تشهد الأوساط السياسية التركية، في أيامنا هذه، جدلاً واسعاً على وقع ارتدادات وإرهاصات أثارتها تصريحات مفاجئة أدلى بها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أخيرا، وأعلن فيها أن الوقت قد حان من أجل تغيير دستور البلاد الساري منذ عام 1982 وكتابة دستور جديد، لأن “كل المشكلات التي تعاني منها تركيا منذ 1960 نابعة من الدساتير التي صاغها الانقلابيون”، أي أنها وضعت في أوقات طارئة واستثنائية. لذلك أكد على أن “أعمال صياغة الدستور يجب أن تتم بطريقة شفافة أمام أعين الشعب وبمشاركة جميع ممثليه، وأن الدستور الجديد “سيُبنى على القفزات التاريخية التي حققناها في البلاد”، في إشارة إلى التعديلات الدستورية التي أفضت إلى انتقال تركيا إلى النظام الرئاسي في 2017.
حيثيات
وجاءت تصريحات أردوغان في وقت كانت تدفع فيه أحزاب المعارضة التركية نحو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وتطالب بإلغاء النظام الرئاسي، والعودة إلى النظام البرلماني، على خلفية المتغيرات السياسية والاقتصادية الحاصلة، والحراك السياسي الذي عرفته الأحزاب التركية مع الانشقاقات التي شهدها قطبا “تحالف الشعب”، حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وحليفه حزب الحركة القومية. وشهدها كذلك حزب الشعب الجمهوري المعارض، وأفضت إلى تشكيل أحزاب جديدة، تضم شخصيات سياسية فاعلة في الساحة السياسية التركية التي يبدو أنها تمرّ بمنعطف كبير، قد يترك آثاره على مجمل توازن القوى السياسية في البلاد.
تدفع أحزاب المعارضة التركية نحو إجراء انتخابات رئاسية مبكّرة، وتطالب بإلغاء النظام الرئاسي، والعودة إلى النظام البرلماني
وكان متوقعاً أن تستقبل تصريحات الرئيس إردوغان بتأييد من قادة حزبي “تحالف الشعب” الحاكم، الذين اعتبروا أن تغيير الدستور الحالي ضرورة من أجل البلاد، فيما اعترضت عليها أوساط من أحزاب المعارضة التركية، واعتبرتها محاولةً للالتفاف على مشكلات البلاد، وأحد مظاهر إفلاس النظام الرئاسي. لذلك راح قادة أحزاب المعارضة يركّزون على أن المرحلة الراهنة في تركيا تتطلب “الالتزام بالدستور الحالي أولاً”، و”تغيير العقلية السلطوية”، الساعية إلى “تعزيز نظام الرجل الواحد”.
وبحسب مؤشرات عديدة، فإن تركيا مقبلة على معركة جديدة حول التغيير الدستوري، حيث ستلجأ الحكومة إلى اتخاذ خطوات لازمة في البرلمان بخصوص القضايا التشريعية، وفي أروقة الرئاسة من أجل الأمور الإدارية، وذلك في سياق ما يعتبره الرئيس التركي جزءاً من حملة إصلاحات سبق وأن أعلن عزمه القيام بها أواخر العام الماضي، وتطاول جوانب سياسية واقتصادية وقضائية وغيرها، وتتضمن العمل على إنجاز لوائح لقانون الأحزاب السياسية وقانون الانتخابات. وكلها تتطلب مشاركة أحزاب المعارضة التي تتوجس منها، وتضعها في سياق مناوراتٍ سياسيةٍ من أردوغان، بغية قطع الطريق على محاولاتها الهادفة إلى تغيير خريطة الاصطفافات الحزبية واستمالة الشارع التركي، ومطالبها بالعودة إلى النظام “البرلماني المُحسن”، حيث استقوت المعارضة التركية بالفوز الذي حققته في رئاسة بلدتي أنقرة وإسطنبول في الانتخابات البلدية عام 2019، على حساب خسارة حزب العدالة والتنمية لهما، واعتبرت أوساطها ذلك مؤشّراً على تراجع شعبية الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم، وراحت تدفع باتجاه تبكير الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 2032، ومستندة إلى الصعوبات الاقتصادية التي تمرّ بها تركيا للقول بضرورة العودة إلى رأي الشارع التركي.
تركيا مقبلة على معركة جديدة حول التغيير الدستوري، حيث ستلجأ الحكومة إلى اتخاذ خطوات لازمة في البرلمان بخصوص القضايا التشريعية
يضاف إلى ما تقدم أن أحزاب المعارضة أجرت مشاوراتٍ بينها من أجل طرح اقتراحاتٍ لتعديلاتٍ دستورية، هدفها العودة إلى النظام البرلماني بعد تحسينه، ودعم الديمقراطية والتعدّدية السياسية وحقوق الإنسان وسوى ذلك، الأمر الذي ردّ عليه حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، وحليفه حزب الحركة القومية، بالدعوة إلى تغيير الدستور، وقطع الطريق أمام محاولات المعارضة. لذا لم تكن مصادفة مسارعة رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، إلى تأييد أردوغان “في حاجةٍ إلى دستور جديد”، واعتباره أن “هدف حزب الحركة القومية ومنظوره وفكره يصبون في هذا الاتجاه”، لذلك سيفي حزبه بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه، لإجراء التغييرات الدستورية وفق مبدأ احتضان الجميع وتوحيدهم. أما وزير العدل التركي، عبد الحميد غل، فرأى أن تركيز أردوغان “على الدستور الجديد بشرى سارّة ومهمة بالنسبة لنا جميعاً”، وأن “تنفيذ دستور مدني وديمقراطي جديد هو أحد الأهداف الرئيسية لإصلاحنا القانوني، سيكون الإرث الأهم والأغلى الذي سنتركه لأطفالنا ومستقبلنا”.
وتتركز حيثيات النقاش الجاري في الأوساط التركية حول أبعاد طرح أردوغان موضوع الدستور الجديد وتوقيته، وماهية الخطوات التي سيتخذها في ظل الانقسام الحاصل حيال مختلف المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحول الكيفية التي سيتم وفقها وضع مسودة دستور جديد، وطبيعة المواد التي ينتظر تغييرها أو تعديلها، وأثر التغييرات على تركيبة النظام، وطبيعته، بمعنى هل ستنحو التغييرات باتجاه تعزيز النظام الرئاسي أم تعديل بعض ركائزه؟ حيث ترى المعارضة أن تغيير الدستور غرضه تعزيز هذا النظام والسير باتجاه منح الرئيس مزيدا من الصلاحيات على حساب البرلمان. لذلك عبّر رئيس حزب الشعب الجمهوري (المعارض)، كمال كلجدار أوغلو، عن خشيته من أن يكون تغيير الدستور على حساب الديمقراطية وباتجاه تعزيز السلطوية، وطالب بالالتزام بالدستور الحالي قبل بدء النقاش بشأن الدستور الجديد، مع حاجة تركيا إلى الحياد الرئاسي.
أردوغان لم يفصح عن معالم التغيير المطلوب، والمرجّح أن يستغرق التغيير الدستوري وقتاً طويلاً
ورأى رئيس حزب الديمقراطية والتقدّم، علي باباجان، أن تركيا لا تعاني من مشكلة نظام الإدارة فقط، بل من عقلية الحكام، وأنه بصرف النظر عن تغيير الدستور، فإن على تركيا النجاح في فرض عقلية الفصل بين السلطات، وأنّ الرئيس لا يؤمن باستقلال القضاء، لذلك لا يمكن حل مشكلاتها. وكشف أن أحزاب المعارضة أجرت، أخيرا، اتصالات بشأن ممكنات تعزيز النظام البرلماني، وبما يحقق استقلالية القضاء وحياده، الأمر الذي يفسّر الدعوة إلى تغيير الدستور بمثابة تغيير وجهة النقاش، وردّاً على محاولات المعارضة التركية، فيما تتحدث تقارير إعلام تركية عن احتمال أن يتضمن الدستور الجديد موادّ تسهل إغلاق الأحزاب السياسية التي يثبت تورّطها في الإرهاب والجرائم، وتتضمن كذلك إلغاء نسبة 50 + 1 التي يتعين أن يحصل عليها المرشح للرئاسة للفوز بالانتخابات الرئاسية.
الحراك والآليات
وشهدت الأوساط الحزبية التركية حراكاً مكثفاً في الآونة الأخيرة، تجسّد في زيارات ولقاءات مباشرة بين قادتها، إذ كانت لافتةً الزيارة التي قام بها الرئيس أردوغان للقائد الروحي لحزب السعادة الإسلامي المعارض، أوغوزهان آصيلتورك، في منزله، ودار بعدها حديث عن احتمال إقامة تحالفٍ بين حزب العدالة والتنمية وحزب السعادة، بعد شقاق دام عقدين. وأدرجت تلك الزيارة في سياق سعي الحزب الحاكم إلى فتح قنواتٍ مع أحزابٍ أخرى صغيرة، ومحاولته ضمّها إلى التحالف القائم بهدف توسيعه، لكن بعض أحزاب المعارضة تشترط العودة إلى النظام البرلماني للدخول في تحالفٍ جديد، الأمر الذي يضعف أسس التسوية مع أحزاب المعارضة من أجل تغيير الدستور.
وبالنظر إلى الانقسام الحاصل في المجتمع التركي، فإن مساعي كل من الحزب الحاكم وحلفائه تتركّز على ترسيخ النظام الرئاسي، فيما ترغب المعارضة في استعادة النظام البرلماني، على الرغم من أن الجميع يقرّ بضرورة كتابة دستور مدني جديد لتركيا، تشترك جميع القوى السياسية والمدنية في صياغته، وينهض على أسس التعدّدية والحقوق والحريات الديمقراطية، والتخلص من مواد دستورية عفا عليه الزمن، مثل المادة عن إلزامية ارتداء الأتراك القبعة وسواها.
بقيت تركيا تناقش دساتيرها وتعدلها منذ نحو 140 عاماً، وفشل قادة أحزابها أكثر من مرّة في التوافق على دستور البلاد
غير أن تركيبة البرلمان الحالي لا تمكن تحالف الشعب من تمرير مسودة تغيير الدستور، إذ تتطلب أغلبية الثلثين في البرلمان التركي، أي بحاجة إلى موافقة 400 نائب يمثلون ثلثي المجلس المكون من 600 نائب، كما أنه لا يملك ثلاثة أخماس أعضاء البرلمان، أي 367 مقعداً، اللازمة من أجل طرح المسودة إلى الاستفتاء الشعبي العام لأن مجموع أصوات حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية هي 337 صوتاً فقط، الأمر الذي يطرح أهمية توسيع تحالف الشعب من أجل ذلك.
الإرث الدستوري
وتمتلك تركيا إرثاً واسعاً في الدساتير، لكنها بقيت تناقش دساتيرها وتعدلها منذ نحو 140 عاماً، وفشل قادة أحزابها أكثر من مرّة في التوافق على دستور البلاد، حيث جرت كتابة أول دستور لها عام 1921 كي يشكل منطلقاً لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، وجاء على خلفية انتهاء الحرب العالمية الأولى، وما صاحبها من نهاية عهد الخلافة العثمانية، وحلّ المجلس العثماني في 11 أبريل/ نيسان 1920، وتأسيس أول مجلس شعب وطني في أنقرة في 23 أبريل/ نيسان 1920، الذي وافق في 20 يناير/ كانون الثاني 1921 على الدستور الجديد وعلى إلغاء دستور عام 1876 الذي عُمل به خلال عهد الخلافة العثمانية. وأقرّ دستور 1920 نظام الحكم البرلماني الذي يحقّق وحدة السلطات التشريعية والتنفيذية مع مبدأ السيادة الوطنية.
وفي عام 1924 جرت صياغة دستور جديد بعد تأسيس الجمهورية ونهاية حرب الاستقلال، كي يلبّي متطلبات تركيا الحديثة وتطلعاتها، حيث أقرّ نظام الحكم الجمهوري، واللغة التركية، والعاصمة أنقرة. وبموجبه يتم انتخاب ممثلي الشعب كل أربع سنوات، ويختارون بدورهم رئيس الجمهورية الذي يشكّل مجلس الوزراء. وجرى تعديل دستور عام 1924 سبع مرات، أبرزها عام 1928، حيث جرت إزالة عبارة أن “دين الدولة هو الإسلام”. وفي 1930 جرت إضافة مادة تعطي الحق للمرأة التركية بالترشح والانتخاب. وفي 1937 جرى تحديد هوية الدولة التركية بوصفها دولة علمانية. ومع انقلاب 1960، جرى إلغاؤه في 27 مايو/ أيار من العام نفسه، واستعيض عنه بدستور جديد في 9 يوليو/ تموز 1961، الذي أقرّ الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتبنّى التعدّدية الحزبية والديمقراطية، وإنشاء المحكمة الدستورية، مع التأكيد على استقلالية القضاء.
جاء الانقلاب العسكري في 12 سبتمبر 1980، كي يوقف العمل بدستور 1961، ويضع دستوراً جديداً دخل حيّز التنفيذ في 18 أكتوبر 1982.
وجاء الانقلاب العسكري في 12 سبتمبر/ أيلول 1980، كي يوقف العمل بدستور 1961، ويضع دستوراً جديداً دخل حيّز التنفيذ في 18 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1982. وتكوّن هذا الدستور من سبعة أقسام و155 مادة أساسية، بالإضافة إلى 21 مادة مؤقتة، ويمنع بشكل قطعي أي تعديل أو اقتراح على المواد الأربع الأولى من الدستور التي تتضمن الأسس العامة للدولة التركية.
آفاق وممكنات
وتعتبر أحزاب المعارضة، ومعها حزب الحركة القومية، المواد الأربع الأولى في الدستور التركي الحالي خطا أحمر في مسودة أي دستور جديد، حيث تنصّ الأولى على أن تركيا دولة جمهورية، فيما تحدّد الثانية سمات الجمهورية التركية أنها ديمقراطية علمانية اجتماعية، تقوم على سيادة القانون؛ في حدود مفاهيم السلم والعلم والتضامن الوطني والعدالة، مع احترام حقوق الإنسان، والولاء لقومية أتاتورك. وتخص المادة الثالثة سلامة أراضي الدولة واللغة الرسمية والعلَم والنشيد الوطني والعاصمة أنقرة، فيما تنص الرابعة على عدم جواز أي تغيير أو تعديل للمواد الثلاث الأولى في الدستور.
ستتوقف التغييرات الدستورية، بشكل كبير، على ممكنات إعادة رسم خريطة التحالفات السياسية
ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا قبل 15 عاماً، بقي قادته يؤكّدون على ضرورة تغيير دستور1982، الذي تعرّض إلى 19 تعديلاً فيه، تسع منها من حزب العدالة والتنمية، طالت أكثر من ثلثي موادّه، وأجريت في فترات متعدّدة، أهمها في عامي 2007 و2010، التي أبعدت العسكر عن الحياة المدنية والسياسية، ثم التعديلات الدستورية الواسعة التي طالت جوهر الدستور، وأفضت إلى تغيير نظام الحكم من برلماني إلى نظام رئاسي في عام 2017.
وعلى الرغم من أن دستور 1982 تعرّض لتعديلات وتغييرات كثيرة، فقد معها معظم موادّه وأسسه، وتغيرت معالمه، إلا أن معركة تغييره مستمرة، لكنها لن تكون سهلة في ظل الاستقطاب السياسي والاجتماعي الحاد الذي تعرفه تركيا، خصوصا أن أردوغان لم يفصح عن معالم التغيير المطلوب، وبالتالي من المرجّح أن يستغرق التغيير الدستوري وقتاً طويلاً، فضلاً عن ممكنات المناورات السياسية والحسابات الحزبية، تحضيراً للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع إجراؤها في عام 2023، وذلك في ظل المتغيرات والتحولات المتسارعة في الأحزاب التركية التي شهدت انشقاقات وبروز أحزاب جديدة على الخريطة الحزبية. لذا ستتوقف التغييرات الدستورية، بشكل كبير، على ممكنات إعادة رسم خريطة التحالفات السياسية.
عمر كوش
العربي الجديد