يخيل للمرء في الوهلة الأولى وهو يرى أنصار الرئيس دونالد ترامب يقتحمون مقر الكونغرس في السادس من يناير/ كانون الثاني الجاري، أنه يشاهد فيلما وثائقيا عن اقتحام أنصار مقتدى الصدر لمبنى البرلمان العراقي في الثلاثين من نيسان/ إبريل عام 2016. القيادة الشعبوية هي نفسها في الحالتين، والسلوك سار وفق النمط نفسه، دعوة للتقدم واقتحام، ثم نداء للتراجع والتثمين والشكر. كذلك الأنصار والرايات في كلا الطرفين، من العقلية ووفق منظومة ولاء متشابهة، لكن ما ليس مؤثرا في الصعيد الدولي في الحالة العراقية، فإنه مؤثر جدا في الصعيد نفسه في الحالة الأمريكية.
بأسلوبه نفسه في إدارة الدولة والتعامل مع القضايا العالمية، أشعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المشهد بعدة تغريدات، لتنطلق حشود هائلة مقتحمة مقر الكونغرس، بتحريض مباشر منه، وتعبث فيه ثم تتراجع. صحيح أن الوضع في الكونغرس والمنطقة المحيطة به قد عاد إلى ما كان عليه، لكن المشهد سيبقى مستوليا على الذاكرة الأمريكية لفترة طويلة. بعض المحللين وصفوا الواقعة بأنها حادث إرهابي، لأن غاية من قاموا بالفعل هو، تعطيل الإجراء الدستوري لإعلان من هو الفائز في الانتخابات باستخدام العنف.
آخرون قالوا إنه وصمة عار في جبين الأمة الأمريكية، وإذا كان حقا عارا فهل تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية بعد اليوم أن تمنح شهادات حسن سلوك للآخرين؟ عقود طويلة كانت هي الدولة التي تأمر والكثير يخضعون، وهي التي تقول والآخرون يسمعون، وهي التي تسمي هذا الفعل إرهابا وأولئك إرهابيين وهذه الدولة مارقة وتلك لا، ومن ليس معنا فهو ضدنا، ثم يصنف العالم ويردد ما تقول، وكما هي تريد حتى بدون رأي في الكثير من الأحيان. لكننا نجد اليوم أن كل هذه التوصيفات أنطبقت عليها بعد الذي حصل، في حين كانت من المحرمات. إنه جرح غائر وطعنة في الكبرياء، ذلك الذي تعرضت له الولايات المتحدة، لكن السؤال هو ما الدوافع وراء كل ذلك؟ وما هي تداعيات ما حصل على النظام الدولي؟ إن حادث اقتحام الكونغرس كان صورة واضحة عن كل آفات المجتمع الأمريكي.. أولها العنصرية التي تتمثل بشكل واضح في الملايين من الشعب، لكنها كانت خافتة، وترامب هو من أوجد لها التربة الخصبة والمناخ الملائم كي تنمو وتكبر، وتظهر إلى العلن. ثانيها الأزمة السياسية التي تضرب أطنابها في النسيج السياسي، حيث أن التيارات السياسية الحقيقية والموجودة على الأرض، ليست ممثلة في النظام الحزبي، فلا الحزب الجمهوري يمثل التيار المحافظ في المجتمع، ولا الحزب الديمقراطي يمثل الليبراليين الديمقراطيين، فالحزب الجمهوري بات حزب القوميين البيض المعاديين للأجانب، والحزب الديمقراطي بات حزب الديمقراطيين الاشتراكيين، لكنهم غير قادرين على القيادة، وبذلك تتلخص التيارات السياسية الامريكية بتيار يميني متطرف، وتيار محافظ تقليدي، وتيار ليبرالي تقليدي، وتيار يساري اشتراكي. أما ثالثها فهي الأزمة الاجتماعية الناتجة عن الأزمة الاقتصادية، التي حصلت عام 2008، حيث فقدت الطبقة الوسطى الأمن الوظيفي، وأصبحت مهددة في مصدر عيشها ومستقبلها، وبدأت تنظر إلى السياسة نظرة أخرى.
صورة اقتحام الكونغرس وصورة انهيار البرجين كلا الحادثين بعثا للعالم صورة أمريكا المهتزة المشكوك في قوتها
هذه الأزمات الثلاث انعكست بشكل واضح في المخرجات السياسية للواقع الأمريكي، حتى مجيء الرئيس السابق أوباما كان تعبيرا عن هذه الأزمة، لأنه ليس من السهل أن يأتي رئيس ملون في أمريكا، ولأن هذه الأزمة مستمرة ومستفحلة، فإنها ولّدت دونالد ترامب أيضا، لانه لو لا توجد أزمة سياسية، لما كان ترامب قادرا على أن يكون المرشح الوحيد للحزب الجمهوري، ثم رئيسا للولايات المتحدة، على الرغم مما يتمتع به من رثاثة سلوكية ومعرفية ودبلوماسية وسياسية، إذن ترامب هو نتيجة منطقية للأزمات في الواقع الأمريكي قبله، ومعه وهي ستستمر بعده أيضا. أما تداعيات ما حصل على النظام الدولي، فتلك مسألة أخرى وذات أهمية قصوى، فبعد الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم إلى معسكرين رأسمالي واشتراكي، تزعمت الولايات المتحدة العالم الغربي، اعتمادا على مواردها الاقتصادية وقواها العسكرية، وقد أثبتت للحلفاء أنها قادرة على دفع تكاليف هذا الدور، فتعززت صورتها في كل العالم، لكنها في الفترة الأخيرة باتت تمر بأزمة عميقة، فمركزها الدولي تراجع كثيرا، وباتت تريد الهروب من مسؤولياتها الدولية، بالتنصل من المعاهدات والخروج من المنظمات الدولية. كما أنها باتت تعاني من التشكل الجديد الحاصل في النظام الدولي، خاصة بوجود منافس اقتصادي دولي كبير كالصين، ومنافس سياسي دولي بات يتحرك كثيرا ويضع مجساته في العالم وهو روسيا، العدو التقليدي للولايات المتحدة، ما شكل لها هاجسا كبيرا وهو الخوف من تحالف الصين وروسيا، الذي سيكون خطرا حقيقيا على دورها في العالم، وفي مناطق استراتيجية مهمة، أيضا هنالك الحليف الأوروبي الذي دفعه ترامب إلى الخلف وبات غير قادر على المساعدة في ملفات كثيرة، بل يختلف في هذه الملفات معها.
كل هذه الهواجس هي التي دفعت أن يكون هنالك نموذجان في الانتخابات الأمريكية الأخيرة. نموذج أمريكا أولا، الذي مثله ترامب، ونموذج بايدن الذي يدعو إلى أمريكا قائدة للعالم. واليوم بفوز بايدن يعني أنها اختارت الطريق الثاني وهو أمريكا قائدة العالم، لكن هذا الطريق ليس سهلا ويسيرا في ظل التحولات الدولية الحاصلة، خاصة في فلك الفاعلين الدوليين الصيني والروسي، وكذلك تأثيرات وباء كورونا على النظام الدولي المقبل الذي هو في طور التشكل الآن. لكن السؤال يمكن أن يكون أيضا أكثر تحديدا بهذه الصيغة، ما تداعيات ما حصل في الكونغرس علينا نحن العرب؟ وهنا سيأتي في الذاكرة ما حدث في الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عند انهيار البرجين. فصورة اقتحام الكونغرس وصورة انهيار البرجين كلا الحادثين بعثا للعالم صورة أمريكا المهتزة المشكوك بقوتها، والتي يُمكن أن تُطعن بسهولة سواء بفعل فاعل داخلي، أو فاعل خارجي. فإذا كانت نتائج الحدث الأول وتداعياته احتلال أفغانستان، وغزو وتدمير العراق والإخلال بالتوازن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، ثم تداعيات ذلك على العالم أجمع بفعل الحركات المتطرفة التي أطلقها الغزو والاحتلال، فإن الحدث الثاني مازال مبكرا التكهن بارتداداته الآن ومعرفة نتائجه. نعم الحدث الثاني هو نتيجة أزمة في المؤسسات السياسية والاجتماعية الأمريكية، لكنها يمكن أن ترسم سلوكا آخر للولايات المتحدة، لا أحد يعرف ملامحه الآن، وربما تكون تأثيراته كبيرة فينا وفي غيرنا أيضا.
أخيرا سيدخل بايدن البيت الأبيض وستواجهه تحديات كبيرة أولها، إقناع 73 مليون مواطن أمريكي بأنه رئيسهم، في حين هؤلاء ينظرون إلى ترامب على أنه أقرب إلى المسيح المخلص، وهو بالنسبة لهم ليس رئيسا وحسب، بل موقفا جديدا في السياسة الأمريكية وفلسفة من نوع آخر. الأكثر من هذا أنهم أصبحوا أكثر تشكيكا بقيم الدولة الأمريكية، وباتوا يتهمونها بأنها وقفت ضده وسرقت أصواتهم. كيف سيستطيع بايدن أن يضمد جراح الديمقراطية الأمريكية، لتعود تبشر بما تسمى القيم الحرة والانتقال السلمي للسلطة وكل هذه باتت ضعيفة جدا؟
ما حدث يعطي صورة سلبية جدا عن قدرة الولايات المتحدة، بالاضطلاع مستقبلا بمهام الدولة العظمى، لأن صورتها تأثرت كثيرا، لذلك الخوف اعترى الحكومات الغربية ودول أخرى من فراغ في منظومة القيادة والسيطرة على العالم.
د.مثنى عبدالله
القدس العربي