تسعى الإدارة الأميركية الجديدة إلى تكريس الفصل بين مجمل الملف الإيراني وما يقع من عمليات الاستهداف للمراكز الأميركية في العراق. فعلى مستوى هذا السياق الأخير، لم تتردد إدارة جو بايدن في إظهار الاستعداد لتوجيه ضربات للميليشيات المدعومة من طهران والمتواجدة في شرق سوريا. وقال السفير دينيس روس، الديبلوماسي المخضرم والزميل المتميز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، معقبا على الضربات الأخيرة التي وجهها الأميركيون، إن إدارة بايدن “فهمت أنه يتعين تدفيع الثمن للميليشيات من خلال توجيه ضربات جوية عسكرية ضد منشآت تابعة لها”. وأردف روس قائلا “كانت الضربة الأخيرة محدودة، لكنها أظهرت أننا سنستخدم القوة ومن الواضح أنه يمكننا فعل المزيد. سنرى ما إذا كان الإيرانيون قد فهموا الرسالة”. ومعلوم أن الهجمات الأميركية الأخيرة ضد الميليشيات الإيرانية كانت ردا على الهجمات الصاروخية ضد أهداف أميركية في العراق.
المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي قال في بيان إن القوات الجوية الأميركية، وبتوجيه من الرئيس بايدن، مساء الثلاثاء الماضي، شنت غارات جوية على البنية التحتية التي تستخدمها الجماعات المسلحة المدعومة من إيران في شرق سوريا. ومضى يقول إن “الرئيس بايدن سيعمل على حماية الأفراد الأميركيين وقوات التحالف، وفي الوقت الذي يتصرف فيه بطريقة متعمدة تهدف إلى تهدئة الوضع العام في كل من شرق سوريا والعراق”.
الإسرائيليون، على الرغم من كونهم غير معنيين بإسقاط النظام في دمشق، ليسوا مضطرين للوقوف مكتوفي الأيدي أمام التواجد الإيراني في سوريا
وكانت تلك الضربات قد دمرت عدة منشآت عند نقطة مراقبة حدودية يستخدمها عدد من الجماعات المسلحة المدعومة من إيران، بما في ذلك كتائب “حزب الله” وكتائب “سيد الشهداء”. وقد جاءت الضربات، حسب دينيس روس، بطريقة من شأنها ضبط ردود الأفعال “السلبية” في العراق على رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي. وتعمدت إدارة بايدن أن تكون الضربات على الجانب السوري من الحدود العراقية السورية، لكي تكون صيغة الرسالة أن الأميركيين سوف يردون بسرعة كلما جرى استهداف المراكز الأميركية في العراق بالصواريخ، والتأكيد في كل مرة أنهم سيستخدمون المزيد من القوة.
وفي هذا الإطار بدا أن الإدارة الأميركية عازمة على اتباع أسلوب الجراحة الموضعية المحدودة في التعاطي مع الهجمات الموحى بها إيرانيا في الأراضي العراقية، وهذا ما عبّر عنه صراحة جوناثان شانزر نائب رئيس مركز أبحاث FDD في واشنطن، الذي أكد أن إدارة بايدن تتجنب تصعيد التوترات في العراق لتحاشي “اندلاع حريق أوسع، واعتماد تكتيك الضربات الرمزية”.
معنى ذلك أن الأميركيين عازمون على الدخول في لعبة شد الحبل مع إيران من خلال ردود عسكرية محدودة ضد وكلائها في سوريا، وهذا ما تضطر إليه إدارة بايدن في هذه الفترة المبكرة من عملها، وتراه أفضل من عدم الرد على الهجمات التي يتعرض لها الأميركيون في العراق. فالرسالة التي تريد إدارة بايدن توجيهها للإيرانيين أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام “الاستفزازات” وأن باب التصعيد مفتوح بموجب حسابات أميركية بحتة غير موصولة بعوامل أخرى أو بدول أخرى كالسعودية. فقد كان لافتا أن ضربات الأربعاء ضد الميليشيات التابعة لإيران جاءت، من حيث التوقيت، موازية لنشر “تقرير خاشقجي” وقد اختصر شانزر الأمر بقوله “تم استفزاز الولايات المتحدة، فردت” وأضاف “من المشكوك فيه أن تكون السعودية عاملا مهما في قرار الضربة”.
ذلك لا ينفي أن المملكة العربية السعودية وحلفاءها يرتقبون الأحداث، بل لعلهم مطمئنون إلى كون الأجندة الإيرانية في المنطقة من شأنها الحفاظ على توتر العلاقة بين طهران وواشنطن مهما حاولت الإدارة الأميركية الجديدة تهدئة هذا التوتر. وبينما لا تزال إيران في مرحلة اختبار سلوك الإدارة الجديدة، على الرغم من إشارات واشنطن الدالة على بدء دبلوماسية أخرى نووية، فإن إدارة بايدن في الوقت نفسه ستظل معنية باستراتيجية عمل فعالة على مستوى الملف الإيراني برمّته.
فالاختبار الذي تواجهه هو الذي سيحكم على موقفها ويحدد ما إذا كانت مذعورة ليست عندها بدائل أو مستعدة لأن تتبنى نهجا أكثر تشددا!
غير أن ما يسهل مهمة بايدن، كون الإسرائيليين يستمرون في توجيه الضربات للإيرانيين، في سياقهم الخاص الموصول بتثبيت السياسات الخليجية الجديدة حيال تل أبيب. وبحكم عامل الترابط بين الإستراتيجيتين الأميركية والإسرائيلية، فإن الثانية تنوب عن الأولى على صعيد النشاط العسكري في سوريا. وعلى الرغم من ذلك، فأغلب الظن أن التهدئة بين واشنطن وطهران، وحتى في حال وصولها إلى تهدئة في العراق، لن تؤدي موضوعيا إلى وقف الهجمات الإسرائيلية ضد الميليشيات الإيرانية في سوريا.
القوات الجوية الأميركية، وبتوجيه من الرئيس بايدن شنت غارات جوية على البنية التحتية التي تستخدمها الجماعات المسلحة المدعومة من إيران في شرق سوريا
الإسرائيليون، على الرغم من كونهم غير معنيين بإسقاط النظام في دمشق، ليسوا مضطرين للوقوف مكتوفي الأيدي أمام التواجد الإيراني في سوريا. ولا يرون في الدور الإيراني في سوريا، تحديدا، عاملا إيجابيا يتناغم مع رغبتهم في بقاء النظام. ذلك لأن حسابات الإسرائيليين الإستراتيجية على مستوى الإقليم اقتضت منهم الاستمرار في استهداف الإيرانيين، وجعل تواجدهم في سوريا نقطة ضعفهم وثغرة لاستنزافهم، على النحو الذي يقرّب السعودية من إسرائيل أو من المجاهرة بالعلاقة معها. ففي المشرق العربي تتقاطع الإستراتيجيات وتتفرع وتتعمد إسرائيل المحافظة على مسار محدد ليس بالضرورة موازيا للسياق الأميركي في التفصيلات.
الأميركيون يريدون تهدئة مع إيران ويريدون إعادة الاتفاق النووي إلى وضعه السابق، أما الإسرائيليون فشأنهم مختلف، يتمثل في الإصرار على المجابهة واستغلال الثغرة الإيرانية في سوريا بذريعة الحفاظ على أمنهم.
عدلي صادق
العرب