إرث ترامب.. أمريكا أشد انقساما وعالم أكثر اضطرابا

إرث ترامب.. أمريكا أشد انقساما وعالم أكثر اضطرابا

عندما ألقى الرئيس دونالد ترامب خطاب التنصيب في 20 يناير/ كانون الثاني عام 2017 تعهد بوقف “المذبحة الأمريكية”، مؤكدا أنه الوحيد القادر على إصلاح أمة معطلة تواجه واقعا كئيبا.

ومع اختتام رئاسته بعد أربع سنوات بالضبط، يخلّف ترامب وراءه بلدا أكثر انقساما يموت فيه الآلاف يوميا بوباء كوفيد-19 فضلا عن اقتصاد تضرر بشدة وعنف سياسي متصاعد.

لم يخلق ترامب الفروق الشاسعة التي باتت تصبغ الحياة الأمريكية، إلا أنه استغل الكثير منها وجعلها أدوات لبناء قاعدة قوته متعهدا برفع مستوى أهل الريف والطبقة العاملة الأوسع التي قال إنها تعرضت للإهمال من جانب مؤسسة الدولة في واشنطن.

وعندما سار آلاف من أنصاره الغاضبين، وهم في غالبيتهم العظمى من البيض، صوب مبنى الكونغرس (الكابيتول) في السادس من يناير/ كانون الثاني كانوا مدفوعين بمزاعم كاذبة رددها ترامب عن سلب الانتخابات. وتسببت أحداث الشغب التي أعقبت اقتحام الكونغرس في مقتل ضابط شرطة وأربعة أشخاص غيره وإصابة عشرات آخرين، وأحدثت هزة عنيفة في وجدان الشعب الأمريكي.

وعندما يغادر ترامب البيت الأبيض غدا الأربعاء، فإن جزءا رئيسيا من إرثه سيكون على الأرجح شعبا أكثر تباعدا عن بعضه بعضا، سياسيا وثقافيا، عما كان عليه عندما تولى السلطة.

ويقول خصوم ترامب إن العرق يمثل المحور الرئيسي لهذا الانقسام. ففي أوائل فترته الرئاسية، قاوم في بادئ الأمر التنديد بالقوميين البيض بعد تجمع للبيض أعقبته اشتباكات دامية في تشارلوتسفيل بولاية فرجينيا عام 2017، مما أذكى تكهنات بأنه يتعاطف مع قضيتهم. وغالبا ما كان خطابه الشعبوي المفعم بالعبارات الرنانة يؤدي إلى تفاقم الأزمات العرقية التي نجمت عن مقتل مواطنين سود على أيدي الشرطة.

وقال القس وليام باربر وهو ناشط بارز في الحقوق المدنية: “للأسف هو نتاج طبيعي لتاريخ الانقسام والغزو في العلاقات العرقية الأمريكية… كل ما في الأمر أنه يدفع هذا النهج إلى منتهاه”.

وباربر هو الرئيس المشارك لحملة (الفقراء)، وهي حركة مناهضة للفقر والعنصرية ساعد مارتن لوثر كينغ في تنظيمها في ستينيات القرن الماضي.

ونفى ترامب مرارا أي نوازع عنصرية.

ويجادل أنصار ترامب بأنه جاء ليصحح ما فعلته الإدارات السابقة من الحزبين والتي أهملت الفقراء والطبقة العاملة والمناطق الريفية التي عانت كثيرا طوال العقود الماضية. وقاعدة التأييد هذه ما زالت واسعة، وهو إرث آخر على الأرجح من حقبة ترامب.

قال أليكس بروسويتس، وهو ناشط محافظ مرتبط بحركة (أوقفوا السرقة) المؤيدة لترامب والتي تحتج على نتائج الانتخابات، إن الرئيس يحتفظ بمكانته عند الناخبين من الطبقة العاملة. وأضاف: “كانوا يشعرون أنهم الرجال والنساء المنسيون. وقد قال الرئيس: لن تعودوا منسيين”.

كما أن رفض ترامب الإقرار بالهزيمة والاعتراف بفوز منافسه الديمقراطي جو بايدن وتشجيع أنصاره على التوجه إلى مبنى الكابيتول، يعني أن فترته الرئاسية تنتهي وسط دوامة من الأكاذيب استقرت في وجدان ملايين الجمهوريين على نحو يشكل تحديا خطيرا أمام الإدارة الجديدة لكسب ثقتهم.

ويأتي الانتقال غير المنظم للسلطة الرئاسية على خلفية انتشار متزايد لجائحة هوّن ترامب من شأنها فضلا عن مصاعب مالية متزايدة أدت إلى كساد عميق.

ولا شك أن إبقاء البلاد في حالة تأهب، وما يستتبعه ذلك من عمليات إغلاق أمنية في واشنطن وعواصم الولايات الأمريكية، يثير القلق من أن يشجع حصار الغوغاء من أنصار ترامب للكابيتول في السادس من يناير/ كانون الثاني المتطرفين اليمينيين على ارتكاب المزيد من أعمال العنف.

قال آرون ديفيد ميلر، وهو مستشار سابق بوزارة الخارجية خدم مع إدارات ديمقراطية وجمهورية ويعمل الآن مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن “لم يشهد التاريخ الحديث رئاسة (كهذه) تجلى فيها اختلال أمريكا بهذا الشكل”.

ورفض المتحدث باسم البيت الأبيض جود دير فكرة أن إرث ترامب إرث مهترئ.

وفي بيان مكتوب، قدّم دير قائمة لما وصفه بإنجازات ترامب الاقتصادية مثل وضع البلاد على طريق الانتعاش إضافة إلى إجراءات مثل تخفيف القيود على انبعاثات السيارات والتنقيب عن النفط. كما جادل بأن الرئيس قام بتأمين الحدود مع المكسيك، وأعاد بناء قوة الجيش، وأرجع بعض القوات إلى أرض الوطن وساعد في تنسيق الجهود لتطوير لقاح لكورونا في غضون بضعة أشهر.

وقال: “يترك السلطة وقد جعل أمريكا أقوى وأكثر أمنا وأمانا”.

لكنه أحجم في البيان عن الرد على الاتهامات بالعنصرية الموجهة لترامب.

“أمريكا أولا”

لقد أعطى ترامب في الواقع عددا من الأولويات لحزبه الجمهوري.

وبالتعاون مع زعيم الأغلبية الجمهورية بمجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، أجرى ترامب تغييرات على القضاء الأمريكي ليضفي عليه صبغة محافظة أكثر بتعيين ثلاثة من قضاة المحكمة العليا، والتعجيل بتعيين أكثر من 200 من القضاة الاتحاديين.

كما اتخذ قرارات بإعفاءات ضريبة واسعة للشركات. وتوسع الاقتصاد بوتيرة أسرع مما حدث في عهد سلفه باراك أوباما وهبطت معدلات البطالة لنسب قياسية.

لكن الاقتصاد الذي كان ترامب يأمل بأن يصبح أقوى بوق دعاية له في حملة إعادة انتخابه تهاوى تحت وطأة سلسلة من إجراءات العزل العام وعمليات الإغلاق لكبح جائحة كورونا التي ألقت بالبلاد في أتون أسوأ انكماش في نحو 100 عام، مع ارتفاع قياسي في معدلات فقدان الوظائف. كما أن الدين العام الذي تضخم في عهده زاد أكثر في عامه الأخير في الرئاسة.

كان ترامب يخطب ودّ قاعدته الشعبية بشن حملة على الهجرة غير الشرعية، لكن المنتقدين نددوا بنهجه ووصفوه بأنه بالغ القسوة. ويعتزم بايدن إلغاء الكثير من الإجراءات التي اتخذها ترامب في هذا الشأن مثل حظر السفر المفروض على عدة بلدان ذات أغلبية مسلمة.

وكانت إقامة جدار على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك تعهدا أساسيا في حملته الانتخابية عام 2016. وتم بناء أقل من نصف الجدار الذي تعهد به والذي يبلغ طوله ألف ميل، معظمها في أماكن كانت بها حواجز قائمة بالفعل. كما أن المكسيك لم تدفع ثمن الجدار مثلما وعد.

وفي الخارج، قام ترامب بتفعيل أجندته التي تحمل شعار (أمريكا أولا). وقام بإلغاء أو تعطيل اتفاقات متعددة الأطراف، فانسحب من اتفاقية باريس للمناخ التي تلزم كل دولة تقريبا بخفض انبعاثات الغازات المسببة لارتفاع حرارة الأرض، ومن الاتفاق النووي مع إيران الذي خفف العقوبات المفروضة عليها مقابل فرض قيود على برنامجها النووي. كما قوضت إدارته تحالفات راسخة مثل منظمة حلف شمال الأطلسي واستعدَت شركاء تقليديين واسترضت حكاما شموليين مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون.

لكن ترامب حظي بإشادة الجمهوريين وكثير من الديمقراطيين لاتخاذه موقفا أشد صرامة إزاء الصين، فقد فرض تعريفات جمركية بمليارات الدولارات على وارداتها وعقوبات على مسؤولين كبار بسبب حملة قمع في هونغ كونغ وعقوبات على شركات اتصالات صينية. لكن إدارته واجهت انتقادات بسبب إشعال فتيل حرب تجارية مع بكين وانتهاج خطاب حماسي يعج بلغة طنانة تعود لزمن الحرب الباردة.

كما لقي ترامب إشادة لتوسطه في اتفاقات تاريخية لتطبيع العلاقات بين إسرائيل وأربع دول عربية كانت يوما من أعدائها. وخفض القوات الأمريكية في مناطق الصراع مثل أفغانستان والعراق وسوريا على الرغم من أنه أخفق في الانسحاب تماما من “حروب بلا نهاية” مثلما وعد في حملته الانتخابية عام 2016. وكتب ريتشارد هاس، المسؤول الكبير السابق بوزارة الخارجية والذي يرأس مجلس العلاقات الخارجية، على الموقع الالكتروني للمجلس: “لقد أنجز ترامب بعض الأمور المفيدة”. وأضاف أنه يُحسب له “تحريك السياسة الأمريكية في اتجاه أكثر رصانة وحسما إزاء دولة صينية تزداد قمعا وقوة وسعيا للهيمنة”.

لكنه أضاف أن الأمور الصائبة التي فعلها ترامب “تضاءلت أمام الأخطاء التي ارتكبها” وأهمها “الضرر الذي ألحقه بالديمقراطية الأمريكية”.

أنصار مهمشون

يقول محللون إن قوة ترامب السياسية تنبع في جانب منها من قدرته على تصوير نفسه على أنه بطل شعبي، مستغلا سخطا يعتمل على مدى سنوات في نفوس الريفيين البيض وأبناء الطبقة العاملة بعد أن أصبحت الولايات المتحدة مجتمعا أكثر تعددية عرقية واستشعرت مناطقهم ألم العولمة.

كما انضوى تحت راية ترامب بعض جماعات اليمين المتطرف. وكان من بين مثيري الشغب الذين تجمعوا عند مبنى الكابيتول عناصر أكثر تطرفا في قاعدته الشعبية مثل أعضاء حركة (كيو آنون) التي تعتنق نظرية مؤامرة تزعم أن ترامب يحارب زمرة من الديمقراطيين من عبدة الشيطان المتحرشين بالأطفال وآكلي لحوم البشر.

قال دوغلاس برينكلي المؤرخ الرئاسي بجامعة رايس في هيوستن: “لقد بنى ترامب تحالفا يضم عددا من أصحاب نظرية تفوق العرق الأبيض ونظريات المؤامرة والمتعصبين”.

ونفى ترامب أي تآلف مع مثل هذه الجماعات أو الترحيب بأعضائها بين أناسه. وفي عام 2019 قال: “أنا أقل شخص عنصري يمكن أن تجده في أي مكان في العالم”.

وامتدت الاتهامات الموجهة لترامب بكراهية الأجانب إلى سياساته الخاصة بالهجرة. وقال مسؤول بالبيت الأبيض طالبا عدم نشر اسمه، لقد كان “فشلا ذريعا” عندما قامت الإدارة عام 2018 بفصل آلاف الأطفال، وبينهم رضع، عن آبائهم غير المسجلين عند الحدود مع المكسيك. وانتشرت صور الصغار المكدسين الباكين في أنحاء العالم.

وعلى الرغم من ابتعاد بعض أنصار ترامب عنه منذ الهجوم على الكونغرس، ظل معظمهم متشبثا به على ما يبدو. وأظهر استطلاع أجرته “رويترز/ إبسوس” بعد حصار مبنى الكابيتول مباشرة، أن 70 في المئة من الجمهوريين ما زالوا موالين لترامب. ويقول نشطاء كثيرون إنهم مستعدون لترك الحزب في حالة أي استهانة بزعيمهم.

قال أحد مؤيدي ترامب من أوكلاهوما ويدعى ويل وليامز: “أرى ترامب محاربا من أجل الشعب يعمل بحق من أجل تعزيز مكانة بلاده… سأظل أذكره كرجل عظيم أجهز على الفساد في هذا البلد”.

ورسم استخدام تعبير “المذبحة الأمريكية” في خطاب تنصيبه صورة بائسة اعتبرها كثير من الديمقراطيين تضخيما، لكنها لقيت صدى واسعا لدى هذه القاعدة وأيضا لدى فقراء الريف الأمريكي. وقال ترامب إن أحلام هؤلاء أجهضتها المحنة الاقتصادية والجريمة والمخدرات وفقدان الوظائف لحساب دول أخرى. وقال ترامب آنذاك: “فلتتوقف هذه المذبحة الأمريكية هنا والآن”.

ويقول معارضو ترامب، الثري والمطور العقاري السابق، إنه لم يفعل شيئا يذكر من أجلهم. وقد سعى ترامب مرارا للقضاء على مشروع الرعاية الصحية الشاملة المعروف باسم (أوباما كير) الذي ساعد ملايين الأمريكيين على الحصول على تأمين صحي. كما أن حرب التعريفات الجمركية مع الصين أضرت بالمزارع الأمريكي ولم تؤد إلى إحياء التصنيع كما وعد. أما الإعفاءات الضريبية فقد استفاد منها الأغنياء في الأساس.

الجمهوريون والبحث عن الذات

بعدما أصبح ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يواجه المساءلة مرتين، أحدثهما بتهمة التحريض على أعمال الشغب التي شهدها الكونغرس، يشوب الغموض الشديد مستقبل الحزب الجمهوري.

أعاد ترامب رسم الصورة، وتبدلت مبادئ التقشف المالي المحافظة التقليدية والالتزامات تجاه التحالفات الدولية بعجز مالي ضخم وبشعار (أمريكا أولا) وباعتياد الكشف عن تحولات في السياسة وإطلاق بالونات اختبار عبر تويتر. وطالب بولاء مطلق وانقلب على كل من يعارضه.

والآن وبعد أن وجد الجمهوريون أنفسهم في مقاعد المعارضة بمجلس الشيوخ، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت سيطرة ترامب على الحزب ستستمر في وقت لم تعد لديه مقاليد السلطة الحكومية.

وما زالت قاعدة ترامب قوة انتخابية ذات ثقل، فقد منحته أصوات نحو 74 مليون ناخب، أي أكثر من أي جمهوري آخر في التاريخ. وتجلى الخوف من استعداء هؤلاء عندما أيد نحو نصف الجمهوريين بمجلس النواب محاولة فاشلة لمنع التصديق على فوز بايدن بالرئاسة.

لكن ظهرت بعض التصدعات في صفوف الجمهوريين ردا على الفوضى التي حدثت داخل مبنى الكابيتول وربما يمر الحزب بفترة بحث عن الذات.

كما أن مستقبل ترامب نفسه في خطر. فإذا أدانه مجلس الشيوخ في مساءلة ستجرى بعد رحيله عن البيت الأبيض، فقد يتم منعه من تولي المنصب مرة أخرى.

قال بوب كوركر السناتور الجمهوري السابق إن ترامب كان “رئيسا ذا شأن” من ناحية قيامه بتنفيذ سياسات كثيرة أرادها الجمهوريون. وأضاف: “لكن فيما يتعلق بكونه يثير الانقسام عمدا ويروج لأكاذيب” حول الانتخابات، “فإنه يقوض ديمقراطيتنا”.

ومضى كوركر يقول إن الحزب الجمهوري في حاجة إلى الخروج من عباءة ترامب “وأن يسلك طريقا لا يكون تحت قيادته. علينا أن نعيد تعريف أنفسنا”.

(رويترز)