في حدث قلّ نظيره في الأنظمة الشمولية، وقف الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي في بداية التأسيس للمرحلة الإصلاحية كشريك في السلطة، وأعلن في 14 ديسمبر (كانون الأول) 1998 تشكيل لجنة خاصة لمتابعة قضية الاغتيالات، بعضوية رئيس المؤسسة القضائية للقوات المسلحة علي يونسي، الذي أصبح لاحقاً وزيراً للأمن والاستخبارات، خلفاً لـ “قربان علي دري نجف آبادي”، والمسؤول التنفيذي في ديوان المجلس الأعلى للأمن القومي، علي ربيعي، ومساعد وزير الأمن ناصر سرمدي.
وحمّل خاتمي آنذاك وزارة الأمن والاستخبارات في الحكومة التي يترأسها، وكان يتولى إدارتها الشيخ دري نجف آبادي، المسؤولية عن عمليات الاغتيالات المتسلسلة التي شهدتها إيران، واستهدفت مجموعة من السياسيين والليبراليين والمثقفين والناشطين السياسيين.
أربعة اغتيالات
وعلى الرغم من اختلاف الآراء حول عدد الأشخاص الذين سقطوا نتيجة هذه الاغتيالات، تم التركيز على أربعة أشخاص هم داريوش فروهر، زعيم “حزب الأمة الإيرانية” وزوجته بروانه اسنكندري (قُتلا في 20 نوفمبر 1998) ومحمد مختاري ومحمود جعفر بوينده، وذلك بسبب أن المحكمة غير العلنية التي تشكلت حول اغتيالهم انتهت إلى توجيه الاتهام إلى عناصر من وزارة الأمن، وتحميلهم المسؤولية عن هذه الجرائم.
وفي حين أخرجت هذه المحكمة قضية مقتل معصومة مصدق، حفيدة الزعيم الإيراني التاريخي محمد مصدق من دائرة اختصاصها، إلا أن اعتراف خاتمي ورضوخ النظام لفتح تحقيق ومحاكمة مسؤولين كبار في وزارة الأمن، من بينهم مساعد وزير سابق ومستشار الوزارة حينها سعيد إمامي، إلى جانب المساعد الأمني للوزارة مصطفى كاظمي، ومسؤول جهاز العمليات أكبر خوش كوش، وآخرين مثل مهرداد عليخاني وعلي أحمدي، كلها عوامل فجّرت ما عُرف لاحقاً بأزمة الاغتيال السياسي، ودفعت كثيراً من الصحافيين واالناشطين السياسيين إلى التوسع في الاتهام وفتح ملفات قديمة سمحت للبعض بالحديث عن اغتيال 21 شخصاً، أوصل التحقيق في جرائم قتلهم إلى اتهام عناصر من وزارة الأمن وإصدار أحكام ضدهم، بينما توسع البعض في حوادث الاغتيال السياسي التي تُتهم بها أجهزة النظام، واضعين لائحة طويلة تصل إلى 300 عملية قتل واغتيال وقعت بعد عام 1987 واستمرت حتى العام 1998.
موقفان
وشهد تقاذف المسؤولية عن الاغتيالات تقديم سيناريوهات مختلفة تحاول إبعاد التهمة عن النظام وأجهزته، إذ اعتبر المرشد الأعلى علي خامنئي حينها أن المستفيد الأول هم أعداء الثورة والنظام، محاولاً التقليل من أهمية ما حدث بهدف إنهاء القضية وإقفال ملفها، في حين اعتبرت وزارة الأمن أن المنفذين هم عناصر عميلة لأجهزة استخبارات إسرائيلية وأميركية، وهي الرواية التي اعتمدتها الصحافة المحافظة، مضيفة أن الطمع والانحراف الأخلاقي والديني دفع هؤلاء إلى العمل على تشويه صورة الثورة والنظام وأجهزته.
أما خاتمي فالتزم بموقفه المصرّ على محاكمة الفاعلين مدعوماً من الصحافة الإصلاحية التي نشطت في تلك المرحلة، وتوسعت في التحقيق وتحميل المسؤوليات على رجالات النظام من أعلى الهرم إلى أسفله.
أما الدافع وراء استعادة هذه المحطة المفصلية من تاريخ إيران والحركة الإصلاحية، والتي فتحت الطريق أمام تأسيس جهاز أمني مواز لوزارة الأمن، ولا يخضع لاشراف الحكومة وإدارتها، فهو التشابه الكبير بينها وبين ما شهدته الساحة العراقية خلال السنتين الأخيرتين، وتحديداً عمليات الاغتيالات التي شهدتها المدن العراقية بدءاً من العاصمة بغداد، مروراً بالناصرية وميسان والنجف وكربلاء ووصولاً إلى البصرة، وهي عمليات استهدفت بشكل أساس ناشطين سياسيين ومدنيين ممن كان لهم تأثير كبير في حركة الاحتجاج، أو ما يعرف بـ “حراك تشرين” المطالب بالتغيير ومحاربة الفساد، وإنهاء المحاصصة الحزبية والمذهبية، وبناء دولة مدنية على أساس حقوق المواطنة تضع المصلحة العراقية أولاً، وقبل مصالح أي طرف خارجي حليف أو صديق، جار أو بعيد، عربي أو غير عربي.
إلا أنه يبدو أن المشهد في العراق يدار بالعقلية والآلية ذاتها التي أدير بها الموقف من الاغتيالات في إيران زمن خاتمي، إن كان في القرارات التي تصدر عقب كل عملية اغتيال، أو في الوعود التي تُطلق بعدها بضبط الوضع، وعن نيّات جدية لمنع استهداف الناشطين الذين رفعوا شعارات الإصلاح ومحاكمة الفاسدين والطبقة السياسية التي أطاحت بمؤسسات الدولية المدنية والأمنية والعسكرية والاقتصادية خدمة لمصالحها ونظام المحاصصة، وهي تلك الجماعات التي تسببت في انهيار الدولة والمجتمع على حد سواء، ومنعت الانتقال إلى بناء الدولة والمؤسسات على أساس من العدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأعاقت إعادة فرض سيادة الدولة وهيبتها بوجه الميليشيات وسلاحها المتفلت الذي لا يخدم سوى مصالحها وحصصها وتقاسمها للدولة وثرواتها.
عمليات اغتيال بارزة شهدها العراق، ارفعت وتيرتها على هامش عمليات القتل التي تعرض لها متظاهرو “تشرين” الذين سقط منهم أكثر من 500 شخص وجُرح الآلاف، إلى أن جاءت المحطة الأبرز مع اغتيال الباحث والناشط هشام الهاشمي، وما تلاها من اغتيالات للصحافي أحمد عبدالصمد والناشط تحسين أسامة الخفاجي والناشطة ريهام اليعقوب في البصرة، وصولاً إلى المحطة الأخيرة التي طالت جاسم حطاب والد المحامي المخطوف علي جاسب في مدينة العمارة بمحافظة ميسان.
عملية اغتيال جاسب أعادت فتح مسار عمليات الاغتيال التي تستهدف ناشطين مدنيين، في وقت كان العراقيون ينتظرون أن تخرج عليهم الحكومة بشخص رئيسها مصطفى الكاظمي للإعلان عن كشف الجهات المسؤولة عن عملية الاغتيال السابقة وتقديمهم إلى العدالة، إلا أنه يبدو أن الحكومة اكتفت بالمجموعة التي أعلنت توقيفها قبل نحو شهرين، وحمّلتها مسؤولية قتل ناشطين في البصرة، فيما تنتظر الاغتيالات الأخرى وعود الحكومة التي رضيت بإعلان تهريب قتلة الهاشمي إلى الخارج، من دون أن تحدد الجهة التي هربتهم أو التي تتحمل مسؤولية الاغتيال.
مصالح الميليشيات
وفي ظل الإشارات الكثيرة التي تحمّل حكومة الكاظمي جانباً من المسؤولية عن هذه الاغتيالات لجهة تقاعسها عن تنفيذ الوعود التي جاءت بها إلى السلطة، بخاصة في ما يتعلق بحماية الناشطين المدنيين والسياسيين، هل يمكن استبعاد دور الجماعات والميليشيات المحسوبة على إيران من الوقوف وراء هذه الاغتيالات أو الاستهدافات؟
سؤال تفرضه معطيات عدة تحكم مصالح هذه الميليشيات والجماعات، والخسائر التي قد تلحق بمصالحها أمام تنامي القوى المدنية والعلمانية الرافضة لها، وللطرف الذي يدعمها خارج الحدود العراقية، وقد يحمل ذلك على الاعتقاد بوجود توجّه لدى هذه الميليشيات لإرباك الساحة العراقية الأمنية، وإدخال مشروع الكاظمي في فرض هيبة الدولة واستعادة السيادة في مرحلة من انعدام الوزن والتوازن، كون هذا المشروع ينال بالدرجة الأولى من دورها ونفوذها، مما ينعكس سلباً على قدرتها في التأثير على القرار السياسي في العراق، ولأجل ذلك تحاول توجيه رسائل بالدم إلى الكاظمي، ومن ورائه إلى الطرف الأميركي، بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام استهداف نفوذها، وأنها ستنال من كل الذين تعتبرهم مؤثرين في تأليب الشارع العراقي ضدها وضد حلفائها.
وتذهب أوساط عراقية إلى الاعتقاد بأن الميليشيات التي تغتال الناشطين بدأت تستشعر قرب نهايتها أو تخلي إيران عنها، لذلك تعمل على إرباك الساحة الداخلية عبر استهداف الجهات التي أسهمت في تسليط الضوء على دورها السلبي والتخريبي، في عملية انتقامية تربك أيضاً الدور الإيراني الذي يرى صعوبة في التعايش مع حال عدائية ضده في العراق، خصوصاً في المدن الحدودية التي يعتبرها عمقاً استراتيجياً له، فضلاً عما في ذلك من محاولة لكسر تجربة وطموحات الكاظمي في التأسيس لمرحلة جديدة في تاريخ العراق الجديد، بعد نحو عقدين من فشل العملية السياسية على كل المستويات.
حسن فحص
الشرق الأوسط