تتحرك تركيا في مساحات إقليمية ودولية، آخذة في الاتساع، بحثاً عن شركاء حيويين في برامج تطوير الصناعات العسكرية التي باتت تحتل موقعا متقدما في تشكيل العلاقات الدولية لدى أنقرة.
ويُظهر تتبع إستراتيجيات تركيا في هذا الصدد أنها نحت باتجاه إحياء شراكات قديمة في برامج التسلح من جهة، وتكوين علاقات ناشئة مع شركاء جدد من جهة أخرى.
كما تبنت أنقرة نهج تعميق علاقاتها بموردي الأسلحة النوعية التقليديين، إضافة إلى فتح أسواق جديدة لصادراتها من السلاح الذي أثبت جدارة وتفوقاً في كثير من النزاعات مؤخراً.
عربات عسكرية مصفحة مسلحة بالرشاشات في معرض للسلاح بمدينة إسطنبول (الجزيرة)
الشراكات القديمة
في المسعى الأول، تتطلع تركيا لبث الروح مجدداً في الشراكة التي جمعتها مع الولايات المتحدة في ملف انتاج طائرات “إف-35” (F-35) وهو المشروع الذي تم تجميده تحت وطأة اضطرابات كثيرة عصفت بالعلاقات مع واشنطن في عهد الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب.
يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده دفعت أموالا طائلة من أجل مقاتلات “إف-35” ورغم ذلك لم يتم تسليمها حتى الآن أياً منها، معتبراً ذلك خطأ جسيماً ارتكبته “حليفتنا أميركا ضدنا”.
ومنذ إجراء الانتخابات الأميركية الأخيرة في 3 نوفمبر/تشرين ثاني الماضي اتجهت مؤشرات العلاقات مع أنقرة نحو التقارب التدريجي، واختارت الأخيرة ملف المقاتلة الإستراتيجية عنوانا لهذا التقارب، حيث عبر أردوغان عن أمله في حل مشكلة تسليم الطائرات عقب تولي بايدن الرئاسة.
وتسود أجواء من التفاؤل أوساط المراقبين الأتراك بتحسن علاقات بلادهم مع الولايات المتحدة في عهد بايدن الذي أبدى -خلال حكم سلفه الديمقراطي باراك أوباما- تشددا لافتا حيال أنقرة.
تشغيل الفيديو
وشرقاً، لم تتوان تركيا عن إظهار المؤشرات الواضحة على توجهها بإدامة التنسيق مع موسكو لاستكمال بناء درعها الدفاعي بمنظومة صواريخ “إس-400” (ٍS-400) المضادة للطائرات.
ورغم الخلافات الكثيرة بين “الجارين اللدودين” فإن ملفات التسلح تمثل مجالاً خصباً للتعاون بين موسكو وأنقرة التي باتت قاب قوسين أو أدنى من تشغيل مفاعلها النووي بمحطة “آق كويو” في مرسين بالذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية عام 2023 بمعاونة الروس.
وإقليمياً، وقع وزير الخارجية التركي ونظيراه الأذربيجاني والباكستاني بالعاصمة الباكستانية ما سمي “إعلان إسلام آباد” القاضي بتعميق التعاون في العديد من المجالات على رأسها السياسة والاقتصاد والسلام والأمن.
اعلان
وفي عمق المنطقة العربية، وقعت تركيا اتفاقية لتزويد تونس بطائرات “عنقاء” المسيرة (بدون طيار) التي أثبتت نجاعة عملياتية لافتة بالقتال في ليبيا وإقليم ناغورني قره باغ الذي استعادته أذربيجان من أرمينيا بمساعدة تركية سياسية وإسناد عسكري معلن.
مدفع متنقل في معرض للسلاح في إسطنبول (الجزيرة نت)
مرتكز رئيسي للعلاقات
وتشير تقارير ودراسات محلية إلى أن صناعة التكنولوجيا العسكرية وتصديرها واستيرادها تمثل واحدة من المرتكزات التي تبني تركيا عليها توجهاتها في بناء علاقاتها الدولية.
ووفقاً لدراسة صدرت عن معهد أنقرة للدراسات السياسية، أصبحت معارض السلاح والتكنولوجيا العسكرية التركية من أهم مواقع عقد الصفقات الدولية، كما أصبحت تركيا تضع التعاون العسكري على رأس بروتوكولات التعاون التي توقعها مع الدول المختلفة.
ويبلغ حجم صادرات السلاح التركي نحو 3 مليارات دولار، تشكل قرابة 4.6% من حجم صادراتها العالمية، وتمثل الدول الخليج العربي والجمهوريات الناطقة بالتركية خاصة أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان أهم الزبائن.
وتبين الدراسة أن صناعة السلاح وتصديره واستيراده بات يمثل معياراً حقيقياً في إدارة تركيا لعلاقاتها الخارجية منذ صعود نجم صناعاتها العسكرية بعد العام 2000، حيث منحت أنقرة الأولوية للاعتماد على الذات في بناء قدراتها العسكرية.
وفي هذا الصدد، قال رئيس مؤسسة الصناعات الدفاعية إسماعيل دمير لصحيفة “يني شفق” مطلع الأسبوع الجاري إن بلاده ستنتهي خلال أقل من 5 سنوات من صناعة منظومة صواريخ دفاع جوي بعيدة المدى تضاهي صواريخ “إس-400” الروسية، (بل) وتتفوق عليها.
كما ذكرت تقارير صحفية أن الطائرة التركية المتطورة من الجيل الخامس -والتي ستعمل بمحرك من الصناعات الوطنية بنسبة 100%- ستكون قادرة على الطيران بعد سنة من الآن.
تشغيل الفيديو
الحاجة للاتجاهين
ويعتقد مراقبون ومتابعون للشأن التركي أن حاجة أنقرة لتأمين احتياجاتها من السلاح والعتاد قد ازدادت خلال الاعوام الأخيرة، بالتزامن مع تمددها في محيطها الإقليمي.
ويقول طه عودة أوغلو، الباحث بالشأن التركي والعلاقات الدولية، إن أنقرة استجابت لهذه الحاجة عبر العمل على تطوير صناعاتها العسكرية بعدما ترسخت قناعة لدى صناع القرار بضرورة تأمين الاحتياجات من السلاح والذخيرة والعتاد العسكري بشكل دائم في ظل الأخطار الكبيرة التي تحدق بالأمن الإقليمي.
ومن ناحية إستراتيجية، يرى عودة أوغلو أن القناعة ترسخت لدى الأتراك أيضاً بأن تأمين هذا الاحتياج لا يتحقق إلا بالاعتماد على التصنيع العسكري المحلي، الأمر الذي ظهر واضحا خلال العامين الماضيين من تفوق تركي في مجال الصناعات الدفاعية وتمت ترجمته على أرض الواقع في أكثر من مكان.
ويقول الباحث للجزيرة نت إن أنقرة استطاعت خلال الأعوام الأخيرة إنتاج مجموعة متنوعة من العتاد العسكري، لكن صناعاتها تلك ما زالت تعتمد على الاستيراد في بعض ميادين التكنولوجيا الدفاعية، موضحا أن الطموح التركي أكبر من ذلك بكثير فهي ترغب أن تحجز لها مكانا مرموقا في هذا المجال.
وإذا كانت صادرات السلاح قد فتحت خطوط العلاقات الدولية أمام أنقرة لتسويقه، فإن ثمة حاجة لفتح الخطوط بالاتجاه المعاكس لاستيراد احتياجات التطوير، إذ يقول عودة أوغلو إن الكثير من المعوقات الرئيسية مازالت تحول دون تحقيق تركيا الاستقلالية الكاملة في حاجياتها العسكرية.
ويعتقد الباحث التركي أن أبرز هذه المعوقات عدم قدرة أنقرة على إنتاج أنظمة تسليح معقدة حتى اللحظة مثل الطائرات الحربية والغواصات دون مساعدة أجنبية، وهذا يقلل من فرص نجاحها في بناء شراكات دولية كبرى في مجال الصناعات الدفاعية رغم النجاحات التي حققتها المسيرات التركية الأشهر الأخيرة والتي لعبت دورا كبيرا ومهما في قلب موازين القوى على الأرض في ليبيا وأذربيجان وشمال سوريا.
خليل المبروك
الجزيرة