يتفق المراقبون على أن دخول العراق في معركة شاملة لإصلاح الاقتصاد على كافة الأصعدة يشكل لحظة مفصلية في تاريخ البلد الغارق في الأزمات، وأن المحاولات الحالية ستخدم خطط الحكومة لوضع الأمور في طريق التعافي من التداعيات، التي دمرت أساسات نمو ثاني أكبر منتج للنفط في العالم.
ووافقت حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في أكتوبر من العام الماضي، على وثيقة تدعو إلى إصلاح شامل للنظام الاقتصادي الفاسد، ويعدّ “الكتاب الأبيض” للإصلاح الاقتصادي خارطة طريق لتنفيذها.
واعتبر نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية علي عبدالأمير علاوي، أن الوثيقة تسعى لوضع الاقتصاد على مسار يسمح للدولة باتخاذ الخطوات المناسبة في المستقبل ليصبح متنوعا وديناميكيا. وتبدو أهمية تنفيذ هذه التوصيات بارزة وحتمية على عكس قدرة الحكومة على اتباع هذا الدرب.
وتشير مؤسسة “عرب دايجست” الاستشارية، إلى أن “الكتاب الأبيض” يستهدف التوسع المستمر في دور الدولة، مع تضاعف عدد موظفي القطاع العام ثلاث مرات بين سنة 2004 و2020، وفي الفترة نفسها تضخمت رواتب موظفي هذا القطاع ومعاشاتهم بنسبة 400 في المئة.
تبعات فشل متراكم
يطلق عجز الدولة العراقية عن مواجهة أبسط الأزمات بين الفينة والأخرى، وجائحة كورونا تعد أحد الأمثلة على ذلك، حالة النقمة على الطبقة السياسية، التي تولّت زمام الحكم بعد إسقاط الغزو الأميركي لنظام الرئيس الأسبق صدّام حسين، والتي لم تضف شيئا إلى إنجازاته، التي حقّق بعضها في فترات صعبة.
ولم تتمكن الطبقة الحاكمة، التي يدين أغلبها بالولاء لإيران، حتى من الحفاظ على تلك الإنجازات وحمايتها، مكتفية بانتقاد النظام السابق، غير أن الاحتجاجات التي تفجرت العام الماضي كانت لحظة فارقة في تاريخ بلد نخرته آفة الفساد منذ العام 2007.
وفي ورقة بحثية كتبها للمجلس الأطلسي، قال الباحث بمعهد الدراسات الإقليمية والدولية في السليمانية شمال العراق، أحمد طبقجلي إن “القضية الرئيسية التي أبرزها الكتاب الأبيض تكمن في الثقب الأسود المعلوماتي الناجم عن عملية الميزانية الورقية”. واعتبر أن الأمر حرج جدا، لأن النفقات فوق قدرة العراق المالية.
وعندما تولى علاوي وزارة المالية في مايو الماضي، توقع عشرة تريليونات دينار (6.8 مليار دولار) من الاحتياطات المالية في الخزانة، واكتشف أن الأموال لا تتعدّى خُمس هذا المبلغ.
وفي بلد يعاني من أزمة بطالة حادة، تعتمد 40 في المئة من القوة العاملة على رواتب الحكومة، وفي المقابل شهد العراق تقلص القطاع الخاص وقدرته على توفير وظائف، في بلد يبلغ معدل بطالة الشباب فيه 25 في المئة. كما تعرقل هدف تنويع الاقتصاد شبه المعتمد على النفط، مع تضاعف الفساد في جميع القطاعات، كما لم يوجد قطاع خاص نشط من شأنه أن يمكن من تحقيقه.
ويبرز الاعتماد على النفط ومقدار ثروته التي تُضخ في القطاع العام غير المنتج في إحصاءات الحكومة، التي تدفع 5 مليارات دولار لموظفي الحكومة شهريا بينما لا تجني أكثر من 3.5 مليار دولار من عائدات النفط، وقد فاقمت الجائحة تلك المشكلة، بحسب تقييم صادر عن صندوق النقد الدولي الشهر الماضي.
ومن المتوقع أن ينخفض نمو إجمالي الناتج المحلي الحقيقي إلى 11 في المئة في 2020، ويعكس ذلك الانكماش في حجم الإنتاج النفطي، وتعطُّل النشاط الاقتصادي غير النفطي. وقد يؤدى الانخفاض الحاد في الإيرادات النفطية أيضا إلى زيادة العجز في المالية العامة والحساب الجاري الخارجي إلى 20 و16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، على التوالي.
وبينما ساهمت الجائحة في تهدئة الاحتجاجات العامة، لا تزال القضايا، التي أخرجت الآلاف من العراقيين إلى الشوارع قائمة، ومن أهمها فشل الحكومات المتعاقبة في تقديم الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والكهرباء ومياه الشرب النظيفة للمواطنين.
وساءت الأمور أكثر مع تواصل ارتفاع أسعار المواد الغذائية نتيجة لانخفاض قيمة الدينار العراقي مع نهاية العام الماضي، للمرة الأولى منذ عقود، في استجابة للضغوط الاقتصادية التي تشمل تراجع أسعار النفط.
وتلقى العراق دفعا الأسبوع الماضي بعد أن رفعت إيران شحناتها من الغاز الطبيعي من 3 إلى 5 ملايين متر مكعب يوميا بعد أن تم تقليصها بواقع مليوني متر مكعب بسبب تخلف بغداد عن سداد قرابة 2.7 مليار دولار لطهران، بحسب أحمد موسى المتحدث باسم وزارة الكهرباء العراقية.
ويبدو أن إيران، التي زرعت أذرعها في العراق وابتلعت ثرواته، قد سئمت الانتظار، وهو وضع وصفه طبقجلي، في تعليق نقلته صحيفة “نيويورك تايمز”، بـ”الرهيب”. وقال إن “النفقات تفوق دخل العراق بكثير”.
وينبع التباين وفق طبقجلي، من أوجه القصور في عملية الموازنة الورقية التي تمتد من التخطيط إلى التنفيذ والمراقبة، فقد استمر العراق على هذا الهيكل القديم لأنه يفتقر إلى نظام إدارة مالية عامة سليم.
وفي جوهر إدارة الشؤون المالية العامة، يؤكد المحللون على أنه يجب أن يوجد نظام آلي لإدارة المعلومات، يُعرف باسم نظام معلومات الإدارة المالية المتكامل الذي يربط جميع الوحدات الحكومية إلكترونيا، ويحقق أتمتة وظائف تنفيذ الميزانية الأساسية، ويتيح رؤية عملية ديناميكية وشفافة من البداية إلى النهاية.
حدود نجاح الخطة
الشهر الماضي، قدّم طبقجلي الخبير في أسواق رأس المال ومدير الاستثمار في صندوق آسيا فرونتير كابيتال، شرحا وافيا حول ما يحدث مستعينا في ذلك بالرسوم البيانية لإيضاح الخلل الجوهري، الذي يعاني العراق منه اقتصاديا. وقال حينها إن بلده يملك ثروات عديدة لكن لا يوجد توظيف صحيح لها بسبب سوء الإدارة أدت إلى تآكل الاقتصاد، وهي تبرز مع كل انخفاض لأسعار النفط أو حدوث مشكلة ما.
ولكن التحرك نحو هذا النظام سيدفع إلى تأمين خارطة طريق علاوي للإصلاح الاقتصادي، بما يعادل إنارة شارع غارق في الظلام، لكن هذا الأمر يتعارض مباشرة مع واقع البنية السياسية الطائفية في العراق الصعب، والذي يُعرف بالمحاصصة. وقد انطلق تطبيق هذا النظام بتوجيه من الولايات المتحدة بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في 2003.
ويضمن أن يكون للعديد من الطوائف والانتماءات القبلية والعرقية تمثيل سياسي في البرلمان، ويضمن سيطرتها على الوزارات ويمنحها صلاحية صرف الأموال داخل تلك الوزارات كما تراه مناسبا. وشهد العراق بالتالي الزيادة الهائلة في موظفي القطاع العام، مع توزيع الوظائف ومنح العقود للعائلة والأصدقاء والداعمين.
وقد يوجّه تأسيس نظام مالي مترابط إلكترونيا ضربة كبيرة لهيكل المحاصصة، وبينما يريد العديد من العراقيين إنهاء المحاصصة، تعارض النخب السياسية هذا الطلب لاستهدافه قدرتها على صرف الأموال والموارد داخل دوائرها الطائفية والعرقية السياسية.
وجادل طبقجلي في ورقته للمجلس الأطلسي بأن العراق لا يتمتع بأي خيار سوى جعل نظام الإدارة المالية العامة يؤتي ثماره، وتتطلب الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت بسبب الوباء ذلك، حيث “تترك شدة الأزمة الحالية ومدتها الطويلة المحتملة خيارات قليلة بخلاف هذا التنفيذ”.
وربما يكون هذا الوقت الأمثل لذلك، فقد ارتفعت أعداد المصابين بفايروس كورونا المستجد في العراق في أواخر سبتمبر، لكنها استمرت في الانخفاض منذ ذلك الحين. كما استقر سعر النفط فوق 50 دولارا للبرميل.
العرب