كان لافتاً أن تركيا من أوائل الدول التي رحبت بالمصالحة الخليجية، إذ فور إعلان وزير خارجية الكويت، أحمد ناصر الصباح، التوصل إلى اتفاق بين السعودية وقطر يقضي بفتح الأجواء والحدود البرية والبحرية بينهما، سارعت وزارة الخارجية التركية إلى إصدار بيان، اعتبرت فيه أن هذا التطور يمثل خطوة هامة لحلّ الأزمة الخليجية المتواصلة منذ يونيو/ حزيران 2017، وثمّنت “جهود القوى الدولية التي ساهمت عبر وساطتها في التوصل إلى هذا القرار، وفي مقدمتها دولة الكويت”. وبعد التوقيع على اتفاق المصالحة، أعربت الخارجية عن تمنياتها في أن يسهم “بيان العلا” في التوصل إلى حلّ نهائي للأزمة، وأن تركيا “مع إعادة تأسيس الثقة بين الدول الخليجية، ومستعدّة لبذل الجهود من أجل الارتقاء بتعاونها المؤسسي مع مجلس التعاون الخليجي” الذي تعتبر تركيا نفسها شريكاً استراتيجياً له. أما الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، فقد حيّا المصالحة الخليجية وباركها، معتبراً أنها تمثل “خطوة إيجابية ستعود بالخير على المنطقة، وأن “مكانة تركيا مهمة في العلاقات التركية الخليجية، وأيضا عودة تركيا إلى مكانتها ستكون قريبةً في الفترة المقبلة، من أجل التعاون التركي الخليجي المشترك”.
تأتي المصالحة الخليجية في وقتٍ تستمر فيه مساع نحو تطبيع العلاقات التركية مع كل من السعودية والبحرين ومصر
وتأتي المصالحة الخليجية في وقتٍ تستمر فيه مساع نحو تطبيع العلاقات التركية مع كل من السعودية والبحرين ومصر، الأمر يسهم في تعزيزها، وربما تمتد هذه المساعي نحو العلاقات التركية مع الإمارات، خصوصا بعد تعيين سفير تركي جديد في أبو ظبي، تعبيراً عن رغبة أنقرة في تحسين العلاقات معها، ثم جاء تصريح لوزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، قلّل من شأن الخلافات بين بلاده وتركيا، وتذكيره بأن “الإمارات هي الشريك التجاري الأول لتركيا في الشرق الأوسط”، واعتباره أن الإمارات غير سعيدة بالخلاف مع تركيا، ولا تسعى إلى تأجيجه.
وغير بعيد عن أجواء المصالحة التركية السعودية، جاءت زيارة رئيس الوزراء اللبناني المكلف، سعد الحريري، إلى تركيا بعد انقطاع دام سنوات، حيث تطرح أسئلة كثيرة حول أسباب هذه الزيارة وخلفياتها، كونها تأتي على وقع المصالحة الخليجية وانعكاساتها على تركيا. إضافة إلى أن الآونة الأخيرة شهدت رسائل تقارب متبادلة بين كل من أنقرة والرياض، وذلك بعد الاتصال بين الرئيس أردوغان والملك سلمان بن عبد العزيز، عشية انعقاد قمة العشرين برئاسة الرياض (بالفيديو كونفرنس)، و”اتفقا على إبقاء سبل الحوار مفتوحة بهدف تحسين العلاقات الثنائية وتسوية المشاكل”، ثم عبّرت المملكة عن بالغ حزنها وأسفها لمقتل وإصابة مئات من الأتراك، نتيجة زلزال أصاب مدينة إزمير التركية أخيرا، وأمر الملك سلمان بإرسال مساعدات إنسانية عاجلة إلى تركيا لصالح المتضرّرين.
وتوالت الاتصالات بين مسؤولين في كلا البلدين، وأطلقوا إثرها تصريحات تشي ببذلهم جهوداً حقيقية للتقارب بينهما، وسادت فيها لغة تصالحية، حيث اعتبر وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، أن لدى بلاده “علاقات طيبة ورائعة مع تركيا”، وأنه “لا توجد بيانات تشير إلى وجود مقاطعة غير رسمية للمنتجات التركية”. في المقابل، اعتبر وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، أن “الشراكة القوية بين تركيا والمملكة العربية السعودية ليست لصالح البلدين فحسب؛ بل للمنطقة بأكملها”، كما أكدت وزيرة التجارة التركية، روهصار بيكجان، عدم وجود مقاطعة رسمية للبضائع التركية.
السياسات الدولية ليست ثابتة، بل متغيرة على الدوام بتغير الظروف والمستجدّات
وتأتي التطورات أخيرا في ظل متغيرات مهمة، على مختلف الصعد الدولية والإقليمية والداخلية، حيث بدأت دول عديدة في منطقة الشرق الأوسط إعادة النظر في سياساتها واصطفافاتها السياسية، عشية وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، إذ تخشى السعودية من أن تمارس عليها الإدارة الأميركية الجديدة ضغوطاً، تطاول مبيعات الأسلحة إليها وملف حقوق الإنسان في المملكة والحرب في اليمن، إضافة إلى تخوّفها من احتمالات اتباع الرئيس الأميركي المنتخب سياسات مقاربة لسياسات الرئيس الأسبق، باراك أوباما، حيال إيران؛ خصوصا في ظل وعده بالعودة إلى الاتفاق النووي معها.
أما تركيا فتعيش أخيرا على وقع متغيرات سياسية على صعد مختلفة، حيث بدأت الأوساط السياسية التركية الحاكمة تتحدّث عن تغييرات اقتصادية وسياسية وديمقراطية، وأخذ الخطاب السياسي التركي الرسمي يميل إلى انتهاج لغة ناعمة باتجاه التهدئة والحوار في ملفات إقليمية ودولية، برزت في دعوة الرئيس التركي، أردوغان، إلى فتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة وأوروبا، وإلى حل الخلافات مع اليونان وفرنسا، إلى جانب الاتصالات مع مصر والحلحلة في الملف الليبي، الأمر الذي يعكس بوادر توجّه جديد في السياسة التركية نحو تصفية المشكلات والخلافات مع دول الجوار والمنطقة والعالم، ويذُكّر بالسياسة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم التي اتبعها في بدايات وصوله إلى الحكم عام 2002، وكانت مبنية على تصفير المشكلات مع الجيران، ومع العالمين، العربي والإسلامي، ومع المحيط التركي بشكل عام.
احتمالات تحسن في العلاقات التركية السعودية تزداد بعد اتفاق المصالحة الخليجية، بما يفتح الآفاق أمام تطوّرها بين القوتين الإقليميتين
من الصعب التكهن بأن عودة العلاقات مع السعودية، ومع مصر ربما، وتليها الإمارات، ستكون من أجل بروز تحالفات جديدة في المنطقة، أو أن يرتقي الاصطفاف الجديد إلى مستوى تشكيل جبهة ضد إيران أو إسرائيل، فالعلاقات التركية مع إيران قوية، حيث تتعاون وتنسّق أنقرة مع طهران في ملفات عديدة، على الرغم من التنافس بينهما، كما أن العلاقات المميزة ما بين تركيا وقطر لن تتأثر بمتغيرات السياسة الخارجية التركية، بالنظر إلى جملة من العوامل والحيثيات.
والحاصل أن السياسات الدولية ليست ثابتة، بل متغيرة على الدوام بتغير الظروف والمستجدّات، على الرغم من أنها محكومة بالمصالح والحسابات الداخلية والخارجية، وبالتالي فإن احتمالات تحسن في العلاقات التركية السعودية تزداد بعد اتفاق المصالحة الخليجية، بما يفتح الآفاق أمام تطوّرها بين القوتين الإقليميتين، في ظل حيثيات ومتغيرات دولية وإقليمية عديدة، ووجود رغبة لدى ساسة البلدين في تدوير زوايا نقاط الاختلاف وتخفيف حدّة التوتر بينهما، لكن الأمور قد لا تشهد تغيراً سريعاً في علاقات الدولتين باتجاه التعاون والتنسيق المشترك في القضايا والملفات الخلافية، بالنظر إلى اختلاف الرؤى والتوجهات والسياسات. ومع ذلك، تفترض مصالح الدولتين والشعبين عودة العلاقات إلى محاريها الطبيعية بينهما، بما يعني التخفيف من المواقف الحادّة، والقيام بمبادرات سياسية وإعلامية تصالحية.
عمر كوش
العربي الجديد