عودة مس بيل إلى العراق من جديد

عودة مس بيل إلى العراق من جديد

في العشرينيات من القرن المنصرم وبالتحديد في عام 1914 وصلت إلى العراق البريطانية غيرترود بيل، بصفة باحثة وعالمة آثار، ثم برز اسمها ودورها مستشارة للمندوب السامي البريطاني، إبان الاحتلال البريطاني، في حين وصفها البعض بأنها أنشط جاسوسة بريطانية في المستعمرات التي لا تغيب عنها الشمس. لذلك استعان بها رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، في عملية استمزاج الرأي بخصوص تقسيم الشرق الأوسط ورسم خرائطه. وقد وُصفت بأنها صانعة الساسة في العراق، كانت تأمر فيستجاب لها، وتُفتح لها أبواب القصور والدواوين ومجالس الوزراء والمتنفذين، بدون أن تطرق. فهل جينين بلاسخارت هي مس بيل في العراق من جديد؟ وأي ملوك ستصنع، وكل ساسة العراق صُنعوا قبل وصولها؟
في كل مرة يُظهر لنا المجتمع الدولي إصرارا عجيبا على التغاضي عن القضية العراقية، بل يذهب بعيدا في إرضاء أطراف خارجية، ويبارك لها حصصها وخرابها وكوارثها في هذا البلد، على حساب سيادته واستقلاله ومصالح وإرادة شعبه. واليوم تبرهن لنا جينين بلاسخارت رئيسة بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) مرة أخرى، على أن انخراطها في هذا السلوك المعطوب ما هو الا استمرار لسلوك المجتمع الدولي مع العراق. كما أنه نمط عمل بدأته هي منذ توليها هذه المهمة عام 2018، ومازالت حريصة على الاستمرار فيه، وإضافة لبنات أخرى عليه.
فلو استعرضنا تحركاتها في الساحة العراقية، نجدها دائما ما كانت تميل إلى الطغمة الحاكمة، وتحاول في كل مرة تغطية تصريحاتها بعتمة من الضبابية، بما لا يثير حفيظتهم. انظروا إليها عندما أرادت إثبات وجودها السياسي على النطاق الشعبي، وذهبت لزيارة شباب ثورة تشرين في ساحة التحرير في بغداد، كانت تصريحاتها أثناء لقاءاتها مع الثوار، ضمن الحدود التي تشعر بها أنها مقبولة من السلطات، وبذلك أثبتت أن زيارتها إلى ساحات التظاهرات كانت أشبه بزيارات سائح، لا هم له سوى التقاط صورة في المكان أكثر من حرصه على معرفة حقيقة المكان والزمان. في حين كان مطلوبا منها أن تكون أكثر جرأة وشجاعة في توضيح الموقف، وأن تتخلى عن موقفها الشخصي وأن تُعبّر بشكل واضح عن موقفها الوظيفي بما تمثله قيم ومبادئ الأمم المتحدة، التي تؤكد على حرية وكرامة الإنسان وحقه في الحياة، آنذاك خرجت بتغريدات أبسط ما يقال عنها إنها جهل تام بواقع العراق، وقفز عار فوق الحقائق، حينما قالت إن التظاهرات هي تعطيل للبنية التحتية، وبذلك وقعت في خطيئة كبرى عندما نظرت إلى البنى التحتية، التي هي ليست موجودة أصلا، بعد تدميرها من قبل الغزاة، ولم تنظر إلى الشباب السلميين، الذين لاحقتهم كواتم الميليشيات فسالت دماؤهم في ساحات ومدن العراق. كما قالت إن أغلاق الطرق يؤدي إلى خسارة العراق مليارات الدولارات، لكنها لم تُشر أبدا إلى مليارات الدولارات التي سرقوها من تجلس معهم من أقطاب السلطة الحاكمة صباح مساء. فإذا كان هذا هو التراث السياسي لرئيسة بعثة (يونامي) في العراق، خلال ما يقرب من ثلاث سنوات، فهل بعد ذلك من عجب حين تذهب في زيارة إلى طهران، لمناقشة ملف الانتخابات العراقية المقبلة؟
يبدو جليا أن خدمة عشرين عاما في المجال السياسي والدبلوماسي، لم تُسعف بلاسخارت في قراءة الواقع العراقي جيدا، أو يبدو أنها مازالت تسير وفق سياق سياسة بلادها، التي دعمت غزو واحتلال العراق عام 2003، لذلك ربما وجدت أن عقليتها السياسية تتلاءم مع عقلية ساسة طهران، الذين يعلنون صراحة أنهم يسيطرون على بغداد وعواصم عربية أخرى. وهنا وقعت بخطأ سياسي كبير، حينما تغافلت عن إرادة شعب كانت واضحة في هتافات ثوار تشرين، وهو الرفض المطلق للتدخلات الإيرانية في الشأن العراقي، لتذهب إلى من رفضهم شعب العراق، وتناقش معهم مستقبل العراق. فجلست على مائدة حسين أمير عبداللهيان المساعد الخاص لرئيس البرلمان الإيراني، والمدير العام للشؤون الدولية في البرلمان، وكذلك علي أكبر ولايتي كبير مستشاري المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وكأنها الناطق الرسمي باسم شعبنا والممثل الشرعي والوحيد له.

غادرت بلاسخارت الحيادية التي يجب أن تتمتع بها وعرف العراقيون أن كل من يتسلم هذا الموقع يميل إلى السلطة على حساب الشعب

ومن طهران يخرج تصريحها الذي تقول فيه إنها تؤكد «على حفظ وحدة وسيادة العراق وإجراء انتخابات حرة فيه» في حين هي تعرف جيدا حجم التدخل الإيراني في العراق، وما هي مديات هذا التدخل وأغراضه وأهدافه، وكيف أن طهران وضعت هذا البلد في مجال نفوذها، واتخذته جدار حماية لها، ونقطة انطلاق في المنطقة لتنفيذ سياساتها الكارثية. فهل تستقيم هذه السياسة العدوانية مع نيات بلاسخارت، التي يشك العراقيون في أنها حسنة، حين تقول إن الزيارة تأتي (في إطار دعم الاستقرار السياسي في العراق)؟ ومن الذي أعطاها الحق في مناقشة شأن داخلي لدولة هي تقول عنها إنها مستقلة وذات سيادة، مع دولة لم تترك مجالا إلا وتدخلت فيه لتحقيق مصالحها؟ أم أن بعثة (يونامي) في العراق ليست سوى أداة من أدوات تحقيق السياسات الخارجية للدول الكبرى في هذا البلد؟
نعم يمكن فهم دور البعثات الأممية، التي تعمل في دول تشهد صراعات مسلحة بين أطراف متعددة، وتكون فيها الخنادق متداخلة، ما يتطلب من هذه البعثات اللقاء بدول مجاورة لمناقشة ملفات هذه الدول، وفرز الخنادق كما نراها في ليبيا واليمن، لكن هذه الحالة لا تنطبق على العراق، لأن الخنادق فيه ليست متداخلة، وهما خندقان لا ثالث لهما، خندق الشعب، وخندق الأذرع والذيول التابعة لإيران والولايات المتحدة. كما أن فيه سلطات يقولون إنها مُعترف بها من قبل المجتمع الدولي. كان يفترض أن تميل بلاسخارت إلى خندق الشعب، وفق مبادئ الامم المتحدة، التي تعمل تحت رايتها، لا أن تُغطي تحركاتها الغريبة بحجة الولاية الأممية على الملف العراقي. إن ذلك يتنافى تماما مع المهمة المحددة لـ(يونامي) في العراق، التي لا تعطيها الحق في أن تكون مسؤولة عن ملف الانتخابات. وإذا كان البعض قد ذهب للقول إن بلاسخارت تعلم جيدا حدود التدخل الإيراني، وهي ذهبت لإبعاد هذا النفوذ من التدخل في الانتخابات المقبلة، فإن هذا الرأي لا مصداقية له إطلاقا، لأن طهران لم تأخذ الإذن بالتدخل من أحد، ولن تأخذ الإذن بالتوقف عن ذلك.
لقد غادرت بلاسخارت الحيادية التي يجب أن تتمتع بها منذ زمن بعيد، بل عرف العراقيون أن كل من يتسلم هذا الموقع يميل إلى السلطة على حساب الشعب ومبادئ الامم المتحدة. لقد اختزلت، واختصرت هذه السيدة جميع المواطنين في هذا البلد بساسة معروفين بالولاء لطهران، وباتت حاضرة دائما على موائدهم وتكررت زياراتها لهم وحضور اجتماعاتهم. كما حرصت على زيارة رجال دين يمثلون طائفة دون البقية. واليوم تزور طهران وتناقش معهم ملفات عراقية داخلية وهي تعلم طبيعة السياسة التي يمارسونها في العراق، وتعرف جيدا مدى الرفض الشعبي لهذا العدوان. إن بيان البعثة الأممية الذي يقول «إن الممثلة الخاصة زارت عددا من دول المنطقة بما في ذلك إيران من قبل» إنما هو محاولة لذر الرماد في العيون. هي تريد القول بأنها تساوي بين جميع دول جوار العراق، ولا تميز طهران عنها، لكن لا أحد سمع أنها زارت الرياض أو عمّان أو دمشق أو الكويت أو أنقرة كي تناقش معهم شأنا عراقيا؟ وهل هنالك من تدخل سافر يشبه التدخل الإيراني؟ إذن لماذا طهران؟
إن رئيسة بعثة يونامي جينين بلاسخارت مدعوة للرد على كل هذه التساؤلات، وأن لا تتهرب من الإجابة على تساؤلات العراقيين، ببيان مقتضب يصدر عن مكتبها في بغداد أو بتصريحات غامضة كما اعتدنا منها.

مثنى عبدالله

القدس العربي