تحولات في وضع الدول

تحولات في وضع الدول

نعيش في عالم يسوده القلق والخوف من جراء تردي حالة الدول وأوضاعها، هذا هو حال العالم العربي في وضعه الإقليمي الراهن، لكن الأوروبيين أيضاً قلقون وكذلك الأمريكيون قلقون بسبب الاقتصاد وكورونا وبسبب نمو اليمين المتطرف. في عصرنا الراهن تبرز قوى جديدة لفئات تسكن قاع المجتمعات وتشعر بالتهميش والعزلة. هذه الفئات مسلحة بالعنف وبشعارات الغضب تجاه النخب. فإن كان عدم الإستقرار ممكنا في الولايات المتحدة فهو حتما ممكن في عوالم كثيرة بسبب تغيرات في حالة الدول والاقتصاد.
من الواضح أن السياسة لم تعد كالسابق عندما كانت السلطة السياسية تملك مكونات القوة والسلطة والتأثير. في عصرنا الجديد نكتشف أن الدولة في أوروبا كما في الشرق العربي فقدت، بسبب نزيف اجتماعي وسياسي واقتصادي مستمر منذ عدة عقود، الكثير من مكونات التأثير التي ميزتها في السابق. كانت السلطة السياسية تجمع ببراعة ووضوح بين القوة ومكوناتها (تنفيذاً وتحقيقاً وقدرات) والسياسة بصفتها القدرة على تنظيم الأولويات وبناء الإجماع بهدف التنفيذ. هذه الحالة أنتجت قادة مؤثرين في الشرق الأوسط كما في العالم (الملك فيصل، الرئيس عبد الناصر، أيزنهاور وروزفلت، تشرشل وغيرهم).
لقد تغير العالم بصورة أساسية، فقد ضعفت الدولة وقيمتها في العالم بنسب متفاوتة في ظل ثورة المعلومات الواسعة النطاق، وفي ظل «ويكيلكس» وجوليان أسانج والربيع العربي والخصخصة في العالم والشركات العابرة للقارات وتنظيم «الدولة الإسلامية» وقبله «القاعدة» وغيرها من الظواهر. إن انتشار المنظمات المسلحة خارج الدول في العالم كله (دويلات المخدرات مثلاً في المكسيك وأمريكا اللاتينية) كما وفي الشرق الأوسط كما هو الحال في لبنان واليمن وسوريا والعراق وليبيا يرمز لما هو حاصل اليوم ولما هو قادم في المستقبل المنظور. ربما تكون انتخابات البلدية في المستقبل أكثر أهمية من الانتخابات الوطنية في الكثير من الدول الديمقراطية. هذه الأبعاد الجديدة، والقادم أكبر، تثبت طبيعة الفصل بين مقومات القوة ومقومات السياسة في واقع الدولة. كل ما وقع في العقد الأخير أفقد الدولة الكثير من قوتها ومكانتها وقدرتها على التأثير.
إن معظم الاقتصاد التقليدي كما نعرفه خرج عن إدارة الدولة في معظم دول العالم، وحيث ما زالت الدولة تدير الاقتصاد نجدها مثقلة بالديون والصعوبات. إن الدولة التي تتراجع أمام قوى ناشئة في المجتمع والأجهزة غير الحكومية والرأي العام تترك فراغاً كبيراً في العالم.

الأوطان في حاجة للمجتمعات كما والأفراد، ومن دون المجتمعات وممثليها ستستمر الدولة الفاشلة بالزحف على أغلب الأمكنة العربية

أما الدولة في العالم العربي فهي في مأزق أعمق من ذلك الذي تمر به أوروبا، الدولة العربية لم تمر بالمرحلة الديمقراطية، ولم تطور البيئة القانونية والسياسية أو حتى التعليمية التي تسمح لها بالتعامل مع المستجدات بمرونة. إن الدولة في العالم العربي مؤسسة ضخمة تسيطر على الاقتصاد والمجتمع المدني والجامع والشارع والبلدية والأقاليم وكل نشاط ممكن. وهذا جعلها تدمر التنافسية والمهنية في الاقتصاد كما في السياسة، وهذا يدفع لانتشار الفساد. لقد تحولت ممارسات الدولة العربية إلى عقبة أمام نشوء الطبقات الوسطى ذات التأثير. فمن خلال القوة الخشنة التي هي أسلوب الدولة العربية سيطر الأمن والجيش على الشأن الداخلي، كما وعلت مكانة السجون للمخالفين وسياط القضاء للمتمردين. القوة الخشنة التي سعت إليها الدولة العربية ساهمت مؤخراً في سقوط الكثير من الدول العربية في واقع الدولة الفاشلة.
في السابق كانت الدولة العربية في مجتمعاتنا تحتكر المعرفة والإعلام، لكن هذا الاحتكار سقط بصورة كبيرة، فالدولة الآن لم تعد تحتكر المعرفة، على رغم أنها تأخذ قرارات تتعلق بمنع كتاب وتجريم رأي، ولديها تلفزة وطنية، لكنها غير قادرة على التأثير في صياغة الرأي إلا في حدود قليلة. إن الاتجاه في المراحل المقبلة هو إلى مزيد من تأثر الناس والأفراد بما هو قادم من خارج الحدود، فقدرة الدولة على وضع سياج حول شعبها وحدودها لم تعد ممكنة كما أن قدرتها على احتكار الواقع الاجتماعي والسياسي لم تعد ممكنة أيضاً. وتتنقل التجارب والأفكار سواء كانت ثورية أم راديكالية، إسلامية أم ديمقراطية عبر الحدود. ستبقى الدول تصنع الكثير من القرارات لكن مع الوقت ستبدو تلك القرارات إعلانات لا تنجح في تغيير الواقع والتأثير على مجريات الأمور.
الدولة العربية ضحية عالم لم تتأقلم معه ولم تخطط له. وبينما الدولة ضرورة إنسانية في كل العالم، إلا أنها في العالم العربي في مأزق يزداد جدية، فالخرائط العربية الصامدة حتى اليوم بإمكانها أن تصمد بالفعل عندما تبرز في الإقليم تلك الحاجة للتوقف عن الإقصاء والانتهاك وإحتكار الاقتصاد. وبإمكان النظام العربي أن يتبع سياسة أكثر تركيزاً على حوار مجتمعي تشارك فيه كل القوى الفاعلة سواء كانت في السجون العربية أم خارجها أم في المنافي أو في الحكم. الأوطان في حاجة للمجتمعات كما والأفراد، ومن دون المجتمعات وممثليها ستستمر الدولة الفاشلة بالزحف على أغلب الأمكنة العربية.

د.شفيق ناظم الغبرا