رقعة الشطرنج اللبنانية-الإسرائيلية: النزاع على الحدود والغاز شرق المتوسط

رقعة الشطرنج اللبنانية-الإسرائيلية: النزاع على الحدود والغاز شرق المتوسط

أعلن رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في غرة أكتوبر/تشرين الأول 2020، عن التوصل إلى “اتفاق إطار” بين لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية. يتمحور الاتفاق حول تحديد “آليات التفاوض” على النزاع القائم بين الطرفين فيما يتعلق بحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما شرق البحر المتوسط، حيث تدّعي إسرائيل وجود حقوق لها داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية. عقدت عدّة جولات تفاوضية بين بيروت وتل أبيب في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2020، وكان يُفترض أن تُجرى جولات جديدة في ديسمبر/كانون الأول، لكنها لم تحصل.

تبحث هذه الورقة في خلفيات النزاع بين الطرفين، أصله، أسبابه، المراحل التي مرت بها جهود الوساطة بينهما، وظروف ودوافع التفاوض لديهما في مراحل مختلفة، وجولات التفاوض، وآليات حل النزاع بينهما.

خلفية عن النزاع الحدودي البحري
يعود الخلاف الحالي على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في جزء كبير منه إلى الإجراءات الأحادية التي قامت بها جمهورية قبرص، والتي نجم عنها اتفاقيات ثنائية منفصلة بين قبرص وعدد من دول شرق البحر المتوسط، مما أدى إلى تداخل بين الحدود البحرية المرسومة بناء على هذه الاتفاقيات، وإلى انتهاك حقوق عدد من الدول من بينها لبنان وتركيا، بالإضافة إلى حقوق القبارصة الأتراك(1). ولأنّ لبنان لا يعترف بوجود إسرائيل وفي حالة حرب معها منذ عقود تتخلَّلها هُدَن بعضها قصير والآخر طويل الأجل، تزيد هذه المعطيات الوضع تعقيدًا وتعرقل إمكانية تحقيق تفاهم سريع على ترسيم حدود المنطقة الخالصة بينهما.

توصّلت جمهورية قبرص الى اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع لبنان يوم 17 يناير/كانون الثاني 2007. وقد اعتمد البلدان العضوان في اتفاقية قانون البحار على ست نقاط جغرافية لتحديد خط المنتصف بينهما. تضمّن الاتفاق في مادته الأولى (الفقرتان 4 و5) ومادته الثالثة إشارة إلى ضرورة أن يبلّغ أي طرف منهما الآخر ويستشيره أوّلا في أيّ خطوة من شأنها أن تؤثّر على الإحداثيات المشار إليها، سواءً نتيجة طلب أحد الطرفين تعديل الإحداثيات للحصول على مسار أكثر دقّة لخط الوسط الذي يفصل بين الجانبين، أو نتيجة دخول أي منهما في مفاوضات مع طرف ثالث(2).

لقد كان لبنان يراعي -على ما يبدو- ثلاثة اعتبارات أساسيّة، هي:

1- هناك حاجة للتوصل إلى نقاط أكثر دقّة عند الترسيم، ولذلك ترك الباب مفتوحًا -وفقًا لما هو مشار إليه في نص الاتفاق- أمام تعديل محتمل لهذه الإحداثيات، على أن يتم ذلك بالاتفاق بين الطرفين.

2- هناك حاجة لرسم حدود لبنان البحرية مع الأطراف الأخرى التي قد تكون معنية بالاتفاق بحكم تجاور أو تقابل الحدود (في هذه الحالة التجاور مع سوريا وإسرائيل).

3- هناك حاجة لتلافي الاشتباك مع إسرائيل وسوريا.

وبالرغم من أنّ قبرص صادقت على هذا الاتفاق، فإنّ لبنان لم يفعل ذلك. وفي 30 ديسمبر/كانون الأول 2008، قرر مجلس الوزراء اللبناني تأليف لجنة لإعادة دراسة مسودة مشروع الاتفاق الموقّع مع قبرص وترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية. وضعت اللجنة في أبريل/نيسان 2009 حدود المنطقة اللبنانية بشكل منفرد نظرًا لتعذّر التفاوض مع إسرائيل وسوريا، وأدى ذلك إلى استحداث نقطة 23 جنوب النقطة 1 باتجاه إسرائيل، والنقطة 7 شمال النقطة 6 باتجاه سوريا(3) (انظر الخريطة رقم1)(4)، وتمّ تحديثها وإيداع الإحداثيات لدى الأمم المتحدة في يوليو/تموز 2010 وأكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه(5).

خريطة 1الخريطة رقم (1): حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية من النقطة رقم 7 شمالا إلى المنطقة رقم 23 جنوبا.

المصدر: المبادرة اللبنانية للنفط والغاز (LOGI).
وتوصلت قبرص يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 إلى اتفاق لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع إسرائيل أيضًا(6). لم يؤثّر وضع إسرائيل كدولة غير موقّعة على اتفاقية قانون البحار على وضعها التفاوضي أو على التوصّل إلى هذا الاتفاق مع قبرص، لكن المشكلة أن الاتفاق اعتمد على واحدة من الإحداثيات الواردة في الاتفاق القبرصي-اللبناني جنوب لبنان كحدود للمنطقة الاقتصادية الخالصة لإسرائيل من جهة لبنان، وأدى ذلك عمليًّا إلى دخول إسرائيل حوالي 860 كلم2 داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة التي أعلن عنها لبنان سابقا. (انظر الخريطة رقم2)(7).

الخريطة رقم (2): المنطقة المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل وتغطي الفارق في المساحة بين النقطة (1) والنقطة (23). (الجزيرة+الجمعية السويسرية للحوار العربي الأوروبي (ASDEAM)).الخريطة رقم (2): المنطقة المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل وتغطي الفارق في المساحة بين النقطة (1) والنقطة (23).

(الجزيرة+الجمعية السويسرية للحوار العربي الأوروبي (ASDEAM)).
رفض لبنان هذا الاتفاق واعترض عليه لدى الأمم المتحدة(8). كما طالب قبرص بتعديلها بما يحفظ حقوقه في منطقته الاقتصادية الخالصة ويمنع الاعتداء عليها، على اعتبار أنه لم يُستشر كما ينص عليه الاتفاق اللبناني-القبرصي ولم يوافق على هذا الأمر. ردّ الجانب القبرصي بأنّ لبنان لم يصادق أصلا على الاتفاق الموقع معه، وأنّه ليس بوارد تعديل الاتفاق مع إسرائيل، وأنّ على بيروت أن تحلّ مشكلتها الآن مع إسرائيل من خلال التفاوض الثنائي معها. وفي 1 أكتوبر/تشرين الأول 2011(9)، أصدر لبنان مرسوم تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية بشكل منفرد، وأودع الإحداثيات لدى الأمم المتحدة يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 2011(10)، وهو ما اعترضت عليه إسرائيل وسوريا معا في وقت لاحق.

ومع اتجاه كل من لبنان وإسرائيل إلى اتخاذ خطوات أحادية، والاستعداد لتثبيت الحدود البحرية من خلال استصدار تراخيص الاستكشاف، واكتشاف إسرائيل المزيد من حقول الغاز، ازدادت الهوّة بين الطرفين، وبدا أنّ النزاع في طريقه إلى الاشتعال ما لم يتدخل طرف ما للمساعدة على التوصل إلى حل.

جهود الوساطة
تعود جهود الوساطة الأساسية في ملف النزاع على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل إلى العام 2012، ويمكن إيجازها في أربع مراحل أساسية تولّت الولايات المتحدة مهمّة القيام بها، وهي:

1- مرحلة فريديرك هوف(11): عيّنت الولايات المتحدة آنذاك المبعوث الخاص السابق إلى سوريا ولبنان فريديريك هوف، للقيام بمهام الوساطة بين الطرفين والمساعدة على التوصل إلى حل للخلاف بينهما. اقترح هوف تقسيم المنطقة المتنازع عليها مؤقتا بين لبنان وإسرائيل، وذلك بنسبة ثلثين لصالح لبنان وثلث لصالح إسرائيل.

2- مرحلة أموس هوشتاين: في العام 2013، اقترح أموس هوشتاين مساعد وزير الطاقة الأميركي رسم خط أزرق بحري(12) مؤقت على غرار الخط الأزرق البري المرسوم بين لبنان وإسرائيل، على أن تبقى المنطقة المتنازع عليها والملاصقة للخط من الجهتين خارج عمليات الاستكشاف والتنقيب، إلى أن يتم الاتفاق على ترسيم نهائي للحدود البحرية. لم ير هذا المقترح النور بعدما كان لبنان يريد أن تقوم الأمم المتحدة بدور لرسم الحدود.

3- مرحلة ديفيد ساترفيلد: بدأت هذه المرحلة من التفاوض على “آلية التفاوض” بشكل فعّال في العام 2019، وبدا أنّها مدفوعة بحاجة لبنان إلى التنقيب على النفط والغاز، ولذلك تمّ طرح مقترح لبناني حول آلية التفاوض، حمله ديفيد ساترفيلد مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى إلى إسرائيل. كان لبنان يريد تلازم مساريْ ترسيم الحدود البحرية والبرية، وأن تجرى المفاوضات برعاية الأمم المتحدة ودعم الولايات المتحدة في مقر قيادة قوة الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل) في الناقورة جنوب لبنان(13)، وأن يكون التفاوض مفتوحا زمنيا. أمّا إسرائيل فكانت تريد التفاوض على الترسيم البحري فقط، وأن يتم في الخارج (أوروبا أو أميركا)، وأن يكون محددًا بفترة زمنية قصيرة (6 أشهر). تمّ تحقيق تقدّم كبير في هذه المرحلة(14)، لكن الاختراق حصل فعليًّا في المرحلة اللاحقة.

4- مرحلة ديفيد شنكر: تسلّم شنكر مهامه خلفًا لساترفيلد في يونيو/حزيران 2019، وشهدت هذه المرحلة الاختراق الأبرز مع التوصل في غرة أكتوبر/تشرين الأول 2020 إلى “اتفاق الإطار” الذي يحدد إطار التفاوض وآلياته حول النزاع(15). وفق هذا الاتفاق، ستكون المباحثات غير مباشرة بين الطرفين اللبناني والإسرائيلي بوساطة وتسهيل من أميركا ورعاية من الأمم المتحدة، وذلك في المقر الأممي بالناقورة اللبنانية على الحدود مع إسرائيل. تمّ الاتفاق أيضا على أن يُصار إلى بحث مسألة الحدود البرية بشكل منفصل، لكن بموازاة التقدّم الذي يحصل في المفاوضات بخصوص ترسيم الحدود البحرية.

من المهم الإشارة إلى أنّه ما كان لهذا الاتفاق أن يحصل لولا موافقة حزب الله، علمًا بأنّ هناك توزيعا للأدوار يقتضي تولي رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري المفاوضات بشأن الآلية، بينما يتولى رئيس الجمهورية ميشال عون الإشراف على المفاوضات. كما بالإمكان ملاحظة أنّ الجانب الإيراني بقي صامتا تماما فيما يتعلق بالاتفاق على آلية التفاوض واستعداد لبنان للانخراط في مفاوضات مع إسرائيل، وهو ما فهمه البعض على أنه رسالة إلى الولايات المتحدة مفادها أن إيران لا تسعى للتصعيد، وأنها قادرة على إبداء الليونة اللازمة مع إسرائيل حينما يتطلب الأمر ذلك.

معطيات تتعلق بالنزاع البحري

لبنان

إسرائيل

اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار

عضو

غير عضو

اتفاق ترسيم الحدود مع قبرص

2007

2010

ترسيم الحدود البحرية بشكل منفرد

2008

2011

آخر نقطة في الحدود البحرية المتنازع عليها

النقطة (23) باتجاه إسرائيل

النقطة (1) باتجاه لبنان

الفارق في المساحة بين النقطتين

860 كلم2

“بلوكات” لبنانية تتأثر بالنزاع

(8) و (9) و (10)

بدء التفاوض

أكتوبر/تشرين الأول 2020

* إعداد الباحث

دوافع المتفاوضين وظروف المفاوضات
دوافع التفاوض ليست ثابتة زمنيًّا أو ظرفيًّا عند الطرفين خلال السنوات الثماني الماضية، لكن من المهم الإشارة إلى أنّ جزءًا أساسيًّا منها يتعلق بالمصلحة المباشرة للبنان وإسرائيل والمتمثّلة في الرغبة بالاستفادة القصوى من ثروات النفط والغاز في المناطق الاقتصادية الخالصة لكل منهما. أمّا الجزء الآخر من المعادلة فيرتبط بحسابات الولايات المتحدة من جهة، وحسابات حزب الله وإيران من جهة أخرى.

عندما وقّع لبنان الاتفاق مع قبرص عام 2007، كان يرغب -على الأرجح- في القيام بهذه الخطوة لاستباق كل من إسرائيل وسوريا. وربما شجّعه الاتفاق الذي تم بين قبرص ومصر عام 2003 على القيام بذلك أيضا، لكن المشكلة أنّ الملف لم يكن قد نضج داخليا بما فيه الكفاية، وكان يخضع لتجاذبات محليّة سياسية وطائفية، في وقت كان فيه لبنان يعاني من أزمات حادة عقب اغتيال الحريري (2005). في الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2016، بدا أنّ لبنان لا يستعجل التفاوض مع إسرائيل أو التوصل إلى حل لأسباب عديدة أهمها: انخراط حزب الله في سوريا، وسيطرة الفراغ الدستوري الكبير على البلاد (2014-2016)، وأخيرًا الاتفاق النووي الإيراني (2015) الذي جعل طهران وحلفاءها في موقع قوي إقليميًّا.

في المقابل، كانت إسرائيل قد بدأت الإنتاج من حقلي “نوا” (2012) و”تمار” (2013)، وكانت ترغب في المزيد بعد أن تعطّل إمداد الغاز المصري بسبب الثورة المصرية. وفيما يتعلق بعلاقاتها مع لبنان، فقد أملت أن يكون الملف بمثابة مدخل لتحسين وضعها في شرق البحر المتوسط، ولفتح قناة اتصال مع لبنان بعد أن رمى حزب الله بثقله في الداخل السوري.

وشهدت الفترة الممتدة بين عامي 2017 و2018 تصعيدًا كلاميًّا بين الجانبين اللبناني (ممثلا بحزب الله) والإسرائيلي، وارتفعت مع هذا التصعيد الكلامي احتمالية اندلاع حرب على خلفية النزاع على التداخل الحاصل في المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما. لكن هذا التصعيد كان بمثابة انعكاس أيضا للضغط الإسرائيلي-الأميركي على إيران في سوريا والعراق، وفي الملف النووي. ومن اللافت في هذه النقطة بالتحديد أنّ حزب الله الذي دأب مؤخرًا على التركيز على ملف النزاع البحري اللبناني-الإسرائيلي، تجاهل تماما اعتراض نظام الأسد على المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية واتهاماته للحكومة اللبنانية بقضم منطقة بحرية تابعة له على حدّ زعم الأسد.

وشكّلت الفترة الممتدة بين عامي 2019 و2020، نقطة تحوّل في ملف النزاع البحري بين لبنان وإسرائيل:

بالنسبة إلى إسرائيل: عزّزت تل أبيب من موقعها شرق البحر المتوسط مع تحوّلها من مستورد للغاز إلى مصدّر له. ترافق ذلك مع انضمامها إلى منتدى غاز شرق البحر المتوسط في يناير/كانون الثاني 2019، وتوقيع اتفاقية لتصدير الغاز إلى مصر في ديسمبر/كانون الأول 2019، واتفاقية أخرى مع قبرص واليونان في يناير/كانون الثاني 2020 لإنشاء أنبوب “إيست ميد”(16) لنقل الغاز من إسرائيل إلى أوروبا مرورًا بهما.
على الصعيد الإقليمي: وقّعت تركيا اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا(17) في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، تلتها اتفاقية أخرى بين اليونان ومصر في أغسطس/آب 2020، وتصاعد النزاع بين تركيا واليونان حول هذه الحدود مصحوبا بإعادة رسم للتحالفات الإقليمية(18)، حيث وقفت الإمارات وفرنسا مع اليونان وقبرص ومصر وإسرائيل ضد الجانب التركي في محاولة لعزله ومنعه من استثمار “ثرواته”.
وبموازاة ذلك، زادت الولايات المتحدة من ضغطها على إيران سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وحرمتها من الموارد اللازمة لتمويل “أذرعها الإقليمية”، الأمر الذي أثّر سلبا على حزب الله وحلفائه في لبنان. وقبيل إعلان التوصل إلى اتفاق على آليات التفاوض بين لبنان وإسرائيل، طبّعت عدّة دول عربية علاقاتها مع إسرائيل، وهو ما أوحى بأنّ ملف التطبيع قد يرتبط -بشكل أو بآخر- بالمفاوضات الجارية، خاصة أنّ الرئيس عون لم يكن قد أقفل الباب تماما أمام مثل هذا الاحتمال إذا تمّ حل المشاكل مع لبنان(19).

بالنسبة إلى لبنان: شهد الوضع اللبناني تراجعا مهولا في هذه الفترة، إذ اندلعت انتفاضة شعبية ضد السلطة الحاكمة بكل تشعّباتها (17 أكتوبر/تشرين الأول 2019)، تبعها انهيار اقتصادي غير مسبوق، مع ارتفاع حجم الدين إلى 92 مليار دولار وانهيار سعر صرف العملة المحليّة وتخلّف لبنان عن سداد ديونه، وفراغ في الحكومة، وانفجار هائل في أغسطس/آب 2020 أدى إلى تدمير ميناء بيروت وجزء كبير من الواجهة البحرية ومقتل 200 مواطن وجرح وتشريد الآلاف.
ومثل تركيا، لم يُدعَ لبنان إلى منتدى غاز شرق المتوسط عند إنشائه فبدت بيروت معزولة. وعلاوةً على ذلك، شهدت هذه المرحلة ازدياد الضغط الأميركي على حزب الله وحلفائه من خلال العقوبات وفشل المبادرة الفرنسية لمساعدة لبنان، وهو ما أوحى بأنّ البلاد ذاهبة إلى انهيار شامل على مختلف المستويات، مما جعل الحاجة للتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل حول النزاع القائم على حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، وتسريع الذهاب باتجاه التنقيب عن الغاز أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.

جولات التفاوض
عُقدت في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2020 ثلاث جولات من المفاوضات بين لبنان وإسرائيل في موقع تابع للأمم المتحدة في الناقورة اللبنانية، وذلك بحضور الوسيط الأميركي. انطلقت الجولة الأولى يوم 14 أكتوبر/تشرين الأول، والثانية على مرحلتين يومي 28 و29 من الشهر نفسه، والثالثة يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني. وكان المفترض أن تجرى جولة رابعة يوم 2 ديسمبر/كانون الأول، لكن تمّ إرجاؤها إلى أجل غير مسمّى. اقتصرت الجولة الأولى على عرض وجهة نظر الفريقين، وشهدت الثانية رفع الجانب اللبناني لسقف مطالبه (انظر الخريطة رقم3)(20)، فسارعت إسرائيل إلى تقديم ادعاءات إضافية داخل المياه اللبنانية.

الخريطة رقم (3): خريطة توضح مطالب الوفد اللبناني المفاوض خلال الجولة الثانية من المفاوضات، ووسّع بموجبها مساحة النزاع إلى 1430 كلم2 إضافية. المصدر: ديلي ستار.الخريطة رقم (3): خريطة توضح مطالب الوفد اللبناني المفاوض خلال الجولة الثانية من المفاوضات،

ووسّع بموجبها مساحة النزاع إلى 1430 كلم2 إضافية.المصدر: ديلي ستار.
ومع نهاية الجولة الثالثة، بدا أنّ الفجوة بين الطرفين كبيرة وتتّسع، لا سيما وأنّ النزاع لم يعد مقتصرًا على المساحة الأصليّة التي تقدّر بحوالي 860 كلم2 وتغطي جزءًا من البلوكات 10 و9 و8)، وإنما على مساحة إضافية أكبر(21) بواقع 1430 كلم2 تشمل جزءًا من البلوك (72) وحقل “كاريش”(22) داخل المنطقة الإسرائيلية والذي تعمل فيه شركة “إنرجيان” اليونانية(23)، وهو ما يرفع إجمالي المساحة المتنازع عليها إلى 2290 كلم2.

يعود تعدّد الإحداثيات الخاصة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية على الأرجح إلى عنصرين أساسيين:

1- عوامل جغرافية وتقنية وتاريخية(24)، وكلّها تؤثّر على تحديد خط الأساس والإحداثيات وحجم المنطقة الاقتصادية الخالصة، سواءً باتجاه الحدود مع سوريا شمالا، أو باتجاه الحدود مع إسرائيل جنوبا.

2- غياب المفاوضات المتعددة الأطراف يدفع كل طرف إلى ترسيم حدود منطقته الاقتصادية الخالصة بنفسه، وإلى الدفع باتجاه حدود الطرف الآخر.

استناداً إلى تصريحات وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس، فإن تغيير لبنان لموقفه “لا يتعارض مع مواقفه السابقة فحسب، بل يتعارض أيضا مع موقف لبنان على الحدود البحرية مع سوريا التي تأخذ في الاعتبار الجزر اللبنانية القريبة من الحدود”(25). ولعل الجانب الإسرائيلي أراد بهذا التصريح أن يشير إلى نقطة خلافية أخرى مع لبنان تتعلق بجزيرة “تخيلت”، وهي عبارة عن صخرة صغيرة جدًّا تبعد عن الناقورة حوالي 108 كلم، وعن الشاطئ قرابة كيلومتر واحد، يرى الجانب الإسرائيلي أنّها تخوّله توسيع حدوده البحرية، في حين يرى الجانب اللبناني خلاف ذلك الآن، وكان قد تجاهلها سابقا أثناء ترسيم الحدود البحرية بشكل منفرد(26).

ويمكن القول بأنّ عاملين أساسيين عرقلا التقدّم في هذه المفاوضات:

الأول- عدم وجود رغبة لدى إسرائيل في التراجع دون مقابل، إذ بدا أنّ الجانب الإسرائيلي يريد جر الجانب اللبناني إلى تفاوض مباشر، على أن يكون أي اتفاق بينهما جزءًا من سلام شامل.

الثاني- تصعيد لبنان في سقف مطالبه بشكل حاد.

ويمكن أن نعزو الموقف اللبناني وتأجيل التفاوض إلى عدد من الاحتمالات، لعل أهمّها:

أ- الرغبة في تعويض حالة عدم التوازن بين الطرفين (لبنان بحاجة ماسة إلى الاتفاق، كما أنّ وضعه الداخلي والإقليمي والدولي ضعيف).

ب- محاولة استغلال حاجة إدارة ترامب إلى إنجاز قبيل الانتخابات الأميركية (الجولة الثانية عقدت قبل موعد الانتخابات).

ج- الحرص على بقاء بيروت رابحة إذا ما توجّب على الطرفين تقديم تنازلات متبادلة للتوصل إلى حل نهائي.

د- عدم رغبة إيران في استمرار التفاوض مع خسارة ترامب الانتخابات (الجولة الثالثة عقدت بعد الانتخابات).

خيارات حل النزاع
عادة ما تُحلّ النزاعات من هذا النوع بالاستناد إلى عدّة آلياتٍ لكل منها ظروفها وشروطها ومتطلباتها. تنص المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه يجب على أطراف النزاع الذي من شأن استمراره أن يعرّض حفظ السلم والأمن الدوليين للخطر؛ أن يلتمسوا طُرقا للحل، مُشيرة إلى عدّة طرق لعلّ أبرزها التحكيم والمفاوضات والوساطة(27).

1- التحكيم: يمكن لهذا النوع من الخلافات أن يُحال إلى التحكيم الدولي متمثلا في محكمة العدل الدولية أو المحكمة الدولية لقانون البحار المناط بها حل النزاعات المتعلقة بقانون البحار. ويعتقد البعض(28) أنه كان يجب على لبنان الذهاب في هذا الاتجاه منذ البداية، وذلك على اعتبار أنّ فرصه في الحصول على حلٍّ يضمن حقوقه كاملة استنادًا إلى هذا الخيار؛ أعلى بكثير من الفرص المتأتية من اعتماده على خيارات أخرى. لكن هذا الطرح غير صحيح، وتكتنفه عدّة مشاكل، لعل أبرزها:

أ- عادة ما يتم اللجوء إلى هذا الخيار بعد فشل كل المساعي لحل النزاع بالطرق المتعارف عليها، وبهذا المعنى فهو الخيار الأخير وليس الأوّل في قائمة الوسائل المفضّلة لحل النزاع.

ب- إسرائيل ليست عضوًا في اتفاقية قانون البحار، وبالتالي لا يمكن إجبارها على الخضوع إلى محكمة ناجمة عن هذه الاتفاقية ما لم ترتضِ ذلك بنفسها.

ج- رفع الملف إلى محكمة العدل الدولية كخيار بديل يتطلّب موافقة الطرفين، على اعتبار أنّ نتائج التحكيم ملزمة للطرفين بعد أن يكونا قد ارتضيا إحالة ملف الخلاف بينهما إلى المحكمة وقبول ولايتها. ولذلك، لا يمكن للمحكمة أن تجعل النتيجة إلزامية في جميع الأحوال ما لم يقبل الطرفان بذلك.

د- التحكيم يتطلّب وقتا طويلا، ونتائجه غير مضمونة بالشكل الذي قد يتوقعه البعض لناحية الحصّة التي يفضل لبنان الحصول عليها. وبخلاف إسرائيل، فإنّ لبنان لا يمتلك رفاهية الوقت بالنظر إلى وضعه الاقتصادي السيّئ.

2- المفاوضات: لا يعترف لبنان بدولة إسرائيل، كما أنّه معها في حالة تتراوح دوما بين الحرب والهدنة، وهو ما يمنع عمليًّا أيّ تفاوض مباشر بين الجانبين، ولذلك لا يبدو هذا الخيار محبّذًا أو متاحًا على الأقل من الجانب اللبناني. وإذا تطلّبت الظروف عكس ذلك، فغالبا ما كان لبنان يفضّل الاعتماد على طرف ثالث هو الأمم المتحدة. لكن في هذه الحالة، قد تحتاج المنظمة الدولية إلى تفويض أو ولاية خاصة، وهو أمر غير متوفر لأنه يقتضي موافقة الطرفين ومجلس الأمن.

3- الوساطة: ينطوي خيار الوساطة على قبول طرفي النزاع طلب المساعدة من طرف ثالث، أو على قبول عرض من طرف ثالث بالتدخل للمساعدة على التمهيد لمفاوضات بينهما، أو حتى المساعدة على إيجاد تسوية للنزاع. دور الوسيط يتضمن عددًا كبيرًا من الخيارات التي تعتمد في نهاية المطاف على رغبة طرفي النزاع في تحديدها، لكن من الشروط الأساسية في مثل هذا الخيار أن يكون الوسيط نزيهًا غير منحاز، لأنّه إذا لم يكن كذلك فهذا معناه تفريغ هذا الخيار من مضمونه.

خاتمة
نظرًا للمعطيات أعلاه، يعتبر خيار الوساطة والتفاوض غير المباشر هو الخيار الوحيد المتاح للطرفين، لكن الأمر يقتضي النظر في قواعد الإنصاف والعدالة. وإذا ما قرّرت إسرائيل التخلي عن هذا الخيار لحرمان لبنان من الاستفادة من المناطق المتنازع عليها انطلاقًا من حسابات تقول إنه سيكون بإمكان تل أبيب -في جميع الأحوال- متابعة استخراج الغاز بحكم الأمر الواقع وميزان القوى، فقد يدفع ذلك بيروت إلى خيار تعتبر فيه أن الطريقة الوحيدة لإجبار إسرائيل على التفاوض هي محاولة عرقلة عملها؛ من خلال تهديد حقول الغاز لديها والتي يصعب تحصينها وحمايتها على مدار الساعة. غير أن ذلك سيزيد بالتأكيد من حالة التصعيد، وهو أمر غير مفضّل لدى الطرفين في هذه المرحلة، مما يعيدنا إلى النقطة السابقة باعتبارها الخيار الوحيد المتاح حاليًّا.

علي حسين باكير

مركز الجزيرة للدراسات