عقد الأتراك واليونانيون 60 اجتماعا بين العامين 2002 و2016 لإنهاء خلافاتهم العميقة من دون تحقيق أي تقدم يذكر. بعد خمس سنوات من تجميد التفاوض، عاد الطرفان إلى الطاولة الاستكشافية في 25 ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، نتيجة ضغوط أوروبية وأميركية وأطلسية. كرّر وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، قبل ذلك وفي أكثر من مرة، إن بلاده راغبة بفتح نافذة جديدة على الحوار مع اليونان، لكنه اشترط ألا يفسر ذلك بتراجع أنقرة أو تخلّيها عن حقوقها وأمنها ومصالحها الإقليمية. أعلنت أثينا، في المقابل، أنها جاهزة للتفاوض، ولكن ليس على مسائل أساسية غير قابلة للنقاش، مثل موضوع الجزر، وحقوقها المائية في بحر إيجه، وحقها في قرار توسيع مساحة مياهها الإقليمية إلى 12 ميلا.
كيف سيتقدّم الحوار، إذا، حين تعلن أنقرة أنها تريد التفاوض، لكنها تعتبر أن لبحر إيجه خصوصياته الواجب قبولها، وتحديدا مسألة الجزر اليونانية القريبة من اليابسة التركية، وتتمسّك برفض أية خطوة نحو تغيير مساحة المياه الإقليمية اليونانية باتجاهها، من دون تفاهماتٍ مسبقة بين الجانبين، وتعتبر ذلك سببا مباشرا للحرب. وترد أثينا إن المحادثات التي جرت أخيرا ليست مفاوضات، وهي غير ملزمة، وإن الهدف هو اختبار وجس نبض لمعرفة فرص الحوار الجاد والحقيقي بين الطرفين، بهدف واحد، يرمي إلى تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة، والجرف القارّي في بحر إيجة وشرق المتوسط، وإنها لن تناقش أي شيء يتعلق بالسيادة الوطنية وحقوق اليونان المعترف بها دوليا؟
لن يكون سهلا على أنقرة وأثينا إقناعنا أن لقاء حواريا عدة ساعات بين مسؤولين سياسيين ودبلوماسيين في البلدين سيكون كافيا لإزالة كل أسباب التوتر والتصعيد، وأجواء الاحتقان التي تفجرت مجدّدا قبل أشهر.
مرحلة مغادرة الخنادق، والتراجع عن التصعيد، لم تبدأ، ومشكلة أنقرة هي استقواء اليونان بالمجموعة الأوروبية والإدارة الأميركية الجديدة
كلفت أنقرة مساعد وزير الخارجية التركي، سدات أونال، بقيادة الوفد الذي كانت تشكيلته مدروسة بعناية، حيث جمعت السياسي والدبلوماسي والتقني، المتابعين عن قرب ملفات العلاقات التركية اليونانية. وقد تعمدت القيادة السياسية اليونانية، في المقابل، عدم إرسال المتحدّثة باسم رئاسة الوزراء اليونانية، إيليني سوراني، إلى إسطنبول، وهي التي حاورت إبراهيم كالين الناطق باسم الرئاسة التركية أكثر من مرة في السر والعلن. وكان المستغرب أن الاختيار اليوناني وقع على بافلوس أبوستيوليدس لترؤس وفد بلاده في الحوار مع تركيا، وهو الدبلوماسي المتقاعد ورئيس جهاز الاستخبارات بين عامي 1999 و2004، حقبة ما بعد تخلي أثينا عن زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، والذهاب وراء الانفتاح والحوار الإيجابي مع تركيا.
الواضح إذا أن مرحلة مغادرة الخنادق، والتراجع عن التصعيد، لم تبدأ، على الرغم من أن مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، يقول إن أوروبا متفائلة هذه المرة، وأخذت علما بكل الرسائل الإيجابية التي بعثتها أنقرة مثل سحب سفن التنقيب في شرق المتوسط، وتبنّي لغة سياسية جديدة مع اليونان وبروكسل، والتهدئة مع فرنسا ماكرون.
مشكلة أنقرة هي استقواء اليونان بالمجموعة الأوروبية والإدارة الأميركية الجديدة، وهذا ما عبر عنه الوزير، جاووش أوغلو، حين دعا أوروبا إلى التخلص من القيود التي يحاول بعض الأعضاء أن يفرضها عليها. هذا هو الإنجاز الأهم الذي حققته أثينا، وتحتمي به سياسيا واقتصاديا في أزمتها مع أنقرة، بعد دخولها المجموعة الأوروبية في مطلع الثمانينيات، وحيث نقلت المواجهة من تركية يونانية إلى تركية غربية في بحري إيجه وشرق المتوسط. هناك عدة عواصم أوروبية اختارت الوقوف على الحياد أو الدخول في وساطة مباشرة بين طرفي النزاع، مثل ألمانيا، والدور الذي لعبته منذ سبتمبر/ أيلول المنصرم، بشكل علني وسري، وهو الذي أوصل الأمور إلى ما هي عليه. برلين لا تريد أن تخسر حليفا وشريكا مهما مثل تركيا، ولا تريد أن تضعف ثقل المجموعة الأوروبية لصالح أميركا وفرنسا على حساب علاقتها بتركيا وثقلها الإقليمي. ولكن نظرة خاطفة على الأحداث والتطورات التي تزامنت مع موعد اللقاء التركي اليوناني تساعد على اكتشاف حجم الصعوبات والعوائق التي تعكس حقيقة أن الأمور ما زالت في بدايتها:
– تقول تركيا إنها ستعقد صفقة صواريخ جديدة مع روسيا، إذا لم تتفق مع أميركا على منظومة باتريوت تريدها في ترسانتها الحربية، وحيث ستكون القواعد العسكرية المطلة على المتوسط وإيجه مقرا لهذه الصواريخ. وتردّ اليونان بشراء 18 مقاتلة رافال فرنسية، في محاولة لإعادة التوازن مع سلاح الجو التركي الذي بات يملك جيشا من الطائرات المسيرة التي سجلت مفاجآت كثيرة على أكثر من جبهة.
تحذر أنقرة من يحاول تحريض أثينا، ولعب أوراقها ضدها، أنهم سيكونون بين من يتحمّلون المسؤولية ويدفعون الثمن
– يقول وزير الدفاع اليوناني، نيكوس باناغيوتوبولوس، إن اليونان مستعدّة لكل شيء، بما في ذلك الصراع العسكري، إذا ما استمرت عمليات الاستفزاز. ويأتي الجواب على لسان الرئيس التركي، أردوغان، الذي يذكر أثينا بأخذ العبر من دروس التاريخ، ويدعوها إلى عدم التصرّف مثل الفتوة الزائفة في المتوسط.
– تقرّ الحكومة اليونانية قانون توسيع القسم الغربي لمياهها الإقليمية في المتوسط إلى 12 ميلاً بحرياً، عقب مفاوضاتٍ مع جارتيها إيطاليا وألبانيا، والقيادات التركية تقول إن أي تحرّك من هذا النوع باتجاه اليابسة التركية يعني تجاوز مسألة اختبار صبرها وحزمها وإمكاناتها في الرد.
– تصل حاملة الطائرات الفرنسية، شارل ديغول، إلى شرق المتوسط في إبريل/ نيسان المقبل، للقيام بمناورات عسكرية مع اليونان. وتتمسك أنقرة بالعودة إلى كل الخطوات التي سبقت رسائل الانفتاح، إذا لم تستجب اليونان لهذه الرسائل.
– تعلن أثينا أن ماكرون والأمير البريطاني تشارلز والرئيس الروسي بوتين سيشاركون في احتفالات الاستقلال، المقرّرة في 25 مارس/ آذار المقبل، وأن مقاتلات رافال الفرنسية ستأخذ مكانها في العرض، جنبا الى جنب مع مقاتلات إف 35 التي تزود واشنطن اليونان بها، لكنها جمدت تسليمها لأنقرة تحت ذريعة شراء منظومة إس 400 الروسية. وتدخل برلين على الخط للإعلان إنها لن تتراجع عن صفقة تزويد تركيا بست غواصات من طراز حديث، اعترضت أثينا أكثر من مرّة على إرسالها إلى الجانب التركي.
– تكشف أثينا النقاب عن تحرّك عسكري واسع بشأن استعدادها لمناورات حربية بحرية كثيرة في العام المقبل، أهمها في منتصف شهر إبريل/ نيسان، بمشاركة أميركية فرنسية إسرائيلية إيطالية وإماراتية، وتكرر أنقرة أنها حذّرت من يحاول تحريض أثينا، ولعب أوراقها ضدها، أنهم هم أيضا سيكونون بين من يتحمّلون المسؤولية ويدفعون الثمن.
لن يسمح شركاء اليونان الجدد لها بأكثر من مماطلة أنقرة في الحوار والتفاوض لكسب الوقت، بانتظار القرارات الأميركية الجديدة
ـ وجّه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إلى طرفي النزاع في قبرص، الدعوة إلى اجتماع تفاوضي يعقد في شهر مارس/ آذار المقبل، بمشاركة الدول الضامنة الثلاث في الملف، تركيا واليونان وإنكلترا. وهو تحرّك أممي جديد قد يساهم في التهدئة بين أنقرة وأثينا أيضا. ولكن المشكلة أن من يزعم تحرّكه لنزع فتيل الانفجار بين أنقرة وأثينا هو نفسه من يصب الزيت فوق نار تأجيج الصراع، والدفع نحو التأزم والتصعيد، مثل اللاعب الفرنسي الذي يبدو أنه لن يتوقف عن محاولات تضييق الخناق على أنقرة في شرق المتوسط وشمال أفريقيا.
ـ الهدف التركي واليوناني قد يكون طي صفحات سنوات طويلة من العداء والخصومات التي تحكّمت في مسار العلاقات بين البلدين، لكن المسألة لن تكون بمثل هذه السهولة، فمشكلتهما لم تعد فقط في بحري إيجه وشرق المتوسط، بل هي في منظومة التحالفات الإقليمية التي بدأت تظهر إلى العلن في منتدى الغاز السباعي، واتفاقيات ترسيم الحدود البحرية اليونانية والقبرصية مع دول متشاطئة عديدة.
ـ مناورات عسكرية أميركية قرب الحدود البرية التركية في منطقة تراقيا، وحديث عن اقتراب إنشاء قاعدة عسكرية أميركية في المكان تستقبل 40 مروحية هجومية من طراز “بلاك هاوك”، ليس معروفا بعد في إطار أية مهام ستوجد هناك، إلى جانب قاعدة مسيرات إسرائيلية وسط بحر إيجه في جزيرة اسكيري. ولن يسمح شركاء اليونان الجدد لها بأكثر من مماطلة أنقرة في الحوار والتفاوض لكسب الوقت، بانتظار القرارات الأميركية الجديدة، ومواصلة محاولات تضييق الخناق على تركيا في إيجه وشرق المتوسط، وإلزامها بقبول خطط نقل الطاقة الإسرائيلية المصرية إلى السواحل الأوروبية. لكن بيان مجلس الأمن التركي أخيرا يعكس حقيقة أن أنقرة تتابع التطورات عن قرب، وأنها حين تعلن عن إعطاء الأولوية للدبلوماسية والحوار، فهي لن تتخلى عن حماية حقوقها التي يمنحها لها القانون الدولي في المياهين.
المشروع الذي يدعمه بعضهم هو الإصرار على تجهيز اليونان عسكريا لمواجهة الترسانة التركية، ولتحويل اليونان إلى رأس حربة في أية حرب محتملة في شرق المتوسط. لو كان القرار بيدي أنقرة وأثينا وحدهما لكانت الجبهات اشتعلت منذ عقود.
سمير مصالحة
العربي الجديد