسة الأسد منذ 2011 ومهما كانت مرجعيتها، سوف تتآكل حتى خيالاتها، في حالة مضيّه في إعادة ترشيحه وانتخابه. وهي مهما كانت شكلية لا تضيف جديداً إلى واقع الحال، كما يمكن أن يقول البعض؛ إلّا أنها أيضاً مهمة لصاحبها، وليس هنالك من لا يأبه بشرعية ما لسلطته وصورته، مهما كانت درجة طغيانه واستبداده بالأمر. قد تأتي الشرعية من التقاليد التي يحافظ الناس عليها، حين تستحكم بهم وتأسرهم بعد طول ممارسة للسلطة على نسقٍ محدّد، ومع أشخاص بعينهم، أفراداً أو عائلاتٍ أو نخبة أو فئة، عشيرة كانت، أم طائفة، أم عصابة معمّمة. ولا ريب في أن أيّ شيءٍ من هذا القبيل قد تبخّر في الأعوام الأخيرة، بعد أن أنهت الثورة أثر تلك التقاليد، وما يتداخل معها من» قوة العادة» والعجز عن احتمال التغيير، وصدمته المجهولة المفاعيل. ولكن ذلك أيضاً قد تلاشى، وصغرت تلك الدائرة المعرّضة لتلك الظاهرة، حتى لدى قريبين من مركزها ورئيسها.. وتدهورت الأحوال حتى بدأ البعض يقولون» لا يمكن لأيّ تغيير أن يؤدّي إلى الأسوأ، لأننا في الحضيض».
يمكن للتاريخ أن يهب بعض شرعية مطلوبة، حين تكون هنالك «منجزات» كبيرة وعملية، كخلق مكانٍ للبلد في المنطقة والعالم، أو النصر في حروب خارجية كبرى، تؤمّن الحماية للدولة والمجتمع من الأخطار الخارجية، أو بناء اقتصاد مزدهر، وتنمية لا تأكلها النيران – كما فعلت- وهنا، لو كان لأبيه شيءٌ من ذلك مهما اعترض معارضوه، فليس للابن منه إلّا الكاريكاتير والمسخرة.. وليست لديه في هذا حتى إمكانية تقديم الوعود.
وقد تأتي الشرعية للمستبدّ خصوصاً من كتب التاريخ ومن «الغلبة». وهذه منطقة أثيرة للنظام ومربط فرسه، منذ قال وزير دفاع الأب قديماً وبصراحة مذهلة: «لقد أخذنا البلاد بالبندقية، ومن كان قادراً على أخذها منّا بالبندقية فأهلاً وسهلاً» أو ما هو من هذا القبيل. وتكفي نظرة لتوزّع القوى، ليس في المناطق الخارجة تماماً عن سيطرته، كما في الشمال بشرقه وغربه، بل في مناطقه ذاتها، بعشرات أو مئات العصابات المنفردة – وأحياناً المنفلتة- وتشتّت الجيش «العربي السوري» وتهلهله إلى ما يشبه تلك العصابات.. إضافة إلى جماعات أكثر انضباطاً، ولكن لأوامر الغير في إيران، أو روسيا، أو أيّ مكان آخر.. ليس هنالك «غلبة» إلّا بمقدار ما تسمح تلك الفوضى لفلول النظام بالتسلّط واللصوصية والقمع أو القتل.. وليست تلك «غلبة» ابن خلدون، ولا هي خيالٌ لها. أمّا الشرعية «الرسمية» من حيث الاعتراف الدولي رسمياً بالنظام، فلن نعود له ولحساباته، إلّا لنقول إن عشرات الدول ربما تتحفّظ على سحب اعترافها، ولكن لنذكّر هنا بأن الجامعة العربية وأوروبا وشمال أمريكا، لا شائبة في اعتراضها على الأسد ونظامه، اعتراضاً ليس شكلياً أبداً، مهما جاءت أنباءُ مناقضة لذلك من هنا أو هناك. ولا يمكن اعتبار محاولات البعض للركوب على النظام حالياً لأهداف عابرة أمنية، أو مستقبلية تتعلق بعوامل جيواستراتيجية، أو بإعادة الإعمار؛ اعترافاً فعلياً به وبشرعيته.
ليست لدى بشار الأسد شرعية كذلك النوع القديم، كالذي تكوّن لدى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية – الولي الفقيه – علي خامنئي أيضاً، مهما اعترضنا على منطق الحقّ فيها: الشرعية الدينية، ولا ضرورة للتفصيل في افتقار بشار لذلك بأي شكلٍ وعلى أيّ الجانبين يميل. وبالطبع، ليس هنالك، ولن يكون، لبشار شرعية صندوق الاقتراع الحديثة، المعروفة العناوين والعناصر، وليترك اللاجئين والنازحين ينتخبون بحرية، وليترك أهله أنفسهم ينتخبون بحرية مع الناس العاديين البسطاء من دون إسار الرعب و»التشبيح».. وليترك للأمم المتحدة والمجتمع المدني الدولي أن يشرفا على الانتخابات.. مع أن ذلك قد «يخدش» السيادة الوطنية، وصلح ويستفاليا ومعاهدة فيينا، وحتى تفاهمات يالطا أيضاً. وربّما يكون واحداً من مصادر الشرعية، مهما كانت منقوصة أو جزئية، الاعتماد على ولاء أقلية عرقية أو عشائرية أو دينية أو طائفية، بشكلٍ متماسك عسكرياً ومدنياً وطائفياً غير متخلخل. وقد نجح هذا الرجل ببعثرة إرث أبيه، وَقلَب على نفسه طائفته التي كان أبوه سابقاً، وهو من بعده، يعتبرانها الحصن والملاذ.
لقد أدّت سياساته إلى خسارة «طائفته»- وليست كذلك على الإطلاق – لمئات الآلاف ربّما من شبابها، وهي في ذلك تختلف حتى عن خسارة «خصومه» لمئات الآلاف من كلّ الأعمار ومن الجنسين. لقد استطاع بشار أن يورّط من اج\تمعوا حوله، ويودي بهم إلى الدمار والهلاك، الذي لا يختلف كثيراً عن هلاك ودمار من ثاروا عليه ومن قاتلوه.. وفي ظروف العوز الخانق، ونزيف الدماء المستمر، واسوداد الأفق وانسداده، لم يبق لبشار مما كان لديه إلّا القليل، الجاهز للانفضاض عنه أمام أي عملية سياسية، وإسهام دولي لائق ومقنع فيها. ومع العقوبات الدولية التي زادت من ضيق الخناق على النظام، وحشرت محاولات شرعنته في الزاوية؛ ومع تطوّر المحاسبة الدولية وقضايا الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها، التي سوف تكون على أي طاولة يتمّ التحضير لها، خارج تلك الطاولات الحالية البائسة العاجزة، ومع تضييق «قانون قيصر» حتى على داعميه من بعد، وانهيار العملة وتحليق الأسعار التي سوف تعيد تخليق الشجاعة لدى الناس الموجودين في مناطق سلطته؛ ومع زيادة الضغوط للإفراج عن المعتقلين، وأعدادهم تقارب المئة ألف أو أكثر.. ومع ميزانية جديدة هي الأقل حجماً، والأكثر تدجيلاً في تاريخ سوريا الحديث.. مع ذلك كلّه ليس من شرعية لإعادة انتخاب الأسد، لا شكلاً ولا مضموناً.
وربما قبل أيّ شيء آخر، لا شرعية لحكومة عميلة لمحتلّ، إيرانياً كان أم روسيا ً(وهذا لا ينطبق على النظام وحده بالطبع، ولا على إيران وروسيا وحدهما أيضاً). ولا ننسى أيضاً كيف قوّض هذان المحتلان، ما كان للأسد من شرعية كاذبة، من خلال سيطرتهما على المرافق العامة، وكلّ ما للدولة من خصائص في استقلالها، ومن ذلك تكبيلها بعقود تمنع ذلك الاستقلال لعشرات السنين المقبلة، ولا تحترمها حتى كشريك أصغر. ونسمع منهما في الوقت نفسه تكريساً لشرعيته حين يتعلّق الأمر بشرعنة وجودهما ومستقبله، ونيلاً منها حين يكون الحديث عن دور كلّ منهما الحاسم في الحفاظ على النظام وضمان استمراريته.
تبقى مهمة النخب السورية المعارضة وغير المعارضة، الرسمية والشعبية والمدنية، هي جعل ذلك أكثر صعوبة، وإغلاق الأبواب على تمرير ذلك الأمر.. وكذلك لجم شهيّة الانتهازيين لانتهاز الفرص الرخيصة، على التعامل معه وكأنه باب إجباري لا بدّ من سلوكه.. وتشجيع حيائهم على الأقل، أو حذرهم وخوفهم من غضب الناس والتاريخ.
موفق نيربيه
القدس العربي