الشعب العراقي وحيدا

الشعب العراقي وحيدا

تحدثت الأنباء، مؤخرا، عن اتصالٍ أجرته إحدى حكومات الدول العربية (لا نسميها) عارضة على الحكومة العراقية التعاون والتنسيق في مجالات عديدة، منها الأمن والخدمات. وكان يمكن أن يمر هذا الخبر كما يمرُّ غيره من أخبار النشاطات الحكومية ولا تكون له ارتدادات سياسية وإعلامية تعرقل هذه المبادرة. ولكن، قادة فصائل مسلحةٍ عراقية موالية لإيران شنوا حملة تشهير ساخنة، صاخبة، عاجلة، من أجل تطويقها، ونجحوا، فعلا، في إجبار حكومة مصطفى الكاظمي على أن تتباطأ في المضي في تنفيذها.

أكد مسؤول عراقي رفيعٌ حدوث ذلك، وحمّل الحكومات العربية الشقيقة، وخاصة دول الجوار، مسؤولية هذا الفشل، وذلك لأنها، كما قال، تأتي بعد فوات الأوان، بعد أن تسبب سلاح الميليشيات بفقدان الدولة العراقية المبادئ المهنية والواقعية والعقلانية والحرية في صياغة علاقاتها بدول العالم، وبعد أن أصبح المسلحون المغالون في موالاة الحاكم الإيراني هم أصحابَ الكلمة العليا التي تتحكم بحركة الحكومة ونشاطاتها الداخلية والخارجية إلى حد كبير.

حكومات الأشقاء عرب الجوار تقاعست وفضّلت أن تبقى على التل، وأن تترك شقيقها العراق يُختطَف ويُقصقص قطعة فقطعة، ويتساقط في أحضان الحرس الثوري

وقال، لقد كان سهلا على دول أشقائنا عرب الجوار أن تدخل العراق، ولكن في الأيام الأولى التي أعقبت الغزو الأميركي 2003، من خلال تقديم الخبرات والمعونات المادية والفنية للحكومة المركزية والمحافظات، في المجالات الخدمية والإنتاجية والاستثمارية التي كانت بحاجة ماسة وملحة إلى الدعم والمساندة في زمن الفوضى التي أعقبت سقوط النظام السابق، والخراب الذي لحق بأجهزة الدولة ومؤسساتها، والبنى التحتية كافة.

وكان ممكنا، لو فعلت ذلك، وفي ذلك الوقت العصيب، أن تكون موضعَ ترحيب وامتنان لدى الشعب العراقي، فتُؤسس لها علاقاتٍ ثابتة لا يمكن اجتثاثها بسهولة، حتى بعد أن أصبح العراق إيرانيَّ الهوى والإرادة والقرار.

ولكنها لم تفعل. ربما لأن حليفها الأميركي الذي كان في حالة تناغم وتفاهم وتعاون وتبادل خدمات مع النظام الإيراني لم يسمح لها باقتحام ملعبه الجديد والتشويش على مخططاته التي انتهت به إلى تسليم العراق، أرضا وشعبا وثروات، للإيرانيين.

ثم تقاعست حكومات الأشقاء عرب الجوار وفضّلت أن تبقى على التل، وأن تترك شقيقها العراق يُختطَف ويُقصقص قطعة فقطعة، ويتساقط في أحضان الحرس الثوري، ويتحول إلى سكين في خاصرتها هي قبل غيرها.

فصائل مسلحة عراقية موالية لإيران تستهدف المدنيين العراقيين

نعم، لقد أنفقت أجهزة مخابرات (بعض) تلك الدول أموالا طائلة في العراق، قبل الغزو الأميركي 2003، وبعده، ولا تزال، ولكن على نخبة من السياسيين الذين نصَّبوا أنفسهم، بدعمها المالي والسياسي، ممثلين وحيدين للطائفة السنية، والمحتكرين لحصصها في الحكومة والبرلمان.

وشئنا أم أبينا، فقد أصبح ذلك أهمَّ أسباب تناقص ثقة العراقيين بتلك الحكومات، خصوصا بعد أن تبين، بالأدلة المتعاقبة والفضائح المتلاحقة، أن بين حلفائها السياسيين السنة محكومين في زمن صدام حسين بجرائم نصب وسرقة وتزوير، أو معروفين بالانتهازية والابتزاز والاستعداد لخدمة أي أجنبي يفتح كيسه ويدفع.

ثم إنها لم تتخلَّ عن احتضانهم، حتى بعد أن شاهدت كبارهم يغادرون حصون عروبتهم (القديمة) وشعاراتها الثورية المنتفضة على الاحتلال الإيراني وذيوله، ويدخلون مضافة سفارة الولي الفقيه، ومجالس هادي العامري ونوري المالكي وقيس الخزعلي، ويصبحون حلفاء العدوّين اللدودين.

شيء آخر. إن القناطير المقنطرة من أموالها التي أنفقتها وما زالت تنفقها على أولئك الحلفاء لم يصل منها إلى جائعٍ سنيٍ واحدٍ سوى فُتات، ناهيك عن المحتاجين في المحافظات الأخرى، ولم تُعِد مهجَّرا أو نازحا أو لاجئا إلى منزله، ولم تمنع جريمة قتل أو اعتقال أو نهب أو اغتصاب يرتكبها أعداءُ العدالة والكرامة والإنسانية والدين.

فلو كانت، قبل أن يقع الفأس بالرأس، وقبل أن يتحول العراقي إلى مستعمرة إيرانية، قد وضعت أيديها بأيدي عراقيين وطنيين ديمقراطيين غير طائفيين لم يلوثوا أنفسهم بالمشاريع الإيرانية والأميركية، وليسوا من طائفة واحدة من طوائف الشعب العراقي، وساعدتهم على أن يصبحوا جبهة شعبية وطنية عابرة للطوائف والأديان والقوميات، وقوة رادعة قادرة على مواجهة الهجمة الدينية الطائفية وأدواتها المسلحة، أما كانت هي، اليوم، في كامل أمنها وسلامها، والعراقيون في أحسن أحوالهم، وأكثرَ عافية وراحة بال ورخاء؟

من تحصيل الحاصل أن عراقا مدنيا موحدا وحرا وآمنا ومزدهرا أنفعُ وأضمَنُ لأمن تلك الدول الشقيقة ومصالحها، وليس هذا العراق الممزق المشرذم المفلس الفاشل الذي ساهمت هي، عن قصدٍ أو عن جهالة، في تركه نهبا لسلاح الميليشيات التي حولته إلى خرابة يتوالد فيها الإرهابيون، ويترعرعون، ثم يعبرون الحدود.

سؤال، ألم تعلم مخابراتُها بأن سلطات الاحتلال الإيراني، طيلة أيام القتيل قاسم سليماني، وفي أيام وريثه إسماعيل قاءاني، كانت ولا تزال تُضاعِف رعايتها وحمايتها للسياسيين السنة أكثرَ من رعايتها وحمايتها لعملائها العراقيين الشيعة، ولا تمنح حصص المحافظات السنية الست إلا لهم، وحدَهم، في الحكومة والبرلمان، رغم فسادهم المفضوح والمكشوف، مقابل بقائهم ساكتين عن حملات التهميش والإهمال والتهجير والترحيل التي تقوم بها ذيولُها في محافظاتهم كل يوم، بل كل ساعة؟

لقد كان سهلا على دول أشقائنا عرب الجوار أن تدخل العراق، ولكن في الأيام الأولى التي أعقبت الغزو الأميركي 2003، من خلال تقديم الخبرات والمعونات المادية والفنية للحكومة المركزية والمحافظات

ثمّ، ألم تكتشف أن أموالها التي ترسلها إلى وكلائها السنة بذريعة تخفيف آلام أبناء محافظاتهم، يتم تهريبها إلى أربيل ودبي وعمان وبيروت ولندن وإسطنبول لتتحول إلى قصور وشركات وعمارات ومراكز تجارية، وإلى حفلات زواج وأعياد ميلاد باذخة أصبحت، بما نُثر فيها من أموال، فضائح تتناقلها الصحف والإذاعات والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، ليل نهار؟

وأخيرا، ها هي النتيجة، وها هم العراقيون اليوم. ينتفضون يوما، ويُقتلون ويُقمعون أياما، ويقدمون كل يوم وكل ساعة شهيدا بعد شهيد على أيدي الملثمين أبطال الدراجات والكواتم، وحيدين، لا شقيق ولا صديق.

العرب