معركة “الضغوط القصوى” وحرب “المطالب القصوى”

معركة “الضغوط القصوى” وحرب “المطالب القصوى”

أول الرقص حنجلة، كما قالت العرب. وأول الحوار سجال، كما في كتاب الدبلوماسية. وليس السجال المبكر بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والنظام الإيراني سوى قرع طبول قبل حوار الكواليس وموسيقى الرقصة النووية. إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب التي انسحبت من الاتفاق النووي، مارست “الضغوط القصوى” على إيران لدفعها إلى التفاوض على اتفاق أقوى وأشمل. وطهران مارست ما سمّته “الصبر الاستراتيجي” على الضغوط والعقوبات، وتحدثت عن “هزيمة الضغوط القصوى”. لكن معركة “الضغوط القصوى” فتحت الطريق أمام حرب “المطالب القصوى” لكل من واشنطن وطهران. وفي البدء كان الخطأ الأميركي: تسليم الرئيس باراك أوباما بالقيود التي فرضها المرشد علي خامنئي على التفاوض وحصره بالموضوع النووي فقط. وحتى في الملف النووي، فإن تعليمات الرئيس الأميركي للوفد المفاوض برئاسة جون كيري، كانت الإلحاح على اتفاق مهما تكن الثغرات وبأي ثمن. والمفارقة أن أميركا تعرف أكثر من أي بلد أن الموضوع النووي ليس ملفاً “مستقلاً ومعزولاً”، بل ورقة في ملف الاستراتيجية الإيرانية التي تخدم مشروع “ولاية الفقيه” الإقليمي وحتى الأممي.

الوضع المثالي

ذلك أن ما يريده كل طرف في سجال “المطالب القصوى” هو الوضع المثالي في نظره. الوضع المثالي بالنسبة إلى إيران هو رفع العقوبات الأميركية وعودة بايدن إلى الاتفاق الذي انسحب منه ترمب من دون أي تغيير. فالاتفاق بين إيران ومجموعة “1+5” أعطى طهران كل ما تريد وترك يدها طليقة في المنطقة مقابل التخلي عن صنع ما لا تملكه وما تدّعي أنه “محرم شرعاً بفتوى”، وهو القنبلة النووية. ورفع العقوبات في مجلس الأمن. استعادة الأرصدة المجمدة. تطوير البرنامج الصاروخي. توسيع نفوذها وتعميقه في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة. تمويل ميليشيات وتسليحها. زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. واللعب بالنسيج الاجتماعي الوطني في البلدان العربية.

والوضع المثالي بالنسبة إلى أميركا هو سد الثغرات في الاتفاق النووي وتطويره ليصبح “أكثر استدامة وصلابة” بعد عودة إيران إلى احترام التزاماتها، التي “لم تعُد تحترمها على جبهات عدة”، كما قال وزير الخارجية أنتوني بلينكن. وهذا كله منصة للانطلاق في مفاوضات للحدّ من إنتاج الصواريخ الباليستية وتطويرها ومن النفوذ الإيراني في المنطقة وإنهاء السلوك المزعزع للاستقرار. والجديد ليس فقط التقارب بين المواقف الأميركية والمواقف الفرنسية والبريطانية والألمانية، بل أيضاً الحرص على دور لحلفاء الولايات المتحدة وشركائها، وبشكل خاص مصر والسعودية وإسرائيل.

لكن ما تطلبه إيران مستحيل. حتى “العودة إلى الاتفاق النووي كما هو غير ممكنة”، كما يقول مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل ماريانو غروسي. لماذا؟ لأن “هناك انتهاكات كثيرة حدثت، وستحتاج بالضرورة إلى بروتوكول أو اتفاق أو تفاهم أو وثيقة ملحقة تحدد بوضوح ما الذي سنفعله، ولا يمكنني أن أتخيل العودة ببساطة إلى المربع الأول، لأن المربع الأول لم يعُد موجوداً”، وفق غروسي. والطريق إلى ما تطلبه أميركا طويل وصعب ومملوء بالمخاطر. فلا الاعتداء بصاروخ على الرياض هو نهاية “الرسائل” الإرهابية الإيرانية. ولا عرض العضلات العسكرية بالمناورات البحرية والجوية والبرية وسط التهديد بـ”تسوية حيفا وتل أبيب بالأرض” هو لتخويف أميركا وإسرائيل بما تسمّيانه “الخردة الإيرانية” بمقدار ما هو للتنمر على الدول العربية. ولا أميركا، ولو أرسلت حاملات الطائرات وأمرت القاذفات الاستراتيجية B52 بالتحليق في أجواء الشرق الأوسط، تخطط لحرب شاملة. ولا “الضغوط القصوى” بالعقوبات وحدها تكفي لتحقيق كل “المطالب القصوى”. فما العمل؟

لعبة دقيقة

روسيا والصين تقفان مع إيران، كما أوحت محادثات وزير الخارجية محمد جواد ظريف في موسكو مع نظيره سيرغي لافروف، الذي طالب برفع أميركا العقوبات والعودة إلى الاتفاق النووي أولاً قبل عودة طهران إلى التزاماتها. أوروبا تحاول العمل على أساس اللقاء “في منتصف الطريق”. إيران تتحدث عن معادلة “الأقل من المطالب مقابل الأقل من المطالب”، ويدعو الوزير محمد جواد ظريف إلى خطوات “متزامنة” برعاية الاتحاد الأوروبي. وأميركا تعترف بأنها لا تزال بعيدة من النقطة التي تريد الوصول إليها على طريق التفاوض.

واللعبة دقيقة وخطيرة. إدارة الرئيس بايدن تستطيع العيش من دون الاتفاق النووي، وأن تمنع طهران بوسائل عدة من امتلاك سلاح نووي. والنظام الإيراني لا يستطيع الصبر طويلاً على العقوبات التي تخنقه، مهما كابر وأنكر وبالغ في إظهار القوة والصمود.

رفيق خوري

انبندت عربي