بعد إصرارها على عدم احتياجها إلى دور واضح المعالم في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، تحاول نائبة الرئيس كامالا هاريس الآن، اقتناص مكانة لها في السياسة الخارجية الأميركية بتشجيع من الرئيس الذي يحثها على التواصل مع القادة الأجانب وتطوير علاقتها الخاصة مع شركاء الولايات المتحدة، لكن خبرة هاريس القانونية وتركيزها على القضايا المحلية تجعلها في حاجة إلى مزيد من المعرفة في حقل السياسة الخارجية بسرعة، خصوصاً أن بايدن قد لا يترشح لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة التي سيتجاوز عمره حينها 82 عاماً، فما هي دوافع بايدن للإسراع بتأهيل هاريس في ملف السياسة الخارجية؟ وما الذي تستطيع أن تضيفه من واقع خبراتها وخلفيتها الثقافية التعددية؟ وإلى أي مدى سيختلف هذا عن الأدوار التقليدية لنواب الرؤساء في التاريخ الأميركي؟
فارق خبرة
في العشرين من يناير (كانون الثاني) الماضي، دخلت كامالا هاريس التاريخ من أبواب عدة، فقد أصبحت أول امرأة وأول شخص من أصل أفريقي وجنوب آسيوي يتبوأ مقعد نائب الرئيس في الولايات المتحدة، وهي إنجازات مهمة في حد ذاتها، ومع ذلك فإن منصب نائب الرئيس الأميركي ظل تقليدياً منصباً ثانوياً بلا أهمية كبيرة، على الرغم من زيادة تأثيره خلال السنوات الأخيرة، غير أن الرئيس الأميركي يريد أن يدخل معها التاريخ بمنحها دوراً أكبر في السياسة الخارجية الأميركية، وهو دور مارسه بايدن نفسه في إطار حدود معينة، حينما كان نائباً للرئيس باراك أوباما.
لكن المشكلة التي تواجههما تتمثل في نقص المعرفة والخبرة لدى هاريس في حقل السياسة الخارجية، فبالمقارنة مع شاغل المكتب البيضاوي الحالي، جاءت هاريس إلى منصب نائب الرئيس كمبتدئة في عالم السياسة الخارجية، في حين أن بايدن طور علاقاته مع عديد من القادة الأجانب على مدى عقود في واشنطن منذ أن كان رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، وانتهاء بتوليه منصب نائب الرئيس في عهد أوباما، ما ساعده في التنقل بسهولة إلى أكثر من 50 دولة على مدى ثماني سنوات، بينما أمضت هاريس الجزء الأكبر من حياتها المهنية كمدع عام في كاليفورنيا، وحتى في أثناء عضويتها في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ خلال السنوات الأربع الماضية، لم تكن قضايا الشؤون الخارجية محط تركيز رئيس سواء خلال وجودها في واشنطن أو أثناء حملتها الرئاسية.
أسباب بايدن
لهذا يريد بايدن من هاريس تأهيل نفسها بسرعة للعب دور في السياسة الخارجية، وقد طالبها بالتواصل مع القادة الأجانب مباشرة، وتطوير علاقتها الخاصة مع شركاء الولايات المتحدة الرئيسين، وهو ما بدأته بالفعل، فقد تواصلت مع المدير العام لمنظمة الصحة العالمية لمناقشة دور الولايات المتحدة في الاستجابة العالمية لمرض “كوفيد-19″، وأجرت مكالمات مع جاستين ترودو رئيس الوزراء الكندي وإيمانويل ماكرون رئيس فرنسا، كما ألقت خطاباً في وزارة الخارجية وشاركت الثلاثاء الماضي في أول اجتماع ثنائي للإدارة الجديدة بين الولايات المتحدة وكندا.
ولعل أحد الأسباب المهمة التي تدفع بايدن إلى تشجيع هاريس على ممارسة هذا الدور، هو أنها تعد الوريث الواضح لزعامة الحزب الديمقراطي، إذا لم يترشح بايدن البالغ من العمر الآن 78 عاماً، لدورة حكم ثانية عام 2024، ما يجعل هاريس التي تمثل مستقبل الحزب من حيث كونها امرأة متعددة الأعراق، في وضع صعب إذا لم تبدأ من الآن في زيادة خبرتها وبلورة رؤى سياسة بسرعة في عالم السياسة الخارجية، ذلك أن الفوز في انتخابات الرئاسة، يتطلب أن تُظهر هاريس معرفة ومهارة، ومستوى عال من الثقة في مجال الأمن الوطني على وجه الخصوص.
ويعتبر عدد من المراقبين في واشنطن أن الرئيس سوف يمنح هاريس فرصاً من أجل ممارسة السلطة، لأنه لا يرى نائبته كمنافس ولذا يبحث في كيفية تفويضها وتوجيهها لممارسة دور تنفيذي في السياسة الخارجية.
طبيعة الدور
وعلى الرغم من اعتراف عدد من الخبراء بالنقص المعرفي لدى هاريس عن المسرح العالمي، فإنها تتمتع بفريق من المستشارين المخضرمين في هذا المجال، كما التقت وزير الخارجية أنتوني بلينكن، بينما أوضح مسؤولون في البيت الأبيض لشبكة “سي بي أس” أن هاريس ستركز في المرحلة الأولى في الأقل، على إصلاح الشراكة مع الحلفاء في قضايا محددة مثل الأمن السيبراني والصحة العالمية، وهي قضايا يعود الاهتمام بها إلى خلفياتها منذ أن كانت سيناتوراً في ولاية كاليفورنيا وتجربتها كعضو في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، كما يشير مقربون إلى اهتمامها أيضاً بتقنيات تكنولوجيا الجيل الخامس من الاتصالات ذات النطاق العريض، فضلاً عن قضايا أخرى مثل صحة الأم والأطفال وانعدام الأمن الغذائي والمائي.
وحتى من دون خبرة واسعة، تمتلك هاريس، حسب عدد ممن عملوا معها، الأدوات المناسبة للتعلم أثناء العمل، مثلما فعلت عندما كانت عضوة في مجلس الشيوخ حيث ركزت على قضايا السياسة الداخلية والأمن القومي، وكانت مدفوعة بالقيم والسياسات المبدئية التي ترتبط بالساحة الدولية، فقد سافرت إلى إسرائيل عام 2017، وأبدت التزامها العميق العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بالإضافة إلى دورها النشط في لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ، حيث حققت في قضية التدخل الروسي في انتخابات عام 2016.
وعلى الرغم من أن فترة عمل هاريس في اللجنة وفرت لها نظرة ثاقبة عن وكالات الاستخبارات الأميركية وطبيعة التهديدات الماثلة من كل أنحاء العالم، فإنها لا تساعد عضواً في مجلس الشيوخ على تطوير علاقات مع قادة أجانب أو دراسة ملف ما على المسرح الدولي، وهما أداتان لا غنى عنهما في العلاقات الخارجية.
ومن الواضح أن بايدن يعمل على تغيير ذلك ومنح هاريس فرصة للانخراط بشكل أعمق في السياسة الخارجية كدليل على الشراكة المتكافئة بينهما، فضلاً عن رغبته في تطوير أوراق اعتمادها في السياسة الخارجية بما يوفر لها ميزة في التوجه نحو انتخابات 2024 أو 2028 مستقبلاً.
فرصة غير مسبوقة
لا شك أن بايدن بهذه الطريقة يمنح هاريس فرصة ذهبية لم يمنحها رئيس لنائبه من قبل طوال التاريخ الأميركي، بخاصة أن الدستور لم يتضمن دوراً لنائب الرئيس إلا في مرات قليلة، إذ تنص المادة الأولى، القسم 3 منها على أن نائب الرئيس يكون رئيساً لمجلس الشيوخ، ولكن من دون أن يكون له حق التصويت إلا في حالة واحدة فقط هي تعادل الأصوات في المجلس كما هي الحال الآن.
وتشرح بداية المادة الثانية من الدستور في القسم 1 كيفية انتخاب نائب الرئيس، وأن سلطة الرئيس تؤول إلى نائب الرئيس في حال وفاة الرئيس أو استقالته أو عدم قدرته على أداء سلطات وواجبات منصبه المحددة في الدستور، كما ينص القسم 4 من المادة نفسها على أنه يمكن عزل نائب الرئيس مثل الرؤساء في حال توجيه الاتهام والإدانة بالخيانة أو الرشوة أو غيرها من الجرائم والجنح الكبرى.
ولذلك، فإنه بخلاف الابتعاد من المشاكل لتجنب المساءلة والانتظار حتى يحتاج الرئيس إلى بديل، فإن نائبه مُلزم فقط التصويت في حال تعادل الأصوات في مجلس الشيوخ كما تفعل كمالا هاريس حالياً، وهو أمر سينتهي على الأرجح بعدما تفرز انتخابات التجديد النصفي توازنات جديدة في المجلس بدءاً من يناير 2023، وهذا يعني أن الغالبية العظمى من نواب الرئيس في التاريخ الأميركي لم يكن لديهم عمل حقيقي يقومون به وفقاً لصلاحياتهم المحددة في الدستور.
وعلى الرغم من إدراك معظم الرؤساء هامشية دور نائب الرئيس، إلا أن وارن هاردينغ الذي تولى منصبه بعد وودرو ويلسون عقب الحرب العالمية الأولى، كانت لديه آراء غير تقليدية حول أهمية دور نائب الرئيس، إذ كان يعتقد أنه يجب أن يكون أكثر من مجرد بديل في الانتظار، وطالب في مرحلة لاحقة نائبه كالفين كوليدج، المشاركة بشكل منتظم للمرة الأولى في التاريخ في اجتماعات مجلس الوزراء.
وحينما توفي هاردينغ بأزمة قلبية عام 1923، خلفه كوليدج كرئيس واعترف حينها أن مشاركته في مجلس الوزراء كنائب للرئيس، أفادته كثيراً عندما أصبح رئيساً.
وبعد هاردينغ وكوليدج، عاد معظم الرؤساء اللاحقين، إلى تقليد إبقاء نواب الرئيس بعيداً من المشهد حتى في الأمور الحيوية المهمة، فعلى سبيل المثال أبقى الرئيس فرانكلين روزفلت القنبلة الذرية سراً عن نائبه هاري ترومان الذي لم يكتشفها إلا بعدما توفي روزفلت، كما أن الرئيس دوايت آيزنهاور كان سبباً في خسارة نائبه ريتشارد نيكسون في انتخابات عام 1960 ضد جون كيندي لأنه طالب الصحافيين إمهاله أسبوعاً حتى يتذكر شيئاً مهماً فعله نيكسون خلال رئاسة آيزنهاور.
صاحب المشورة
غير أن والتر مونديل نائب الرئيس جيمي كارتر عام 1976، كان أول من رسخ فكرة أن نائب الرئيس يجب أن يقدم مشورة محايدة وتحليلاً مستقلاً بعيداً مما يريد الرئيس سماعه، وهو ما وافق عليه كارتر لاحقاً وجعل مونديل جزءاً من دائرته الداخلية.
ومنذ ذلك الحين، قدم بعض نواب الرئيس وجهات نظر لا تتماشى مع وجهة نظر الرئيس، فعلى سبيل المثال اختلف الرئيس بيل كلينتون مع نائبه آل جور حول مقدار القوة والنفوذ الموكلين للسيدة الأولى هيلاري كلينتون، كما اختلفا حول طريقة التعامل مع فضيحة مونيكا لوينسكي، واختلف الرئيس جورج دبليو بوش مع نائبه ديك تشيني في بعض الأحيان حول العراق فضلاً عن استخدام أو عدم استخدام العفو الرئاسي، وفي المقابل، أثبت مايك بنس أنه حليف مخلص لرئيسه دونالد ترمب ولم يختلف معه إلا في الأيام الأخيرة من الحكم.
آخر صوت في الغرفة
وعندما وافق جو بايدن على أن يكون نائباً للرئيس باراك أوباما قبل الانتخابات، قال إنه يريد أن يكون “آخر رجل في الغرفة” عندما تُتخذ قرارات مهمة، حتى يتمكن من إعطاء أوباما رأيه الصريح من دون مواربة أو مجاملة، وعندما اختار بايدن هاريس لمنصب نائب الرئيس، قال إنه طلب منها أن تكون آخر صوت في الغرفة، حتى يكون بوسعها أن تسأل الأسئلة الصعبة، وتتحدى آراءه وافتراضاته إذا لم توافق عليها.
وبعد شهر من تولي هاريس ولايتها كنائبة رئيس، أصبحت لديها فرصة أكبر من أن ترتدي عباءة مونديل، للتأكد من أن الرئيس غير محصن من وجهات النظر المغايرة التي لا يرغب في سماعها، بل يطالب قادة العالم وكبار الشخصيات بالفعل، ببدء بناء علاقات مع هاريس، التي يعتقد كثيرون أنها قد تكون رئيسة في يوم من الأيام وهو ما عبرت عنه بصراحة سفيرة أوروبية قبل أسابيع.
طارق الشامي
اندبندت عربي