صوت مجلس النواب العراقي الأسبوع الماضي على (21) مادة من مواد قانون المحكمة الاتحادية العليا، وبقيت ثلاث مواد إشكالية تمثل «صلب» القانون، وهي المادة المتعلقة ببنية المحكمة (المادة 2) والمادة المتعلقة بالجهة التي يحق لها ترشيح أعضاء المحكمة (3) وأخيرا المادة المتعلقة بآلية اتخاذ القرار داخل المحكمة.
ظل قانون المحكمة الاتحادية عصيّا على التشريع خلال ال 16 عاما الماضية؛ فقد تم تشكيل المحكمة الاتحادية العليا القائمة حاليا بموجب المادة (44) من قانون إدارة الدولة المؤقت للمرحلة الانتقالية، وبموجب هذه المادة أصدرت الحكومة الانتقالية، التي كانت تملك صلاحية التشريع، القانون رقم 30 لسنة 2005 الذي أقر تشكيل محكمة اتحادية عليا، وتم تعيين قضاة المحكمة ورئيسها بموجب مرسوم جمهورية صدر في 1 أيار/ مايو 2005. ولكن الدستور العراقي الذي تم الاستفتاء عليه في العام 2005 تحدث عن محكمة اتحادية مختلفة تماما؛ من حيث بينتُها وصلاحياتها الموصوفة في قانونها، وكان يجب ان تكون هذه المادة الدستورية كافية لإلغاء مهام المحكمة الاتحادية القائمة حينها، بموجب المادة (13/ ثانيا) نفسه التي نصت على أنه « يعد هذا الدستور القانون الأسمى والاعلى في العراق، ويعد باطلا كل نص في دساتير الأقاليم أو نص قانون آخر يتعارض معه»! ولكن تواطؤاً جماعيا بين السلطات الاتحادية العراقية (رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ومجلس النواب) واستثمارا سياسيا في المحكمة القائمة عمد اليه رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي، أبقى على المحكمة القائمة التي تولت، دون أي تسويغ دستوري أو قانوني أو منطقي، الصلاحيات المنوطة بالمحكمة الاتحادية العليا الموصوفة في دستور العام 2005، رغم اختلاف بنيتها عن المحكمة الموصوفة فيه! مع استمرار ممارسة أعمالها الواردة في القانون رقم 30 لعام 2005 الذي تشكلت بموجبه، وهي الأعمال التي يفترض أنها لم تعد من صلاحياتها بموجب النص الدستوري (استمرت المحكمة الاتحادية العليا على مدى سنوات بممارسة اختصاص النظر في الطعون المقدمة على الاحكام والقرارات الصادرة من محكمة القضاء الإداري حتى العام 2013 على الرغم من ان هذا الاختصاص لم يرد في المحكمة الاتحادية الموصوفة في الدستور.
والمفارقة هنا أن موقع المحكمة الاتحادية نفسه يصنف هذه القرارات تحت عنوان: «قضاء إداري: قرارات صادرة وفق اختصاص سابق للمحكمة الاتحادية» ولا أحد كالعادة تساءل لماذا استمرت المحكمة الاتحادية بممارسة هذا الاختصاص خلال الثمان سنوات بعد الاستفتاء على الدستور (2005 ــ 2013) أو لماذا توقفت فجأة عن ممارسته! والمفارقة الهزلية الأخرى، هنا، أن المحكمة الاتحادية نفسها، كانت قد قررت اختصاصاتها بأنها «تشمل الاختصاصات المنصوص عليها في قانونها» فضلا عن الاختصاصات التي أقرها الدستور، (القرار 37/ اتحادية/ 2010) ولكنها لم تخبرنا لماذا «تنازلت» عن اختصاصاتها الواردة في قانونها بعد ذلك!
صدر في العام 2012 قانون مجلس القضاء الأعلى، الذي سعى للفصل بين المحكمة الاتحادية، ومجلس القضاء الأعلى، وقد تولى القاضي مدحت المحمود رئاستهما معا في سياق العبث الذي يعيشه العراق! لكن المحكمة الاتحادية أصدرت قرارها البات والملزم للسلطات كافة بعدم دستوريته (القرار 87/ اتحادية/ 2013) وكان واضحا أننا كنا أمام نُذُر حقيقية لصراع محتمل بين مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا حول طبيعة العلاقة بينهما، أو فيمن سيكون رئيسا للسلطة القضائية! وقد حرص قانون مجلس القضاء الأعلى البديل، رقم 45 لسنة 2017 ،على حذف المادة 3/ ثانيا التي وردت في القانون السابق والتي أعطت لمجلس القضاء الأعلى مهمة ترشيح رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا لضمان عدم نقضه ثانية.
إن تحول مؤسسات الدولة إلى «إقطاعيات» خاصة لأصحابها، وتحكم العلاقة الزبائنية بالدولة وتشريعاتها يجعل مشروع قانون كالذي يراد تمريره اليوم، لا علاقة له بمنطق الدولة
في العام 2019 تحولت العلاقة المتأزمة بين رئيس المحكمة الاتحادية، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، إلى صراع علني. وقد تدخلت مؤسسات الدولة نفسها لصالح أحد طرفي الصراع، و قد كان النموذج الواضح لذلك هو مقترح تعديل (المادة 6/ ثالثا) من قانون المحكمة الاتحادية العليا لتحديد أعمار قضاة المحكمة الاتحادية «دون تحديد حد أعلى للعمر إلا إذا رغب بترك الخدمة» إلى 63 عاما، والذي قُدم الى مجلس النواب في شباط/ فبراير 2019 بغرض الإطاحة بجميع أعضاء المحكمة الاتحادية القائمة وقد وقف رئيس مجلس النواب شخصيا خلفه.
ومن يقرأ بيان مجلس القضاء الأعلى بشأن رأيه في هذا المقترح الصادر في 20 أيار/ مايو 2019 سيكتشف حدة الصراع القائم! فقد ذكر البيان الذي أيد المقترح، أن السؤال الموجه اليهم من مجلس النواب «صحيح دستورياً وقانونيا» لأن المادة 3 من قانون المحكمة الاتحادية تعطي «مجلس القضاء الاعلى الاختصاص في ترشيح رئيس واعضاء المحكمة»!
ويأتي رد المحكمة الاتحادية على هذه المحاولة ليؤكد هذا الصراع من خلال قرار المحكمة رقم (38/ اتحادية/ 2019) الصادر في 21 أيار/ مايو 2019 الذي أفتى بعدم اختصاص مجلس القضاء الأعلى بترشيح قضاة المحكمة الاتحادية، وبالتالي عدم دستورية المادة (3) من قانون المحكمة الاتحادية العليا التي تعطي للمجلس هكذا اختصاص! ثم رد مجلس القضاء الأعلى بقرار مضاد، فقد أصدرت الهيئة العامة لمحكمة التمييز الاتحادية قرارها بالرقم 5/4 الهيئة العامة/ 2020 في 17 آذار/ مارس 2010، بعد جواز ترشيح المحكمة الاتحادية العليا، أو رئيسها، لأي قاض متقاعد أو مستمر في الخدمة القضائية بصفة عضو أصيل فيها او احتياط!
قلنا مرارا إن تحول مؤسسات الدولة إلى «إقطاعيات» خاصة لأصحابها، وتحكم العلاقة الزبائنية بالدولة وتشريعاتها يجعل مشروع قانون كالذي يراد تمريره اليوم، لا علاقة له بمنطق الدولة.
ويثبت هذا القانون، تحديدا في مادته الثالثة، المتعلقة بصلاحية ترشيح أعضاء المحكمة الاتحادية، مرة أخرى، أن «المشرع» يسعى لإرضاء طرفي الصراع، وتحويل المحكمة الاتحادية من «ملكية خاصة» لأحد طرفي الصراع إلى «ملكية مشتركة» بينهما! لقد نصت المادة 3 من مشروع القانون، التي لم يتم التصويت عليها بعد، على أن « تُرشِّح المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى، ومجالس القضاء في الأقاليم، في اجتماع مشترك، رئيس المحكمة الاتحادية ونائبه وقضاتها». وهذا يعني ببساطة أن «المشرع» ينتهك بصلافة عجيبة قرار المحكمة الاتحادية البات والملزم للسلطات كافة والذي يقرر عدم اختصاص مجلس القضاء الأعلى بترشيح قضاة المحكمة الاتحادية، وإن إعطاء مجلس القضاء الأعلى هكذا صلاحية ينتهك أحكام الدستور الذي حدد اختصاصات مجلس القضاء الأعلى بوضوح، وليس من بينها هكذا صلاحية! كما أنه ينتهك «بصلافة» قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز الاتحادية النهائي والملزم بعدم جواز ترشيح المحكمة الاتحادية العليا أو رئيسها لأي قاض متقاعد أو مستمر في الخدمة القضائية بصفة عضو أصيل فيها او احتياط. والمفجع هنا، أن «المشرع» لم يكلف نفسه مراجعة ما استقر عليه الفقه الدستوري، والنماذج الأكثر انتشارا عالميا، فيما يتعلق بهذه المسألة تحديدا!
المادة الثانية والمادة 12 من مشروع القانون التي لم يصوت عليهما بعد، تعيد النقاش حول «فيتو الفقيه» مرة أخرى، وما يتبع ذلك من أسلمة الدولة! إذ تنص المادة 2 مشروع القانون على أن تتكون المحكمة الاتحادية العليا من 11 عضوا، 7 قضاة، وأربعة من خبراء الفقه الإسلامي، وعضوان من فقهاء القانون. كما تتضمن المادة «بدعة» لا وجود لها في أية محكمة دستورية عليا في العالم أجمع، وهي أن يكون للمحكمة قضاة احتياط! فيما تنص المادة 12 على أنه «يشترط في الاحكام والقرارات الخاصة بدستورية القوانين والأنظمة النافذة» موافقة «ثلاثة أرباع المحكمة من خبراء الفقه الإسلامي! وهو ما يعين أن أي عضوين من خبراء الفقه الإسلامي يمتلكان صلاحية «النقض» لقرار الأعضاء التسع الآخرين في المحكمة! وهو ما يعني منح سلطة شبه مطلقة للفقيه تحاكي النموذج الإيراني! وهذا يعكس إصرار أطراف عديدة داخل مجلس النواب لتبني النموذج المتعلق بدور الفقيه في بنية المحكمة الاتحادية إذ تنص المادة 162 من الدستور الإيراني على (أن يكون رئيس المحكمة العليا وقضاتها «مجتهدين عادلين، وعارفين بشؤون القضاء» وكما هو واضح فان المادة تقدم صفة «المجتهد» أي الفقيه على صفة القاضي).
بذلك تكتمل المهزلة وتكشف الطبقة السياسية عن مطامعها في تحويل الدولة إلى إقطاعيات خاصة بمباركة جماعية!
يحيى الكبيسي
القدس العربي