تتسع رقعة الخلافات داخل هيئة “الحشد الشعبي”، المظلة الجامعة لأكثر من 70 فصيلاً مسلحاً، لتتركز هذه المرة داخل الفصائل الموالية لإيران المعروفة بـ”الولائية”، بعد أن كانت مقتصرة سابقاً على التباينات بين “حشد العتبات” الموالي للنجف، والمليشيات المرتبطة بإيران. ويعزو مراقبون ومقرّبون من قادة “الحشد”، أسباب الخلافات المتزايدة إلى غياب القيادة الموحّدة، بعد مقتل نائب رئيس “الحشد” أبو مهدي المهندس بالغارة الأميركية التي استهدفت قائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، في 3 يناير/كانون الثاني 2020. ويرون أن توقف المعارك مع تنظيم “داعش” من الأسباب المثيرة للخلافات، بسبب انصراف كثير من الفصائل لقضايا تجارية ومالية داخل المدن المحررة على وجه التحديد، فضلاً عن العاصمة بغداد، من أجل الحصول على مناصب في الوزارات والمؤسسات الحكومية.
أدى غياب القيادة الموحّدة إلى استفحال الخلافات داخل “الحشد”
وتفيد مصادر مقرّبة من مكتب رئيس هيئة “الحشد الشعبي”، فالح الفياض، في حديث لـ”العربي الجديد”، بأن الشهرين الماضيين كانا حافلين بالخلافات بين قادة الفصائل “الولائية”، ولا تزال قائمة لغاية الآن من دون حسم. ويتلخّص الخلاف الجديد، بشأن إعادة توزيع ألوية “الحشد الشعبي”، على المناطق المنكوبة شمالي العراق وغربه، المحررة من سطوة تنظيم “داعش”. وتريد “عصائب أهل الحق” الانتشار في مناطق نينوى وصلاح الدين، متذرعة بامتلاكها جناحاً سياسياً شارك في الانتخابات النيابية السابقة (2018) وسيشارك في الانتخابات المبكرة في 6 يونيو/حزيران المقبل، تحت اسم “حركة صادقون”. وتحرص “العصائب” على الاستفادة من أصوات المواطنين في تلك المناطق خلال الانتخابات المقبلة. لكن قادة “كتائب حزب الله”، وأبرزهم نائب رئيس “الحشد الشعبي” عبد العزيز المحمداوي “أبو فدك”، يرفضون تواجد “العصائب” في نينوى وشمالي بغداد، مفضّلين أن تبقى في بعض مناطق صلاح الدين وشرقي الأنبار.
وتمتد خلافات توزيع الفصائل إلى ديالى، التي يتقاسم فصيلا “بدر” و”سرايا السلام” التابعان للتيار الصدري، إلى جانب فصائل مسلحة أخرى، النفوذ في مناطقها، في مقابل تحصن “كتائب حزب الله” في مناطق حزام بغداد، تحديداً في أبو غريب والمحمودية والرضوانية. وترفض “الكتائب” تحريك عناصرها لمناطق أخرى. من جهتها، حسمت مليشيا “حشد الشبك” ومليشيا “بابليون” أمرهما في سهل نينوى ذي الغالبية المسيحية، على اعتبار أنه إحدى مناطق تواجدهما الرئيسية منذ تشكيلهما عام 2014. في الوقت عينه، تتصارع فصائل “حشد التركمان” و”بدر” و”جند الإمام” على مناطق جنوب غربي كركوك.
وتشير المصادر إلى أن للخلافات صلة مباشرة أيضاً بالمكاتب الاقتصادية لتلك الفصائل، فضلاً عن أنشطة مختلفة ذات مردود مالي تمكنت من إنشائها وتنميتها مع مسؤولين محليين في تلك المناطق. وتدرّ تلك الأنشطة أرباحاً كبيرة على تلك الفصائل، من بينها ملف التجارة والتهريب عبر الحدود مع سورية من جهة الأنبار ـ البوكمال ونينوى ـ دير الزور. وتلفت إلى أن الخلافات الحالية كانت تحدث في ملفات ومواضيع أخرى، لكنها سرعان ما تُحسم بوجود أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني، اللذين كانا يمثلان حلقة الوصل بين كل الفصائل وطرفاً ضامناً وملزماً للجميع، ولكن بغيابهما ظهرت أكثر من حالة داخل “الهيئة”.
وتكشف المصادر عن خلافات شخصية قائمة بين زعيم “عصائب أهل الحق”، قيس الخزعلي و”أبو فدك”، الذي خلف المهندس في منصبه. ويعود أساس الخلاف بينهما إلى بعض المناصب الإدارية وتوزيعها على قياديي “العصائب”، رغم سعي زعيم منظمة “بدر” هادي العامري أكثر من مرة إلى التدخل وحلحلة الأمور بين الطرفين، من دون أن ينجح.
وفي ظلّ مماطلة الحكومة في الكشف عن نتائج التحقيق بمجزرة الفرحاتية في محافظة صلاح الدين، التي نفذها عناصر يتبعون “عصائب أهل الحق” في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تؤكد المصادر أن أحد أسباب الخلاف بين الخزعلي و”أبو فدك”، موافقة الأخير على اعتقال المتورطين في الجريمة من أتباع الخزعلي، ومنح الضوء الأخضر للقوات الأمنية، وهو ما لم يتم بالنهاية بطبيعة الحال.
وسبق أن ظهرت أولى بوادر الخلاف بين الفصائل المرتبطة بإيران، إثر الإعلان عن التهدئة مطلع أكتوبر الماضي التي عُرفت بـ”هدنة التهدئة”، من خلال وقف الفصائل المسلحة استهداف المنطقة الخضراء حيث تقع السفارة الأميركية. وتمّ ذلك بعد اجتماع بين ممثلة الأمم المتحدة في بغداد جينين بلاسخارت و”أبو فدك”، مقابل أن تضع الحكومة جدولاً واضحاً لانسحاب القوات الأميركية من العراق. لكن الخزعلي اعتبر، بعد أقلّ من شهر، أن “الهدنة مع الأميركيين انتهت لعدم تحقّق شروطها”، مناقضاً تعهّد “أبو فدك”.
تبدو مسألة انتشار الفصائل في المناطق، من أبرز الملفات الخلافية
وعلى الرغم من التأكيدات الكثيرة على التوترات داخل “الهيئة”، إلا أن القيادي في حركة “أنصار الله الأوفياء” عادل الكرعاوي، أكد أن “ما يدور من حديث عن خلافات داخل هيئة الحشد، هو حديث إعلامي لا علاقة له بالروابط الأخوية بين قادة الفصائل”. ورأى في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أنه “من الممكن أن تحدث بعض الارتباكات الإدارية، وهو أمر عادي ويحدث”. وأشار إلى أن “العلاقة بين ألوية الحشد الشعبي وفصائل المقاومة الإسلامية بعيدة عن المصالح الشخصية، بل تتفق على المصلحة الوطنية والدينية. وهناك أهداف تسعى إليها المقاومة ترتبط بضمان تحرير العراق من الاحتلال الأجنبي، وهذا ما تتفق عليه جميع الفصائل”.
بدوره، رأى مدير مركز التفكير السياسي في العراق إحسان الشمري، أن “مقتل سليماني أثّر على السياسة الإيرانية كثيراً، لدرجة أنها أصبحت فاقدة للبوصلة في ما يتعلق بلملمة البيت السياسي الشيعي، وحصر الخلافات بين الفصائل المسلحة”. وأضاف في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أن “إيران لم تستطع إنتاج شخصية توازي سليماني، كما أن غياب المهندس جعل بعض الفصائل تتمرّد وأخرى تنحسر في أدوار بسيطة”.
وكان البرلمان العراقي قد أقر في عام 2016 ما عرف باسم “قانون الحشد الشعبي”، الذي اعتبر “الحشد” مؤسسة عسكرية مرتبطة بالقائد العام للقوات المسلحة (رئيس الحكومة) وتتلقى أوامرها منه، لكن أغلب فصائل “الحشد” لم تلتزم بالتوجيهات الحكومية، وارتكبت انتهاكات كثيرة في المحافظات التي شهدت معارك ضد “داعش”. كما أظهرت ولاءها لإيران بشكل معلن، لا سيما في ما يتعلق بتداعيات قصفها للمواقع العسكرية الأميركية في العراق.
ومطلع الشهر الماضي، نظم “حشد العتبات”، المرتبط بالنجف وكربلاء ويشكل أكثر من 40 في المائة من مجموع مقاتلي “الحشد الشعبي”، مؤتمراً هو الأول من نوعه في مدينة النجف واستمر لثلاثة أيام. وعبّر عن رغبته في العمل إلى جانب الجيش العراقي، بعيداً عن الفصائل الأخرى في الحشد، وإقراره بمنع مشاركة عناصره في الترشح للانتخابات تحت أي عنوان، والالتزام بقرارات الحكومة والعمل بموجب أوامر القائد العام للقوات المسلحة. وهو ما اعتبر بمثابة إعلان صريح عن انقسام “الحشد الشعبي” إلى فريقين: الأول عراقي الولاء ومدعوم من مراجع النجف والثاني لا يخفي ارتباطه بإيران، ولعل أبرزه “كتائب حزب الله”، و”عصائب أهل الحق”، و”النجباء” و”سيد الشهداء” و”بدر”، و”البدلاء” و”جند الإمام”، ومليشيات أخرى.
زيد سالم
العربي الجديد