فك شفرة رسالة إيران النووية الأخيرة

فك شفرة رسالة إيران النووية الأخيرة

ركّز فريق الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن على وضع قيود على جوانب فنية مختلفة من برنامج إيران النووي، لا سيما فيما يتعلق بعدد أجهزة الطرد المركزي الفائقة السرعة. ورداً على ذلك، أعلنت طهران أو هددت باتخاذ خطوات نووية جديدة في مسعى واضح لتحسين موقفها في المساومة، بدءاً باستئناف “التخصيب بنسبة 20٪” في منشأة “فوردو” وصولاً إلى طرد مفتشي الأمم المتحدة إذا لم يتم رفع العقوبات.

خلال إعرابه عن نيّته عكس انسحاب إدارة ترامب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2018، ركّز فريق بايدن الذي سيتولى السلطة قريباً على وضع قيود على جوانب فنية مختلفة من برنامج إيران النووي، لا سيما فيما يتعلق بعدد أجهزة الطرد المركزي الفائقة السرعة وأنواعها المستخدمة في فصل النظير الأساسي “يورانيوم-235” عن اليورانيوم الطبيعي. ورداً على ذلك، أعلنت طهران أو هددت باتخاذ خطوات نووية جديدة في مسعى واضح لتحسين موقفها في المساومة، بدءاً باستئناف “التخصيب بنسبة 20٪” في منشأة “فوردو” وصولاً إلى طرد مفتشي الأمم المتحدة إذا لم يتم رفع العقوبات.

غير أن هذه الخطوة قد تكون لعبة دبلوماسية خطيرة. وإذا شعر المسؤولون الإيرانيون بأنهم مرغمون على وصف البرنامج بأنه أعظم مما هو عليه فعلياً، فإنهم يخاطرون بالدعوة إلى التدخل الدولي، وربما إلى العمل العسكري. وبدلاً من ذلك، يمكن أن ينتهي المطاف بمزيد من التدقيق الأجنبي إلى الكشف عن قيود فنية رئيسية، مما قد يضرّ بقيمة البرنامج نسبةً إلى مساعي الردع التي يبذلها النظام خارج البلاد والشرعية السياسية في الداخل.

ولتجنب الكشف عن أوراقها قبل الأوان أو إخفاء كل شيء، غالباً ما تحرص إيران على أن يطغى الغموض على تصريحاتها النووية بحيث تستخدم عبارات يصعب فهمها من دون خلفية علمية. وبالتالي، من المهم مراجعة القضايا النووية الرئيسية قيد المناقشة حالياً من خلال إعادة صياغتها بلغة الأشخاص العاديين.

أجهزة الطرد المركزي

على غرار الغسالة التي يتمّ تحميلها من الأعلى خلال الدوران، فإن الهدف من جهاز الطرد المركزي هو فصل الشكل الغازي لليورانيوم إلى مادتين: النظير المهيمن “يورانيوم -238” والنظير الأكثر ندرةً بل الأهم “يورانيوم-235”. ويعتمد نجاح هذه الخطوة على كون الطرد المركزي متوازناً بصورة جيدة ومصنوعاً من مادة قوية جداً لا تضعف تحت ضغط التسريع إلى سرعات عالية.

وتتناسب كفاءة جهاز الطرد المركزي – قدرته على فصل “يورانيوم 235” – مع ارتفاعه وسرعة دورانه. فكلما كان الجهاز أطول وأسرع، كلما كان تراكم “يوارنيوم -235” أسرع وأفضل. وعند مستويات التخصيب المنخفضة، يمكن استخدام “يورانيوم-235” كوقود للمفاعلات، ولكن عند التخصيب العالي، يمكن أن يشكّل الصمام المتفجر لقنبلة ذرية.

وكانت إيران قد اكتسبت تكنولوجيا التخصيب من باكستان، التي طوّرت نموذجي أجهزة الطرد المركزي P1 و P2 من تصاميم أوروبية. وفي إيران، يُعرف النموذج P1 بأنه جهاز طرد مركزي من الجيل الأول (IR-1). وطوّرت إيران أيضاً نسخة معدّلة من نموذج P2، المعروف باسم جهاز الطرد المركزي المتطور من نوع “آي آر-2 إم” (IR-2m)، وكان يجب تحويله لأغراض غير نووية بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة». والآن، تدعي طهران أنها ستعيد استخدام “آي آر-2 إم” لأغراض نووية، ولكن يُعتقد أن القليل من هذه الآلات، إن وجدت، صالحة للعمل بسبب قلة الاستخدام، وقد تضررت المحطة المستخدمة لتجميعها بشدة بسبب انفجار في تموز/يوليو 2020. بالإضافة إلى ذلك، في حين أن “آي آر-2 إم” وما يرتبط به من “آي أر 4” و “آي آر 6” غالباً ما يطلق عليهم اسم “متقدم”، إلّا أن تقنيتهم ​​تعود إلى السبعينيات.

التخصيب

مقابل كل ألف ذرة من اليورانيوم الطبيعي، هناك سبع ذرات فقط من “يورانيوم-235″، لذلك يُقال إن اليورانيوم الطبيعي مخصّب بنسبة 0.7٪. وعندما يكون مستوى التخصيب (الذي يوصف أحياناً في وسائل الإعلام على أنه “تنقية”) 3.67٪ – الحد الأقصى المتفق عليه في «خطة العمل الشاملة المشتركة» – يكون معدل الذرات قد تغير من 993:7 إلى 183:7. ويوضح هذا التحوّل في النسب أنه على الرغم من القفزة الصغيرة على ما يبدو في النسب المئوية، فقد تم إنجاز معظم أعمال الفصل بمجرد الوصول إلى 3.67٪.

وحتى أن معدل التخصيب بنسبة 20٪ أقوى ويبلغ معدل الذرات فيه 28:7 – ومن هنا جاء القلق بشأن قرار إيران الأخير بالتخصيب عند هذا المستوى. ونظرياً، يمكن استخدام اليورانيوم المخصب بنسبة 20٪ لإحداث انفجار نووي، على الرغم من أن 90٪ (1: 7) هو شرط التصميم المعتاد لسلاح نووي.

الآلات التعاقبية

يتمثل عامل رئيسي آخر بالنسبة لتخصيب اليورانيوم في توصيل الأنابيب التي تسمح لغاز سداسي فلوريد اليوارنيوم (“UF6”) بالمرور عبر أجهزة الطرد المركزي مراراً وتكراراً، حيث يتمّ في كل مرة تسييل ذرات “يورانيوم-238”. ومن خلال تعديل تصميم تم الحصول عليه من باكستان، تجري عملية التخصيب الإيرانية على مرحلتين: من 0.7٪ إلى 3.5٪، ومن ثم 3.5٪ إلى 20٪. وإذا ما رغبت إيران في الحصول على مواد مستخدمة في صنع قنبلة ذرية، ستحتاج إلى مرحلتين إضافيتين: 20٪ إلى 60٪ ومن 60٪ إلى 90٪. ونظرياً، سيتطلب تحقيق هذا الهدف 38 آلة تعاقبية تضم ما مجموعه 5832 جهاز طرد مركزي – وهو نفس العدد تقريباً الذي حُدد لإيران بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة». غير أنه من الناحية العملية، لا يمكن استخدام أجهزة الطرد المركزي من الجيل الأول (IR-1) لإنجاز توصيل الآلة التعاقبية هذه بسبب مشاكل استقرار سداسي فلوريد اليوارنيوم التي تمنعها من التخصيب إلى أعلى المستويات.

وعادة ما يكون التخصيب عملية بطيئة. فقد حصل البرنامج النووي الباكستاني على بداية قوية في عام 1981 عندما أهدته الصين يورانيوم عالي التخصيب بقيمة 93٪ ما يكفي لصنع قنبلتين وخطط لتصميم الأسلحة النووية. وبحلول أواخر التسعينيات، كان معملا التخصيب الباكستانيان المتواجدان في كاهوتا – كل منهما مجهزاً بـ 5500 جهاز طرد مركزي من النوع P2 – ينتج ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لجهاز نووي واحد كل شهرين.

زمن تجاوز العتبة النووية

يصف هذا المصطلح مقدار الوقت اللازم للحصول على ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع قنبلة نووية. ورغم أن إيران بدأت بشراء أجهزة الطرد المركزي في تسعينيات القرن الماضي، إلا أن الجدل مستمر حول ما إذا أنجزت على الإطلاق العمل على تصميم سلاح نووي، حيث اقترح البعض أنها لا تزال على بعد عامين على الأقل من تطوير مثل هذه الخبرة أو جهاز اختبار. ولأغراض المقارنة، أجرت باكستان “اختباراً بارداً” ناجحاً (أي باستخدام مواد غير نووية) لأول سلاح مصنوع من قبلها في تشرين الأول/أكتوبر 1984، بعد ثلاث سنوات من تلقيها خطط التصميم من الصين.

تجدر الملاحظة أن احتساب الوقت الضروري لمراكمة نسبة 90٪ من اليورانيوم العالي التخصيب اللازم لصنع سلاح واحد (المعروف باسم “كمية كبيرة”) سهل نسبياً حين تكون المعلومات بشأن كفاءة أجهزة الطرد المركزي الخاصة بالبرنامج متوافرة. وتُقاس إنتاجية الجهاز من خلال “وحدات فصل” (“إس دبليو يو”) أو كمية “يورانيوم-235” التي يمكن لجهاز طرد مركزي واحد إنتاجها في عام واحد وتُقاس بالكيلوغرامات.

ووفقاً للعالم النووي الباكستاني عبد القدير خان، فإن النوع P1 أو الجيل الأول “آي أر 1” قادر على بلوغ 3 “وحدات فصل” – على الرغم من أنه كما ذُكر سابقاً، لا يمكن استخدام “آي أر 1” لمستويات أعلى من التخصيب. وادعى خان أيضاً أن نوع P2 يمكن أن يبلغ نحو 8 وحدات. ومن أجل إنتاج “كتلة حرجة” من “يورانيوم-235” – أي الكمية المطلوبة لصنع سلاح واحد، حوالي 15 كغم – يجب أن يتمكن البرنامج من إنتاج 3500 “وحدة فصل”، أو حوالي أربعة أشهر من الدوران في مصنع للطرد المركزي باستخدام ما لا يقل عن 5000 آلة قادرة على التخصيب العالي. ويمكن تقليل هذا الوقت إذا تم استخدام مادة منخفضة التخصيب كمادة وسيطة.

دور “الوكالة الدولية للطاقة الذرية”

كما هو الحال مع الدول الأعضاء الأخرى، يقوم مفتشون من “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” بمراقبة إيران للتأكد من التزامها بالموجبات المنصوص عليها في “معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية” وكذلك في «خطة العمل الشاملة المشتركة» في حالة طهران. ويقومون بذلك من خلال تثبيت كاميرات والقيام بزيارات شخصية لمنشآت معروفة. وإذا أرادت إيران وقف هذه الزيارات أو تقييدها لفترة طويلة من الوقت، فستؤجج أزمة مع الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل وحلفاء واشنطن العرب. وفي 11 كانون الثاني/يناير، صرح المدير العام لـ “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” رافائيل غروسي بصورة غامضة أنه لم يتبق سوى أسابيع لإحياء الدبلوماسية مع إيران. وبعد يومين، كشفت “الوكالة” أن إيران كانت تطور القدرة على إنتاج معدن اليورانيوم، وهي مهارة ضرورية لمجموعة متنوعة من الأغراض، بما في ذلك بناء نواة قنبلة نووية.

وحتى من دون “الوكالة الدولية للطاقة الذرية”، لن تكون واشنطن بالضرورة ملزمة بما يحصل. ويكاد يكون من المؤكد أن المراقبة الاستخباراتية لبرنامج إيران النووي وعملية صنع القرار فيها شبه شاملين. وعلى الرغم من وضع محطات الطرد المركزي في منشآت جيدة الدفاع في “ناتانز” (“نطنز”) وداخل جبل “فوردو”، إلّا أن البرنامج النووي لا يزال عرضة لهجمات عسكرية.

ومن المؤكد أن إيران قد أنشأت مصانع تخصيب أخرى، ربما تكون مخفية على مرأى من الجميع. وفي الثمانينيات، بنت باكستان منشأة بسعة 2000 جهاز طرد مركزي في مستودع غير معروف يقع في مصنع ذخيرة كبير خارج إسلام أباد، بالإضافة إلى منشأة أصغر حجماً في نفق في التلال المحيطة بكاهوتا. (باكستان ليست من الدول الموقعة على “معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية”، لذلك لم يتم التفتيش على مرافق التخصيب الخاصة بها).

وبغض النظر عن الوضع الحالي للمنشآت الإيرانية، فمن المرجح أن تكون القضية النووية الاختبار الأول للسياسة الخارجية لإدارة بايدن. وفي نهاية المطاف، قإن الولايات المتحدة في وضع أقوى، لكن إيران قد تتمكن مع ذلك من ممارسة هذه اللعبة بشكل جيد رغم موقفها الضعيف.

سايمون هندرسون

معهد واشنطن