عمر وعلي ضحكتان في برية عراق الطوائف

عمر وعلي ضحكتان في برية عراق الطوائف

يقف الشقيقان العراقيان عمر وعلي خارج ما يُكتب. ليست لهما صورة محددة. لهما ألمُ الأب الذي لا يوصف. لقد بدا ذلك الأب عاجزا عن الكلام بعد أن أخذه الذهول إلى منطقة يمتزج فيها الهذيان بمداد لكلمات تضيق بها المحيطات. خرجا “على باب الله” ولم يعودا. كان ذلك الباب مغلقا حين تمكّن منهما القاتل الذي فجّر نفسه لينهي نزهتهما في حياة شاقة.

في “ساحة الطيران” وهي مركز العالم الذي كان بالنسبة إليهما أشبه بالثقب الذي يتلصّصان من خلاله على الوطن كان هناك صباح شاق آخر، غير أنهما كانا يضحكان من أجل ألاّ يكون مصيرهما ثقيلا. كانا فخورين باسميهما كونهما شقيقين انتصرا بالأبجدية على كل السلالات الطائفية. لم يكن سلاحهما وهُما يقاومان قاتلا. كان رقيقا مثل وردة خفية وشفافا مثل أجنحة الملائكة التي تحمل إليهما جوقات من العابرين الذين يقلبون بضاعتهما وهم يهمسون باسميهما اللذين يختصر الهواء المنساب بينهما العراق الحقيقي بنزاهته وعدالته وعمق انتمائه العربي.

خرجا في ذلك الصباح ليعملا لا ليُقتلا.

شابان عابران للطائفية والميليشيات والأحزاب والفساد والكراهية والشك والنفاق الديني والسياسي واليأس والفقر والتمييز والانحياز والنميمة والشبهات والخوف والرقابة والخضوع والذلّ وليل الحزن وصمت الضعف. ولدا قبل الاحتلال ومعه. ليست للسنوات العراقية يومها حساب في الأزمنة. كل شيء رماديّ. كان ولا يزال وسيكون. يتطابق البشر وظلالهم. الباب الشرقي والباب المعظم ينطبقان بعضهما على البعض الآخر حين تُطوى الخارطة. وهما اختارا أن يقفا على الحافة ليضحكا حين تنقلب بهما الأرض. كم مرة انقلبت بهما الأرض وهما لا يزالان صغيرين؟

لم يتحمّلهما العراق المهزوم، عراق الطوائف فقتلهما.

طويت الأرض بهما وكانا يضحكان في ذلك الصباح الذي لا يزال شايه ساخنا ولم تطلق عصافيره أولى زقزقاتها. كانا فرحين بجموع الفقراء من حولهما. وكان عليهما أن يردّدا نشيدهما الوطني اليومي ولأن اليوم كان خميسا فقد كان العلم يرفرف في سماء وطن موحد، هو عراقهما الذي لا يزال يقيم في جنته عزيزا وكريما ومنزّها من الأخطاء.

كانا يعرفان أنهما قاوما باسميهما جحيم الطوائف بكل بلاغة جهله. كان معجمهما يفوح برائحة الأسماء الحسنى. ليس لأن التاريخ يقف معهما وحده بل لأنهما أيضا كانا يمشيان على أرض من الزمرد ينبعث منها عطر الحقيقة. كان العراق التاريخي والحقيقي يمشي معهما في طرقات الألم.

شقيقان هما رمزان وعلامتان وهما الصوت نفسه الذي يطارد الغزلان في برية الله. “لقد خرجا على باب الله” تلك الجملة الوحيدة المفهومة التي نطق بها والدهما وهو لا يستطيع أن يقاوم البكاء ولا يبكي في الوقت نفسه. هناك مسافة إلى البكاء، لكي نصدّقه علينا أن نمشيها ساجدين من أجل ألاّ نرى العالم الذي يكذب من حولنا. هناك جبل علينا أن نتسلّقه لكي نمسك بالشمس.

أكان على ذلك الوالد المكلوم أن يصدّق أن باب الرزق كان ملغوما؟ لقد تحدّى بولديه العالم كله. عرف كيف يكتب بنور عيونهما درسا اسمه العراق. الدرس الذي لن يقف أمامه العراقيون مثلما يقفون أمام العلم. رحلته كانت شاقة. حياته كانت قفزا بين الألغام. لقد حمل رسالته وهو يعرف أنه المنتصر بنزاهته وشوقه إلى أن يكون العالم جميلا.

لقد خرج الولدان من القمقم. فعلا المستحيل من أجل أن يكونا الكائنين الأحلى اللذين انتظرا طويلا من أجل أن يقفزا من حكايات شهرزاد إلى ساحة الطيران. هناك يقع عالمهما النضر. هناك يتعلم العراقيون منهما الدرس العظيم الذي كتبه أبوهما من أجل العراق الذي يسكنهما. لقد مرّ الوقت بطريقة معادية غير أنهما اخترقا الحروب. وكانا يضحكان.

عمر وعلي قُتلا في اللحظة العبثية نفسها. لقد طويت بغداد بهما بقسوة غير مسبوقة. انطبق الباب الشرقي على الباب المعظم فغابت بغداد. لن يرضى الوالد بأن تكون الملائكة دليله إلى الأرض. فقدَ شجرته على الأرض التي يحبّها وقد كان يمشي إليها مغمض العينين ولا يحتاج إلى ضوء. ولأن ولديه قمران فإنه لن يذهب بهما إلى قبرين. سيذهب بهما إلى العراق الذي عرفه وأحبّه وتحدّى العالم به ومن أجله. ذلك العراق الذي يناسب الدرس الذي كان ولداه أيقونتيه.

من غير أن يشعروا وصل الجميع إلى هدفهم. ضربوا العراق في قلبه. امتزج عمر وعلي ضاحكين فكان العراق موحّدا ووحيدا، جارحا وجريحا، قاتلا وقتيلا. انغلق باب الله على الطفلين الذهبيين وغابا وكان علم الخميس يبكي.

العرب