بعد 47 عاما هل هناك أفق لخيار الدولة الفلسطينية المستقلة؟

بعد 47 عاما هل هناك أفق لخيار الدولة الفلسطينية المستقلة؟

في نقاش القادة أو المنظّرين أو المحلّلين السياسيين الفلسطينيين لما يرونه من حلول مستقبلية لقضية الشعب الفلسطيني وصراعه ضد إسرائيل، تغيب العديد من المسائل في أغلب الأحوال، إذ يبدو ذلك النقاش أكثر شبها بمونولوج، أي كمناجاة داخلية، أو يأتي كتعبير عن حالة رغبوية وعن تصوّر متخيّل. هذا يشمل ما يعرف بـ”حل الدولتين”، أو بشكل أدقّ حل الدولة الفلسطينية المستقلة في 22 في المئة من أرض فلسطين التاريخية، بكل تعبيراته أو تجلياته (دولة مستقلة أو كونفدرالية أو فدرالية)، كما يشمل ذلك حلّ الدولة الواحدة أو دولة المواطنين المتساوين أو ثنائية “القومية”، وذلك بمعزل عن المفاضلة بينهما على أي صعيد سياسي أو حقوقي أو قيمي أو على صعيدي المشروعية والإمكانية.

الجدال هنا يتمحور حول خيار حلّ الدولة المستقلة، الذي يطيب لدعاته أو منظريه ادعاء أنه أكثر واقعية من أي خيارات أخرى، علما أن القيادة الفلسطينية اعتمدته منذ 47 عاما (1974)، إلا أنه لم ير النور، وهذا ينطبق على الحل الأقل منه، أي اتفاق أوسلو (1993)، الذي بات له 28 عاما. والمعنى، إن العناد المتمثّل بالتشبّث بهذا الحلّ كخيار وحيد وحصري كان يمكن تفهّمه في السنوات الأولى لطرحه، أما بعد قرابة نصف قرن، لاسيما بعد الدخول في تجربته، فلم يعد مقبولا ولا مفهوما مثل ذلك، يزعم الواقعية، على رغم أن الواقع نفسه نفاه طوال قرابة خمسة عقود جملة وتفصيلا.

إسرائيل، كما بينت التجربة، تتعاطى مع الفلسطينيين ومع أرض فلسطين كوحدة واحدة، وإن بسياسات مختلفة شكلا، والمشكلة أن ذلك انطلى على الفلسطينيين

ليس الغرض من الاستنتاج السابق الإيحاء أن ثمة حلولا أكثر واقعية أو أقرب للإمكانية من حل الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، لا تحرير فلسطين، ولا دولة واحدة بكل تعبيراتها، وإنما المقصد التأكيد على:

أولا، أن الحديث اليقيني عن شكل دولتي لحل القضية الفلسطينية والاختلاف عليه لم يحن أوانه بعد.

وثانيا، إن الفلسطينيين لم يبلغوا بأوضاعهم وإمكانياتهم وقدراتهم والمعطيات المحيطة بهم حد فرض أي خيار، وتاليا فهم لا يملكون ترف المفاضلة بين خيار وآخر، ناهيك عن الاختلاف من حوله.

ثالثا، تبعا للمعطيين السابقين، وكما ثبت بالتجربة، فإن خيار الدولة المستقلة ليس له من الحظ أكثر من غيره من الخيارات، لذا ليس من الصواب على أي صعيد وضع خيار مقابل آخر.

رابعا، كل ما تقدم لا يلغي حقّ أيّ كان في تصور أو اقتراح ما يرى أنه الأفضل والأنسب للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لكن المشكلة في النقاشات السائدة اعتقاد أصحابها أنها قابلة للتحقق في المدى المنظور، وتعاطيهم معها كأنها نظريات أيديولوجية وكحقائق مطلقة تستحق الانقسام حولها (مع أو ضد).

خامسا، الفكرة هنا، إنه بدل المجادلات النظرية، الأجدى التركيز على بناء البيت، فهذا ما يفتقده الفلسطينيون الذين باتوا في حيرة من أمرهم من دون كيان جامع ورؤية وطنية جامعة، وهي الفكرة التي حاول “ملتقى فلسطين”، الذي يضم فلسطينيين من كل أماكن وجود شعب فلسطين، طرحها كبديل عوض التركيز على شكل الحل الدولتي بالتركيز على التطابق بين الشعب والأرض والقضية والرواية التاريخية، والصراع على الأرض كلها والحقوق كلها لكل شعب فلسطين.

فوق كل ما تقدم، ثمة مسائل أو معطيات مهمة يتناساها هؤلاء القادة والمنظرين والمحللين في غمرة حماسهم لهذا أو ذاك الخيار، يمكن إيجازها في الآتي:

فكرة سعيد زيداني في شأن “دولتان في وطن واحد” منمقة ومكتوبة بعناية
فكرة سعيد زيداني في شأن “دولتان في وطن واحد” منمقة ومكتوبة بعناية
أولا، ضعف الفلسطينيين من كل النواحي، لاسيما إدارتهم لأنفسهم واستثمار مواردهم ونضالهم وتضحياتهم وضعف المعطيات العربية والدولية المساندة لهم، مع ملاحظة أن أي حل يطرح في الظروف الراهنة لا يأخذ في اعتباره كل ذلك، بقدر ما يستند إلى أوهام أو إلى عملية تفاوضية أو لشرعية دولية لم تثبت صدقيتها يوما في الشأن الفلسطيني.

ثانيا، رفض إسرائيل أي حل يتجاوب مع حقوق الفلسطينيين، من أي مستوى، وضمن ذلك حق تقرير المصير أو إقامة دولة مستقلة في الأراضي المحتلة (1967)، أو عودة اللاجئين، كما رفض الحقوق الفردية والجمعية والمواطنة المتساوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين في إسرائيل ذاتها.

ثالثا، شعور إسرائيل بفائض قوة باستنادها إلى معطيات خارجية مواتية، لاسيما الدعم الأميركي لسياساتها، علما أن القوى الكبرى في العالم والتي كان الفلسطينيون يعولون عليها في ما مضى باتت اليوم أقرب لإسرائيل، وهذا ينطبق على الصين وروسيا والهند.

رابعا، إن الحركة الوطنية الفلسطينية انطلقت قبل احتلال الضفة والقطاع (1967)، وهي لم تطرح حينها إقامة دولة في تلك المناطق التي لم تكن خاضعة لإسرائيل، الأمر الذي أدى إلى تشوّش إدراكات الفلسطينيين لقضيتهم ولذاتهم ولكونهم شعبا.

خامسا، إن إسرائيل لم تصبح دولة استعمارية واستيطانية وعنصرية بسبب احتلالها الضفة والقطاع وإنما تلك هي طبيعتها منذ قيامها كوريث أو كتتويج للحركة الصهيونية، وتلك لم تنشأ نتيجة المظلومية الناجمة عن “الهولوكست” إذ أنها نشأت قبل ذلك.

سادسا، لم ينشأ المجتمع اليهودي نتيجة تطور تاريخي وطبيعي في فلسطين، وإنما هو نشأ وتطور بفضل الهجرة والاستيطان ودعم الدول الكبرى، لاسيما أن تلك الدولة قامت على هامش المشاريع الاستعمارية إزاء المنطقة العربية.

سابعا، تبعا للنقاط السابقة، فإن إسرائيل، كما بينت التجربة، تتعاطى مع الفلسطينيين ومع أرض فلسطين كوحدة واحدة، وإن بسياسات مختلفة شكلا، والمشكلة أن ذلك انطلى على الفلسطينيين الذين باتوا يكيفون أوضاعهم تبعا لذلك، بدعوى الواقعية حينا واختلاف الظروف حينا آخر، لاسيما مع وصول حركتهم الوطنية إلى سقفها في أواسط السبعينات، وبحكم إخفاقها عن تجديد بناها ومفاهيمها وطرق عملها، ما يفسّر عقد اتفاق أوسلو.

ثامنا، أن أي حل يفترض أن يتأسس على الحقيقة والعدالة (ولو النسبية)، ما يفرض تجنب أي خيار يقوم على تجزئة الشعب وتفكيك القضية وإزاحة الرواية التاريخية، وهو ما فعله خيار الدولة الفلسطينية بالطريقة التي طرح فيها، وبشكل تمثله بعد اتفاق أوسلو، لأن هكذا خيارا لن يلبي أي حق من حقوق الشعب الفلسطيني بقدر ما يستهدف تجويف القضية الفلسطينية وتحويل حركتها الوطنية إلى مجرد سلطة على شعبها تحت سلطة الاحتلال.

تاسعا، لا شك أن موازين القوى والمعطيات الدولية تعاند الحق الفلسطيني، لكن من الذي قال إن تلك الموازين أو المعطيات أبدية؟ وهل أن وضع إسرائيل أقوى من وضع كل الممالك الأوروبية (في حقبة الحروب الصليبية) التي أقامت عدة دويلات لها في المنطقة مثلا؟

مناسبة هذا الكلام ما يروّج له بعض قياديي المنظمة والسلطة و”فتح” من أن كيان السلطة أضحى دولة، ولكن تحت الاحتلال، وتمت ترجمة ذلك بأن الانتخابات المزمع إجراؤها ستتم للمجلس التشريعي للدولة الفلسطينية (ثم لرئيس دولة فلسطين) وليس للسلطة، وكأن مجرد إصدار مرسوم بذلك يجعل الأمر حقيقة واقعة، وهو وهم آخر ناجم عن أوهام أوسلو الكثيرة والكارثية.

ومناسبة هذا الكلام ما يتعلق أيضا بحديث البعض عن كونفدرالية فلسطينية ـ إسرائيلية، علما أن هكذا طرحا كان طرحه في الثمانينات خالد الحسن (أبوالسعيد) وهو واحد من أهم قياديي “فتح” وفي ما بعد بات واحدا من أهم نقاد اتفاق أوسلو، وهو طرح مستعجل ولا يرى ما تريده إسرائيل ولا الواقع الفلسطيني. وفي الغضون برزت مؤخرا فكرة سعيد زيداني (أستاذ الفلسفة في جامعة القدس) في شأن “دولتان في وطن واحد”، وهي فكرة منمقة ومكتوبة بعناية، بيد أنها تنتمي إلى الأرومة ذاته الخيار الدولة في الضفة والقطاع، وتنطبق عليها ذات الحسابات.

العناد المتمثّل بالتشبّث بهذا الحلّ كخيار وحيد وحصري كان يمكن تفهّمه في السنوات الأولى لطرحه، أما بعد قرابة نصف قرن، لاسيما بعد الدخول في تجربته، فلم يعد مقبولا ولا مفهوما مثل ذلك

يقدم زيداني ما يرى أنه تفسير “مبدع” لحل الدولتين النموذج “المتجاورتين بأمن وسلام”، ليقرر “ليس صحيحا بأن حل الدولتين قد هوى ومات.. حل الدولتين النموذج مازال حيا ومازال يتناسل.. للمستقبل المنظور.. لا يعني أن الحل وشيك أو أكيد، وإن كان يعني أنه سيظل ‘اللعبة الوحيدة في المدينة للمستقبل المنظور’”.

لكن زيداني لا يقول كم 47 سنة أخرى يجب أن ننتظر كي يقرّر غير ذلك! كما لا يقول لماذا لم يجد الحل الذي يطرحه النور، وحتى أن مبادرة القمة العربية (بيروت 2002) لم تر النور رغم كل التشجيعات فيها لإسرائيل؟ وفي محاولته تأكيد وجهة نظره يذهب زيداني إلى ذات العوامل التي تنبذ أي حل لقضية فلسطين، إسرائيليا ودوليا، بحكم غياب “الضغط الدولي بالقدر اللازم أو الكافي، التحول في المجتمع اليهودي في إسرائيل باتجاه المصالحة مع الفلسطينيين، والنضال الفلسطيني الجدي والمؤثر”. وهو محق في ذلك، لكنه مع هذه النتيجة يعود لاعتبار أن “حل الدولتين النموذج، المنصف والقابل للتحقيق في الظروف المواتية هو شكل من أشكال الكونفدرالية، أي شكل دولتين متجاورتين بأمن وسلام”، ولا أحد يعرف كيف يرى إمكانية تحقيق ذلك مع غياب العوامل التي ذكرها، علما أنها عوامل يمكن أن تؤيد أو يمكن أن تفضي إلى أي حل من نوع آخر؟

ختاما يعجبني تأكيد زيداني على أهمية “الفكر/ الخطاب السياسي النقدي الذي يقوم على دراسة معطيات الواقع المعيش وتحليلها، بمركباته وتعقيداته وتناقضاته المختلفة، بمواطن قوته وضعفه والقوى الفاعلة والمتصارعة فيه، ومن ثم استكناه اتجاهات تطوّره وآفاق تغييره”. وحقا “ما أحوجنا، نحن الفلسطينيين، إلى مثل هذا الفكر/ الخطاب السياسي النقدي هذه الأيام”!

ماجد كيالي

العرب