تشهد العلاقات الإسرائيلية الأمريكية هذه الأيام تغيرات جذرية على صعيدين: صعيد عمق العلاقة، وصعيد اتجاه تقدمها.
شيء من التاريخ القريب، تنشيطا لذاكرة بعض هواة النسيان، لا يضيرنا:
ـ منذ هزيمة الاستعمار (المباشر، فقط) الأوروبي، ممثلا ببريطانيا وفرنسا، (من شرق السويس، على الأقل) إثر العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، والذي شاركت فيه إسرائيل، نقلت إسرائيل كل بيضها الى السلة الأمريكية، وحصدت من ذلك مكاسب لا تحصى: انتصارها المذهل/المشين، (حسب الزاوية التى ينظر منها كل طرف)؛ مليارات من الدولارات بدفعات سنوية متزايدة ومتواصلة؛ دعم عسكري بلا قيود؛ ضمان وتأمين تفوق عسكري على كل ما في ترسانات جميع الجيوش العربية؛ حماية أمريكية لإسرائيل من المساءلة والعقاب لامتناعها عن تنفيذ أي قرارت من الشرعية الدولية؛ وغير ذلك الكثير.. الكثير.
ـ منذ وصول دونالد ترامب الى الرئاسة الأمريكية، انعكست الآية، حيث وضعت الإدارة الأمريكية كل بيضها، (المخصص لكل العرب والمسلمين، على الأقل) في السلة الإسرائيلية.
ـ إذا كانت «حرب الأيام الستة» قد وسعت الرقعة التي يسيطر عليها جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي الى ما يعادل خمسة اضعاف مساحتها حتى حزيران/يونيو 1967، فإن «حرب السنوات الأربع» (هي فترة ترامب في البيت الأبيض الأمريكي) قد منحت إسرائيل اختراقات (معلنة) غير مسبوقة في العالم العربي: على شواطئ المغرب على المحيط الأطلسي، وعلى شواطئ الخليج العربي الفارسي، بل وعلى شاطئ اضافي في البحر الأحمر ايضاً، وربما (!) في بحر العرب عند سوقطرى، في اليمن الشقيق، الذي كان سعيداً، وصار في ظل محنة الحرب، (فيه وعليه) حزيناً وبائساً، لكن الى حين.
ـ أصابت نتائج «حرب الأيام الستة» إسرائيل بحالة من الهذَيان والّنشوة والسُّكر، وكان الفلسطينيون، ممثَّلين بطلائع الفدائيين من حركة «فتح» في معركة الكرامة، بعد نحو نصف سنة فقط من حرب حزيران/يونيو، (وبدعم مع بعض قطاعات الجيش الاردني) قد هزّ جسد الإسرائيليين ليصحوا من سكرتهم، وتلت ذلك سنوات «حرب الاستنزاف» التي قادها الزعيم العربي جمال عبد الناصر، التي عملت على انقاذ الإسرائيليين من نشوتهم، لكن موشي ديان، رمز حرب يونيو/حزيران في عيون الإسرائيليين، لم يصحُ ولم ينتشِ، بل وأطلق مقولته الشهيرة: «شرم الشيخ بدون سلام، خير من سلام بدون شرم الشيخ». وظلت هذه المعادلة الإسرائيلية سارية الى ان توافقت مصر وسوريا، فانطلقت حرب تشرين الأول/اكتوبر 1973، التي أعادت الاسرائيليين الى صوابهم، مؤقتاً، وبفعل دعم أمريكي عسكري وسياسي وديبلوماسي ونجاح في الاستفراد بمصر، بتقديم الرشوة لها بالانسحاب من شرم الشيخ (وكل سيناء المصرية) .. وتناسي سعسع (وكل قطاع غزة والضفة الفلسطينية، وأراضٍ اردنية، والجولان السوري).
ـ كما في «حرب الأيام الستة» كذلك في «حرب السنوات الأربع» اصيبت إسرائيل بحالة من النشوة والسّكْر والهذَيان، وعمل بنيامين نتنياهو، رمز هذه الحرب، في عيون الإسرائيليين، وفق معادلة «الخليج العربي (او بعضه) مع بعض العرب بدون الفلسطينيين، خير من الفلسطينيين مع العرب او بعضهم (او بدونهم)». ومثل الجولة الأولى التي كان للفلسطينيين فيها سبْق اتخاذ المبادرة والتقدم بالخطوة الاولى، (معركة الكرامة) وقفت منظمة التحرير، بدعم أردني حقيقي، (لا غنىً عنه) وتصدّت وافشلت «صفقة القرن».
لم يلحق أي رئيس حكومة إسرائيلي، أضرارا بإسرائيل، مثل تلك التي ألحقها بها رئيس حكومتها الحالي، بنيامين نتنياهو. حيث أن وزن إسرائيل الذاتي يكاد يكون معدوما
تختلط هنا احداث التاريخ القريب باحداث ايامنا الحالية: من «معركة الكرامة» العسكرية، في آذار/مارس 1968، إثر «حرب الايام الستة» الى «معركة الكرامة» السياسية، خلال وإثر «حرب السنوات الأربع» كان الفلسطينيون رأس الحربة، واذا كانت «الكرامة» (العسكرية) نقطة انطلاق لإعادة الروح الى الوطنية الفلسطينية، فإن الطريق مفتوح امام «الكرامة» السياسية لتجسيد وانجاز المرحلة الاولى من الهدف الفلسطيني الأسمى، وهي مرحلة اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس العربية، على اساس حدود الرابع من حزيران/يونيو.
اسهل الأمور على كاتب او «مفكر عربي» او «مفكر إسلامي» او حتى على «محلل سياسي» او «محلل» غير سياسي، ان يقول: أمريكا هي العدو، لا هي تغيرت في الماضي الذي نعرفه ونذكره في جيلنا، ولن تتغير في جيل ابنائنا.. ولا حتى في جيل احفادنا.
هذا كلام غير صحيح. هذا كلام جميل في قصائد الشعراء. يُطربني سماع شاعر عظيم يقول: «فأمريكا هي الطاعون.. والطاعون أمريكا». ولكن هذا ليس كلاما كافياً من رجل سياسة مسؤول. فالتوصيف من الكاتب والمفكر والمحلل، والتشخيص من الطبيب، حتى عندما يكون كل واحد منهما صحيحاً ودقيقاً، يبقيان مجرد خطوة أولى في تحديد اسلوب التعاطي معهما وتحديد العلاج والدواء. والقول بأنه لم يتغير شيء في جوهر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، هو، إضافة الى كونه غير صحيح، عبارة عن دفع باتجاه تيئيس الفلسطينيين ووضعهم في مواجهة حاجز لا قدرة ولا أمل لهم في تخطيه.
تغيرت أمريكا بشكل جذري قبل أربع سنوات، وعلى امتداد ايامها، وكان هذا التغيير في الاتجاه السلبي بالنسبة لشعبنا الفلسطيني ولأُمتنا العربية، بل وبالنسبة لأمريكا ذاتها.
لم يُلحِق أي عدو لأمريكا في المئة سنة الماضية، على الأقل، ما الحقه ترامب من أضرار بأمريكا، وسمعتها، وحاضرها، واخطر من كل ذلك: بمستقبلها. ويعدّد الكاتب الإسرائيلي المعروف، بن كسبيت، (في جريدة «معاريف»ـ 22.1.2021) بعضاً من تلك الأضرار: «لم يتم تقييد تحركات الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين؛ ازدادت الصين قوة واقتصاداً وانتصرت، ولم ينتصر هو عليها؛ ازداد وزن وحجم زعيم ورئيس كوريا الشمالية، كيم جونغ أُون؛ إيران اقرب اليوم الى القنبلة الذرية مما كانت عليه ايام كان الرئيس الأمريكي، باراك أوباما في البيت الأبيض؛ والكرة الأرضية تواصل تدهورها لابادة نفسها». وانا اضيف: وشعب فلسطين، أضعف شعوب الارض، وضحية آخر نير استعمار في العالم، أفشل «صفقة القرن».
على نفس الوزن، يمكن القول بأنه لم يلحق أي رئيس حكومة إسرائيلي، أضرارا بإسرائيل، مثل تلك التي ألحقها بها رئيس حكومتها الحالي، بنيامين نتنياهو. حيث أن وزن إسرائيل الذاتي يكاد يكون معدوما، فهو، بقواها الذاتية اقرب ما يكون الى الصفر؛ وان كل ما نعانيه من وزنها الإجمالي الحالي والسابق، هو نتاج مباشر لتحالفاتها. وإذا كانت قد تشكلت ككيان سياسي محتل ومستعمر لأرض فلسطين، فان ذلك قد تم نتيجة تحالفها مع بريطانيا اساسا، ثم مع بقية دول أوروبا بغربها وشرقها، مع تركيز على فرنسا وألمانيا (الغربية بداية) حتى منتصف ستينيات القرن الماضي، حين استبدلته بتحالف مع القوة العظمى الأولى في العالم، الولايات/الدول المتحدة الأمريكية، من ذلك التاريخ. وعلى امتداد العقود منذ ذلك التاريخ الى ما قبل بضع سنين، كانت إسرائيل تعيش في نعيم اجماع أمريكي شبه كامل على دعمها ظالمة وظالمة، الى درجة ان الرئيس الإسرائيلي الحالي، رؤوفين ريفلين، اطلق مقولته الشهيرة: على ثلاث قواعد تقوم السياسة الإسرائيلية: الاولى هي التحالف مع أمريكا، والثانية، هي التحالف مع أمريكا، والثالثة ايضاً.. التحالف مع أمريكا.
هذا «الإجماع» الأمريكي الداعم والحامي لإسرائيل، هو الكنز، وهو ترياق الحياة بالنسبة لها، وأنبوب الأكسجين الذي تتنفس من خلاله، بدأ نتنياهو بالتلاعب والاستهتار به، وأضحت إسرائيل بسببه حليفا للمتشددين في الحزب الجمهوري الأمريكي، وبعضا من جيوب في الحزب الديمقراطي، وعلى استحياء.
شهر كامل مضى ونتنياهو يتصبب عرقاً بانتظار اتصال هاتفي من الرئيس الأمريكي من الحزب الديوقراطي، جو بايدن.
هل يعني ذلك انفكاك التحالف الأمريكي الإسرائيلي؟ الجواب: لا، وبكل تأكيد. لكن «ما كان» حتى آخر يوم من ولاية ترامب، «لن يكون» ما بعد انصرافه، مع تلك النهاية المزرية لحقبته السوداء.
عماد شقور
القدس العربي