تنتهي عند منتصف اليوم (الأربعاء) بتوقيت العاصمة الأميركية واشنطن فترة حكم الرئيس دونالد ترامب، وتبدأ مرحلة جديدة ستحاول خلالها إدارة بايدن لملمة الجراح داخلياً، والعودة بالسياسة الخارجية الأميركية إلى القيم والمواقف التقليدية التي ميّزتها منذ الحرب العالمية الثانية. لن تكون المهمة سهلة، فحجم التغييرات التي أحدثها ترامب عميقة، وبعض آثارها على الأرجح باقية، وستبقى أيضاً “ظاهرة ترامب” تتغذّى على الأسباب التي أنتجتها، وسوف يزداد الاهتمام بدراستها أيضاً.
لقد مثّل فوز ترامب عام 2016 مفاجأة لكثيرين، نتيجة الفشل في رصد التغييرات العميقة التي طاولت المجتمع الأميركي في فترة ما بعد الحرب الباردة، والتحوّلات الاقتصادية والتكنولوجية الكبرى التي عجزت فئات واسعة من الطبقة الأميركية الوسطى (الطبقة العاملة البيضاء خصوصاً) عن مواكبتها، فوجدت نفسها تنحدر في السلم الاجتماعي الاقتصادي حتى بلغت قاعه. امتزج لدى هؤلاء الغضب من عجز مؤسساتهم المنتخبة عن تلبية تطلعاتهم، و”خيانة” النخب الحاكمة التي انشغلت بمصالحها الخاصة عنهم، بالخوف من المستقبل، والقلق من تنامي نفوذ الأقليات والملوّنين، والذي بلغ الذروة بوصول أول رجل غير أبيض إلى سدة الرئاسة (باراك أوباما). بالنسبة لهؤلاء، لم تعد تلك “أميركا” التي يعرفون، أرادوا استردادها، فوجدوا في ترامب الذي استغل مظالمهم، وعرف كيف يخاطبهم، ممثلاً عنهم، فحملوه إلى السلطة.
استمرار تأثير ترامب لن يبقى، على الأرجح، مرتبطاً بالواقع المتغيّر للسياسة الأميركية، وتطلع جمهوره إلى عودته باعتباره “المخلص”، خصوصاً وأن المرارة تنامت الآن مع تنامي شعورهم بالمظلومية، بعد أن رسّخ ترامب في أذهانهم فكرة أن الانتخابات سُرقت منهم، بل سينسحب الأثر أيضاً على تناول الظاهرة ودراستها أكاديمياً.
لقد باتت “ظاهرة ترامب”، أو ما أصبح يُعرف اليوم في الأدبيات السياسية “بالترامبية”، على غرار “الستالينية” و”الريغانية” و”التاتشرية”، للدلالة على عمق الأثر الذي أحدثته، تمثل منذ انتخابات 2016 مادة دسمة للبحث والدراسة. وقد عصفت هذه الظاهرة بمفردات العلوم السياسية في الولايات المتحدة والعالم، كما عصف ترامب بالواقع السياسي الذي تتناوله، فأخذ أساتذة المعاهد والجامعات يعيدون بناء مناهجهم لمواكبتها. لقد قلب ترامب كل المسلّمات السائدة أكاديمياً عن الولايات المتحدة في الحكم والسياسة والانتخابات والعلاقة بين المؤسسات وفروع السلطة (التنفيذية والتشريعية والقضائية) وتوازناتها، وعن صلاحيات الرئيس والعلاقة مع الجيش ووسائل الإعلام (التقليدية والحديثة)، وعما يستطيع الكونغرس فعله وما لا يستطيع، وعن الدستور والتقاليد، وعن كفاية القوانين والقواعد التي تحكم شطحاتٍ، مثل التي قام بها ترامب، وعن استطلاعات الرأي وقيمتها، وعن عوامل انهيار الأمم، وعن معنى أن تصبح معركة أميركا الكبرى داخلها.
قبل ترامب لم يكن سهلاً الحديث في قاعة دراسية عن صعود القومية في أميركا، فالنظرة التقليدية هي أن القومية إرثٌ ارتبط بظروف أوروبا التاريخية، وأن صعودها غالباً ما يعبّر عن أزمة وعن الشعور بالتأخر عن مواكبة الآخرين. ليس أن صعود القومية بات جزءاً من مقرّرات العلوم السياسية في أميركا، بل ظهرت مقرّرات تتناول “أزمة” الديمقراطية، بما في ذلك داخل قلاعها التقليدية، بعد أن سادت عقدين تقريباً نظريات انتصار الديمقراطية الليبرالية، وأفول عصر الأفكار الكبرى (نهاية التاريخ).
عقوداً عديدة، ولأسباب مرتبطة بأن الولايات المتحدة القطب الأعظم في النظام الدولي والأكثر تأثيراً في بنيته وتفاعلاته، استأثرت السياسة الخارجية الأميركية باهتمام الباحثين والدارسين. ترامب دفع الأمور بالاتجاه المعاكس، إذ ينكبّ أكثر الباحثين وطلبة العلوم السياسية اليوم على دراسة أميركا من الداخل. لا شك في أن كل إدارة أميركية وكل رئيس أميركي ترك بصمة وأثراً في دراسة العلوم السياسية، تبعاً للقضايا التي استأثرت باهتمام إدارته. فمثلاً سيطرت في فترة كلينتون الدراسات المتصلة بقضايا القوة الناعمة والاقتصاد، وفي عهد بوش الابن انتقل التركيز إلى قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية، وفي عهد أوباما برزت الدراسات المتصلة بالعرق والإثنية والسياسات العامة، لكن القضايا الإشكالية التي واكبت رئاسة ترامب كالقومية، والسلطوية، والشعبوية وأدواتها (منصات التواصل الاجتماعي) لن يكون تأثيرها على الأرجح مرحلياً أو عابراً، فترامب لم يغير 230 عاماً من التقاليد السياسية الأميركية فقط، بل غيّر طريقة فهمها وتناولها بما في ذلك أكاديمياً.. وما قيمة العلوم الاجتماعية إذاً، إذا لم تواكب الواقع وتحاول فهمه والتأثير به؟
مروان قبلان
العربي الجديد