جاءت الأحداث الأخيرة في العراق وتحديدا في مدينة بغداد بعد الحادث الأليم الذي وقع بتاريخ 21 كانون الثاني 2012 وأودى بحياة (32) مواطنا مدنيا وجرح أكثر من (110) آخرين في تفجيرين انتحارين بحزامين ناسفين في سوق للملابس المستعملة بساحة الطيران وسط العاصمة بغداد، ليلقي الضوء على حقيقة الوضع الأمني القائم وطبيعة الإجراءات والأساليب المتبعة في ملاحقة العناصر الإرهابية وتطويقها والحد من نشاطها التخريبي بعد سنوات من الأمن والاستقرار الذي عاشه المواطن العراقي في بغداد .
هذا الحادث المأساوي أشر حقيقة واضحة، وهي ضعف الأداء الأمني وعدم وجود منظومة استخبارية وأدوات وبرامج وخطط استباقية لردع الإرهابين وإيقاف عملياتهم التخريبية التي تكررت في الأونة الأخيرة وفي عدة أماكن من أقضية ونواحي تابعة لعدد من المحافظات العراقية، وأشر استمرار الحضور الميداني لهذه الزمر الإرهابية ودوافعها الحقيقية التي تبغي منها إشاعة الفوضى وإعادة الطائفية الاجتماعية في الوسط العراقي وتمزيق أواصر العلاقة الصميمية والنسيج الاجتماعي المتماسك لدى أبناء الشعب العراقي والذي تجسد في الموقف الموحد بعد انتفاضة تشرين الأول 2019 .
أفصح الحادث عن انتكاسة أمنية خطيرة تتحملها جميع الجهات الأمنية والاستخبارية وعليها العمل بجدية لوضع لبنات ومرتكزات عديدة لمواجهة أية حالات مستجدة تؤثر على طبيعة الوضع الأمني في العراق .
تابع مركز (الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية) الأحداث الأمنية التي شهدتها العديد من الأماكن خلال الأشهر الماضية، ورغم تعدد هذه العمليات، لكنها تتشابه في الأسلوب والإعداد الذي قامت به عناصر داعش، وتمكن مركز الروابط من الحصول على معلومات دقيقة خاصة به تؤكد حقيقة التوجه التخريبي لهذه العناصر واستمرارها في عمليات قادمة مشابهة، وهذا يتطلب من القوى الأمنية والأجهزة الاستخبارية العمل على هيكلية المنظومة الأمنية وإعداد البرامج الدقيقة وتحديد استراتيجية استخبارية تستبق الأحداث، وإيجاد قنوات من المصادر الموثوقة التي تتمكن من إيصال المعلومة الجيدة والمفيدة للأجهزة المعنية، بغية إفشال نوايا وأهداف عناصر التنظيم الإرهابي، والحد من توجهاته، والضرب على قياداته والمتعاونين معه .
واستمرارا للمتابعة الجادة للأحداث إستطاع (مركز الروابط) الوصول الى معلومات أمنية ميدانية تتعلق بالتعاون الأمني الإستراتيجي بين قيادة التحالف الدولي والحكومة العراقية وأجهزتها الإستخبارية، والذي تمخض عن قيام الطيران الأمريكي بعدة طلعات وهجمات منسقة ودقيقة على مواقع ومخابئ تنظيمات داعش التي تحتمي في جبال مخمور، وأوقع بها خسائر جسيمة، ولم يتم الإعلان عن طبيعة وأهداف هذه العملية والنتائج الأمنية العالية التي تحققت بسببها .
بنظرة دقيقة وفاحصة لمجمل النشاطات التخريبية التي جرت في الفترة الأخيرة، نستطيع أن نقرأ وبشكل ميداني النتائج والملاحظات التالية :
1. أراد تنظيم داعش والعناصر الإرهابية المرتبطة به إيصال رسالة محدودة ولكنها ذات معاني كبيرة، أن باستطاعتهم الوصول الى مركز مدينة بغداد، وأن يحددوا مسارات الأهداف التي يسعون إليها ويحددون الزمن وأدواته في التنفيذ، وهي رسالة إطمئنان أيضا لعناصرهم وخلاياهم النائمة المتواجدة في الداخل .
2. إن استهداف مركز مدينة بغداد له أبعاده السياسية والاجتماعية قبل الأهداف الأمنية، وأن اختيار سوق شعبي يتجمع فيه عدد كبير من الأهالي غايته إيقاع أكبر عدد من الخسائر البشرية، والتأثير على عمل وتوجهات الحكومة العراقية، ومحاولة زرع الفتن والإضطراب داخل الحياة المجتمعية لأبناء الشعب العراقي .
3. إن من أولويات العمل الإرهابي لهذه المجاميع، هي تفنيد الإدعاءات والتصريحات التي تدلي بها الجهات الأمنية، والاستهداف الذي تم بعملية مزدوجة يشكل خرقا أمنيا واضحا، وإلا كيف يمكن أن نفسر أن عناصر من داعش تتمكن من الوصول الى العاصمة بغداد وتتخطى السيطرات الأمنية والأبراج والكاميرات الحرارية ونقاط المراقبة المستمرة ؟
4. تعزيز الدور الإرهابي لهذه العناصر وإثبات وجودها في مناطق متعددة من العراق وبجميع اتجاهاته وانتماءاته، فهنا عملية إرهابية ببغداد وتعرض آخر في محافظة صلاح الدين، وتفجير إرهابي في محافظة ديالى، أي أن الإرهاب يطال معظم مناطق البلاد .
5. لا زالت هذه المجاميع تعمل على استخدام أسلوب الردع والتخويف والتمكين في مواجهة القوات العسكرية والأجهزة الأمنية، وتعزيز مفهوم التقدم والصدمة القتالية في التمدد والانتشار، لكي تستمر في زرع الأمل بنفوس عناصرها وتحقيق حالة التآلف والتآزر بينهم .
إن عودة النشاط الإرهابي لعناصر داعش هو مؤشر خطير ينبغي التعامل معه بجدية بالغة وفق أولويات محددة للقضاء عليه، خاصة وأن الإرهاب ظاهرة إجتماعية تهدد أمن وسلامة وحياة الإنسان والمجتمع، وتستهدف الاستقرار والتقدم وخلق بيئة مخيفة في نفوس المواطنين، وهي من الجرائم التي حرمتها الشرائع السماوية وجرمتها القوانين الدولية والقيم الإنسانية .
كلما تمكنت القوات الأمنية والعسكرية من الارتقاء بفعلها الميداني وفق إطار أمني متصاعد وبخطط إستراتيجية وتنسيق مستمر مع قيادة التحالف الدولي، كلما كانت نتائج المواجهة مثمرة وجيدة، خاصة بعد أن تواردت معلومات عن إمكانية حصول هذه المجاميع وغيرها من العناصر المسلحة على طائرات مسيرة وصواريخ موجهة للقيام بعمليات تعرضية، واستهداف أماكن محددة داخل بغداد وخارج الحدود، وبعد قيام الأجهزة المختصة بإفشال مخطط لإدخال عدد من الأسلحة والصواريخ قبل (30) يوما، ولم يصدر أي تعليق أو بيان من الحكومة العراقية وأجهزتها الأمنية حول هذه المعلومات الميدانية .
ضرورة العمل على إعداد منهاج أمني دقيق وخطط أمنية فعالة وعمليات رصد استخباري دقيق ومتابعة حثيثة بشكل علمي يوازي نشاط وحركة العناصر الأرهابية والإبتعاد عن الإجراءات والوسائل العشوائية.
وحدة الدراسات العراقية