لقاح كورونا والصراع الجيوسياسي العالمي

لقاح كورونا والصراع الجيوسياسي العالمي

تخطى عدد المصابين بفيروس كورونا في العالم المائة مليون نسمة، توفي منهم أكثر من مليونين. والجديد في هذه الجائحة أنها لم تضرب دول العالم الثالث فقط، ومضاعفاتها لم تمسّ الصحة العالمية فحسب، بل ترك انعكاسها على الاقتصاد العالمي أضرارا كبرى على الاقتصاد العالمي، وبصفة خاصة على اقتصاديات الدول الكبرى.

ولئن كانت شعوب الدول الفقيرة معتادةً على البؤس والحرمان، فإن شعوب الدول الغنية اعتادت على الازدهار والعمران، وعلى الرفاهية والرخاء، والعيش بأنانية وانفرادية، ما جعل ضربة كوفيد 19، وعواقب الحجْر الصحي أكثر إيلاما وإيجاعا، ما جعل بعضها تنتفض ضد حكوماتها محتجةً على القيود المفروضة، ضاغطة عليها لإيجاد الحلول في أسرع وقت. وهكذا، منذ الإعلان عن توصل مختبرات طبية عديدة إلى لقاحاتٍ ضد المرض، كان العالم أجمع ينتظرها على أحرّ من الجمر، أصبح الحصول عليها، وبعددٍ كافٍ، يغطي حاجاتها ديدن كل الدول.

من بين الدول الخمس العظمى ذات صلاحيات حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن فرنسا وحدها لم تستطع تطوير لقاح في مختبراتها، وأعلن معهد باستور قبل أيام التوقف عن الاستمرار في مشروعه الرئيسي المتعلق باللقاحات، نظرا إلى أنه غير فعال بما فيه الكفاية، وكان يستند إلى لقاح الحصبة الذي تم تكييفه لمكافحة كوفيد 19. وفي المقابل، استطاعت الولايات المتحدة تطوير لقاحين، فايزر وموديرنا، والمملكة المتحدة لقاح أسترازينيكا، والذي ينتج بعضه في الهند، وروسيا لقاح سبوتنيك 5. أما الصين فاستطاعت تطوير لقاحي سينوفارم وسينوفاك وإنتاجهما، وثالث آخر في الطريق.

هذا التنافس العلمي بين القوى العالمية في حقيقته تنافس استراتيجي وجيوسياسي، حيث إن الحرب ضد الجائحة هي حرب ضد الانكماش الاقتصادي، وضد إمكانية تقلص النفوذ الدولي، خصوصا في مواجهة “القوة الناعمة” الصينية التي ترسخ المزيد من شبكتها الأخطبوطية عبر العالم، وهذه المرة في مجال كانت الريادة فيه للغرب من دون منازع، وهو التفوق الطبي.

أظهرت أزمة كورونا جشع الدول الغنية وأنانيتها المفرطة حتى في ما بينها، فست دول من الاتحاد الأوروبي احتجّت على سياسة المفوضية الأوروبية

تنافس محموم تحوّل إلى صراع جيوسياسي عالمي، وبدل التعاون معا، أصبح التنافس سيد الموقف، ومع تعارض المصالح الوطنية والقومية مع المصالح الخارجية، فضلت الدول الكبرى تقديم مصالحها الداخلية التي ستمكّنها من الحفاظ على مواقعها السياسية والاقتصادية بين مجتمع الدول، بله بهيبتها ومكانتها وسمعتها العالمية، وهذا لا يتأتى إلا بالحصول على اللقاحات، وبالكمية الكافية لتغطية حاجياتها الداخلية، فهو إذن صراع للخروج من الأزمة، وهو عراك للسيطرة وإبقاء الهيمنة الغربية، استعملت فيه كل وسائل الضغط على المختبرات العلمية، خصوصا من دول الاتحاد الأوروبي التي لم تستطع إنتاج لقاح واحد مستقل بها، وقد تجلى ذلك في اللوم الذي وجهته دول عديدة إلى شركة أسترازينيكا، باتهامها بعدم الالتزام بوعودها، وعدم احترام تعهداتها بشأن تسليم الجرعات المتفق عليها. وفي خباياه، يعكس التوتر بين هذا المختبر البريطاني والاتحاد الأوروبي صراعا جيوسياسيا آخر، فهو من عواقب الحرب الباردة بين طرفي “بريكست” (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، خصوصا مع اضطرار بريطانيا للتخلي عن بعض شروطها في آخر لحظة، للوصول إلى اتفاق اللحظة الأخيرة بينها وبين الاتحاد الأوروبي، وكأن رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، يريد أن يظهر أن بلاده لم تفقد أي شيء من قدراتها، وأنها أقوى على العمل على حماية سكانها، وأن تأثيرها العالمي ونفوذها قويا بعد الخروج من الاتحاد.

في ظل هذا كله، يبقى العالم الثالث الخاسر الأكبر، فتحالف “كوفاكس” الذي وعد بتزويد 92 دولة من الدول لأكثر فقرا باللقاح أظهر أنه عاجز عن الوفاء بوعده، وبيّن أنه لن يستطيع تحقيق مراده إلا بعد أن يصل الكبار إلى التخمة، في موقفٍ جلي، كشف عن منطق “أنا والطوفان من بعدي”، فالرعب والخوف الذي ضرب الكبار والأقوياء جعلهم لا يفكّرون في الصغار والضعفاء، والدليل أن أكثر من 70% من اللقاحات ذهبت إلى الدول الغنية. وإذا كان المنطق يقول إن استئصال الوباء لا يمكن بلوغه إلا بضربه في كل بقاع الدنيا، فإن منطق الكبار يوحي برغبتها في تأمين المساحة الجغرافية التي تسمح بعودة النشاط الاقتصادي والتجاري وحركة السفر والتنقل بين عمالقة الاقتصاد المدرّين للأرباح لكبريات الشركات العالمية، وإن اقتضى الحال غلق المجال الجوي وحرية التنقل إلى العالم الثالث، في انتظار تلقيح سكانه، فلا بأس، وهي طريقة غير سليمة أخلاقيا، وأسلوب غير محترم، لكنها تجنب الاقتصاد الغربي، وهو عصب الحياة، شبح الإفلاس والركود والانكماش.

الحرب ضد الجائحة هي ضد الانكماش الاقتصادي، وضد إمكانية تقلص النفوذ الدولي، خصوصاً في مواجهة “القوة الناعمة” الصينية

مجمل القول إن أزمة كورونا أظهرت جشع الدول الغنية وأنانيتها المفرطة حتى في ما بينها، فست دول من الاتحاد الأوروبي احتجّت على سياسة المفوضية الأوروبية. والمجر، الدولة العضو في الاتحاد، لجأت إلى روسيا لاقتناء اللقاح، وأوكرانيا وجدت نفسها من دون لقاح، وفي وضع حرج، بعد رفضها شراء لقاح “العدو الروسي”، وتخلي الحليف الأميركي عنها. أما الهند، الدولة الفقيرة، فقد وعدت بإنتاج مليار جرعة من اللقاح البريطاني ووفت، وباشرت بإرسال مليوني جرعة إلى المغرب، ما سمح لهذا البلد ببدء حملة التلقيح، ليكون بذلك ثاني بلد أفريقي بعد مصر يحصل على اللقاح. ويعطي هذا كله صورة واضحة عن الصراع الدائر، وعن عدم التكافؤ بين الدول الفقيرة والغنية، في الوصول إلى اللقاحات، قال عنه المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس غبريسوس، إنه فشل أخلاقي كارثي.

وقد ظهر هذا الفشل الأخلاقي جليا لدى القوى الغربية، فسباقها الطامع إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من اللقاح، مع تجنب اللقاحين الصيني والروسي، للحفاظ على ماء الوجه، قابله، في الجهة الأخرى، تصريح الرئيس الصيني، شي جين بينغ، وهو يقول للعالم أجمع إن أي لقاح تطوّره الصين مقدّر له أن يصبح “منفعة عامة عالمية”.

قوة الصين، التي حقق اقتصادها 2% من النمو سنة 2020، حين ضرب الانكماش كل الدول الغربية، تكمن في قدرتها على إنتاج الكميات الهائلة التي تحتاجها الدول النامية وتزويدها بذلك، وتتجلى في سياستها التي استطاعت، بكل فخر، أن تملأ الفراغ الذي تركه الغرب، وهو يتخلى عن العالم الثالث في هذه المحنة. وتتضح هذه القدرة في تمكّن الصين من تغيير موازين نفوذها الدولي الذي أضحى أكثر تأثيرا، نظرا إلى حاجة الآخرين إليها، والاعتماد عليها في مجالاتٍ كثيرة. وهنا لا يمكن إلا أن نتذكّر الكتاب الشهير “يوم تنهض الصين يهتز العالم”، للفرنسي ألان بيرفيت (صدرت طبعته بالعربية بترجمة هنري زغيب في 1947، والثانية في 1990).

عمر المرابط

العربي الجديد