الاقتصاد المالي العالمي يصطدم بأزمة ديون مرتفعة تهدد استقراره

الاقتصاد المالي العالمي يصطدم بأزمة ديون مرتفعة تهدد استقراره

 

الباحثة شذى خليل*

يمر العالم بأزمة الديون التي طاردت اقتصاده خلال 2020 تعد الأشد والأعنف على الإطلاق مقارنة بالأزمات الأخرى، سواء ما يتعلق بالركود، أو بارتفاع العجز في الموازنات، أو بتوقف عدد كبير من الأنشطة والقطاعات الاقتصادية.
تعرضت الموازنات الحكومية العالمية لضغوط مالية كبيرة، ما تسبب برفع نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي في نهاية العام إلى نحو 105%، مقارنة بنحو 90% خلال عام 2019، مما أدى الى ان هيكل الديون العالمية أصبح مختلاً، وركز ضغوطه بشكل كبير تجاه الموازنات الحكومية، التي يتوقع أن تعاني ضغوطاً شديدة خلال السنوات المقبلة، حتى بعد انتهاء أزمة كورونا، لا سيما مع ارتفاع فاتورة خدمة الدين العالمية.
شهدت الديون العالمية زيادات مستمرة على مدار عام 2020، فيما تشير المعطيات القائمة إلى استمرار تضخمها في الأجل المنظور في المستقبل، ما يضع الاقتصاد العالمي أمام تحدٍ كبير، حتى وإن انتهت أزمة كورونا، وانحسرت تداعياتها على الاقتصاد.
يعرف الدين العام بأنه الأموال التي تقترضها الحكومة من الأفراد والمؤسسات لمواجهة أحوال طارئة ولتحقيق أهداف مختلفة، عندما لا تكفي الإيرادات العامة لتغطية النفقات العامة التي تتطلبها هذه الأحوال الطارئة، مثل أزمات الحرب وحالة التضخم الشديد الأوبئة .
ولتمويل مشروعات التنمية ولمواجهة النفقات الجارية العادية حتى يتم تحصيل الضرائب حيث أن مواعيد التحصيل قد لا تتوافق تماما مع مواعيد النفقات الجارية.
وأيضًا هي الديون المترتبة على الحكومات ذات السيادة، وتتخذ أغلب هذه الديون شكل سندات غير قابلة للتداول أو أذونات خزانة لمدة ثلاثة أشهر تقريبا أو سندات قابلة للتداول، وعندما تقوم الحكومات بإصدار سنداتها فإنها إما تطرح سندات بعملتها المحلية، وغالبا ما تكون هذه السندات موجهة نحو المستثمرين المحليين، وفي هذه الحالة يسمى الدين دينا حكوميا.
أو تقوم الحكومة بإصدار سندات موجهة للمستثمرين في الخارج بعملة غير عملتها المحلية، والتي غالبا ما تكون بعملة دولية مثل الدولار أو اليورو.
يتم تحديد حجم الدين العام للدولة عن طريق حساب نسبة الدين العام بالنسبة المئوية من حجم الناتج المحلي للدولة.
ومع تجدد المخاوف بشأن تجدّد موجة تفشٍ ثانية لفيروس كورونا، تزداد حدة التوقعات بخصوص أزمة الديون العالمية المتفاقمة، والضرر الكبير الناجم عن تردي الأوضاع الاقتصادية بسبب عمليات الإغلاق التي يمكن أن تتكرر، ومع الموجة الثانية من الوباء المميت بما تحمله من تأثيرات أكثر ضراوة تقوض فرص التعافي الاقتصادي ولو بشكل تدريجي ستكون صعبة جدا.
من جهة أخرى، فما أن يتم اكتشاف لقاح لفيروس كورونا، يصطدم الاقتصاد العالمي بمستويات ديون مرتفعة تهدد استقراره المالي، وينذر ذلك بطول أمد الأزمة المالية المرتبطة بالجائحة التي قد تستمر لسنوات طويلة.
ويرى الاقتصاديون في صندوق النقد انه في ظل التوقعات الحالية فإن الأزمة ستقضي على 12 تريليون دولار في العامين المقبلين، محذرين “نحن لم نخرج بعد من دائرة الخطر”، وان الدعم المشترك الضروري من السياسات المالية والنقدية يجب أن يستمر في الوقت الراهن، وأن التراجع الاقتصادي يضر بشكل خاص بالدول والأسر المنخفضة الدخل على حد سواء، ويهدد التقدم الذي تم إحرازه في الحد من انتشار الفقر.
من جهته دعا صندوق النقد والبنك الدوليين، إلى تعليق مدفوعات الديون الثنائية على الدول الأشد فقراً، لتخفيف العبء عليها في ظل مكافحة كورونا، حيث أشار الصندوق أخيراً إلى أن الوباء دفع العالم إلى حالة من الركود، وبالنسبة إلى عام 2020 فإنه سيكون أسوأ من الأزمة المالية العالمية في 2008، حيث يتصاعد الضرر الاقتصادي في مختلف الدول، مع الزيادة الحادة في حالات العدوى وإجراءات الاحتواء التي تطبق من جانب الحكومات.
بيانات حديثة لمعهد التمويل الدولي، أشارت إلى ارتفاع حجم الديون العالمية بأكثر من 17 تريليون دولار في عام 2020، ما دفع إجمالي تلك الديون إلى الارتفاع إلى 275 تريليون دولار في نهاية العام، وتشير هذه البيانات إلى أن الديون العالمية سجلت زيادة شهرية خلال 2020 بأكثر من 1.42 تريليون دولار، ما دفعها إلى تخطي حاجز 328% من إجمالي الناتج العالمي في نهاية العام.
تتشابه التطورات التي طرأت على حجم الديون العالمية خلال عام 2020 مع التطورات التي تحدث في الغالب خلال أوقات الحروب، إذ تتوسع حكومات الدول في الإنفاق بينما تتراجع إيراداتها، ما يضطرها إلى الاقتراض بشكل حاد، وهذا ما حدث خلال العام الماضي، وأكد معهد التمويل الدولي أن الارتفاع في حجم الديون العالمية خلال العام كان مدفوعاً بالتراكم الحاد في الاقتراض الحكومي، في ظل الاستجابات الصارمة والمتزامنة للتداعيات الاقتصادية للجائحة، ما اضطر الحكومات إلى تغيير السياسة المالية والنقدية، والتوسع في الإنفاق بصرف النظر عن حجم ما يتوافر لديها من موارد تمويل حقيقية.
كما حذر اقتصاديون من أن أزمة الديون مقلقة للغاية، وتحتاج إلى انتباه وسيطرة، بعد أن أثرت كورونا في ارتفاع مستوى الديون في العالم، والتي كانت مرتفعة بالأساس، حيث كانت التوقعات في 2020 تشير لارتفاع الدين إلى 257 تريليون دولار في الربع الأول من العام نفسه، ومن المتوقع تصاعد الديون الى مستويات مقلقة في العام 2021.
وأضافوا أنه عند توزيع إجمالي الدين العالمي على 7.7 مليار نسمة (عدد سكان العالم) يكون نصيب كل فرد 32.5 ألف دولار من الديون، كما أن إجمالي الدين أكبر 3.2 مرة من الإنتاج العالمي.
وأرجع ارتفاع الديون بشكل أساس إلى تكثيف سياسات التيسير الكمي كإحدى أدوات إدارة الأزمات المالية، ما أدى إلى ارتفاع الدين خصوصاً في الأسواق المتقدمة إلى 180 تريليون دولار، ما يعادل 383% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول، وبالنسبة إلى الدول الناشئة تضاعف هذا الرقم بعد أن كان في 2010 في حدود 72 تريليون دولار.
وقال بعض المختصين، يجب على صناع السياسات النقدية والمالية تبني كافة الأدوات المتاحة للتغلب على صدمة الفيروس، إلا أن تراكم الدين (منذ الأزمة المالية الأخيرة) في قطاع الشركات غير المصرفية أمر يبعث على القلق، وأن الانقطاع الحالي لسلاسل التوريد وانخفاض النمو العالمي ينطوي على هبوط الأرباح وصعوبة أكبر في خدمة الديون، الأمر الذي يثير احتمالات غير بعيدة لأزمة ائتمانية في عالم ذي أسعار فائدة منخفضة للغاية وسلبية في بعض الدول.
إن القضاء على كورونا قد يكون ممكناً من المنظور الطبي البحت، لكن من المؤكد أن التخلص من تبعاته الاقتصادية أمر غير ممكن، حيث أن الإرث الذي سيخلفه تركة ثقيلة على الاقتصاد العالمي وسيكون كارثياً، موضحاً أنه بالتزامن مع المخاوف المتعلقة بشأن انكماش النمو العالمي والتوقعات بدخوله مرحلة كساد طويلة هي الأسوأ منذ قرن تقريباً، ويعود الضوء ليسلط مجدداً على أزمة تعاظم الدين التي كانت محور حديث الاقتصاديين حول العالم على مدار السنوات التي تبعت الأزمة العالمية في عام 2008.
وأكد أنه مع تقديم حكومات العالم تريليونات من الدولارات في حزم تحفيز والتعهد بالمزيد للمساعدة في دعم اقتصاداتها، يعود الحديث عن هذا الشبح الذي يرعب صناع السياسات المالية والنقدية، لا سيما وأن تزامن الصدمة التي أحدثها الفيروس التاجي في الأسواق العالمية جاء على خلفية مالية خطيرة تتسم بتزايد الديون العالمية أصلاً.
وأكد صندوق النقد أن “الاقتصاد العالمي يمر بمنعطف حرج، ولا يزال هناك قدر كبير من عدم الوضوح “، وأنه سيصدر تحديثاً للتوقعات الاقتصادية العالمية في 26 يناير (كانون الأول) ، تعكس التطورات الأخيرة، بما في ذلك تطوير وتوزيع لقاحات كورونا، وإجراءات التحفيز الجديدة في الولايات المتحدة واليابان.
وفي الوقت الذي توقع صندوق النقد أن يتعافى الاقتصاد العالمي خلال العام الحالي بنحو 5.2%، بعد انكماشه بنسبة 4.4% خلال عام 2021، رجح البنك الدولي أن ينمو الاقتصاد العالمي خلال العام الحالي بنحو 4% فقط، محذراً من أن تزايد الإصابات بفيروس كورونا وتأجيل توزيع اللقاح قد يكبحان التعافي إلى 1.6% فقط، هذا العام.
إن سياسة التحفيز فعّالة وأفضل الطرق للخروج من الأزمة الحالية بعيداً عن التقشف، كما أن أحد الحلول المطروحة بقوة قيام الحكومات بعمليات الإنقاذ بالنسبة إلى الشركات الكبرى، عبر ضخ أموال مقابل حصة لحين تجاوز الأزمة، ثم بعد انتهاء الأزمة تنسحب الحكومات تدريجياً بعد تعافي الشركات.
ورغم الدور الكبير للسياسات النقدية، فإنه لا يجب الاعتماد عليها بشكل كامل لتحقيق التعافي المتوازن، إنما يجب أن تكون للسياسات المالية دور أيضاً يساعد في تخفيف الأضرار لعدم الوقوع في إخفاقات كبيرة في سداد الديون والتعرض للإفلاس.
ويمثل هذا التركز أزمة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، لا سيما وأن الاقتصادات المتقدمة تواجه مصيراً ضبابياً في ما يتعلق بفرص التعافي من تداعيات الأزمة. فتضخم حجم الديون الحكومية يثقل كاهل الموازنات العامة في تلك الاقتصادات، ويضعف قدرة هذه الدول على الاستمرار في الإنفاق بالمستويات المرتفعة نفسها لفترات طويلة، وهو ما يزيد من تقليص فرص التعافي السريع لها.
ختاما تشتد أزمة الديون العالمية على الاقتصاديات مع تزايد حدة أخطار الموجة الثانية لفيروس كورونا المستجد، التي خلفتها الجائحة الصحية على الاقتصاد العالمي، حيث أن أزمة الديون التي قفزت بشكل مخيف، ويحذر صندوق النقد الدولي من عجز الحكومات عن مواصلة الجهود المالية والنقدية القوية لدعم اقتصاداتها، مع عدم اليقين الكبير في شأن المخاطر التي تشكلها عودة ظهور حالات كورونا والسلالات الجديدة، فماذا ينتظر العالم، وكيف ستخطط الدول العظمى والنامية والفقيرة للنهوض بالاقتصاد، إن العالم يواجه عقداً من نمو ضعيف وهزيل ما لم يبدأ تنفيد إصلاحات شاملة.

 

وحدة الدراسات الاقتصادية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية